ضد الدكتاتورية

بسام الهلسه

[email protected]

* من بين الصفحات العديدة التي سطّرها العرب في كفاحهم الحديث والمعاصر ضد الاستبداد، ومن أجل توسيع مدى الحرية والمشاركة الشعبية في توليّ وإدارة الشأن العام، ثمة صفحتان وضّاءتان لتجربتين كفاحيتين تكلَّلتا بالظفر: أولاهما شهدتها "سورية" في العام 1954م عندما أطاحت قوى الشعب الفاعلة بدكتاتورية "أديب الشيشكلي" العسكرية وأعادت النظام الدستوري والنيابي والحريات العامة التي عبثت بها انقلابات العسكر المتوالية منذ ربيع العام 1949م. والثانية شهدتها "السودان" في شهر أكتوبر- تشرين أول عام 1964م، حين أنهت الحركة الشعبية حكم الفريق "إبراهيم عبود" لتستأنف من ثمَّ الحياة الديمقراطية التي عطَّلها استلام الجيش للسلطة في خريف العام 1958م واستبداده بالتصرف بشؤون الحكم والبلاد.

* * *

 ذكرت هاتين التجربتين ليس لأنهما نجحتا فقط، بل لأنهما تجربتان وطنيتان مستقلتان قامتا مستندتين على القوى الذاتية للشعب في القطرين: سورية والسودان. وهو درس ينبغي لدعاة ومستوردي التدخل الأجنبي أن يستظهروه ويعوه إذا ما كانوا يريدون حقاً الحرية لشعوبهم وبلدانهم وليس إحلال احتلال أجنبي محل الدكتاتورية.

 كما أنه درس ينبغي تقديمه للمتقاعسين الذين يعلقون آمالهم على تدخل الجيش لتخليصهم من الدكتاتورية في بلادهم، مقرين بذلك بعجزهم عن استنهاض شعوبهم للنضال. وهذا لا يعني بالطبع أن لا تؤيد الجيوش الوطنية مطالب شعوبها –ففي التجربتين: السورية عام 1954، والسودانية عام 1964، آزرت وحدات من الجيش وعدد من ضباطه حركة الشعب الديمقراطية- بل يعني أن لا تترك المهمة للجيش الذي سيعيد ضباطه –على الأرجح- انتاج الحكم العسكري وإقصاء الشعب كما أظهرت معظم التجارب باستثناءات محدودة جداً.

* * *

 تتبدّى أصالة وتميّز التجربتين: السورية والسودانية في أن القوى المحركة لهما والقائمة بهما، كانت مدنية أهلية شاركت فيها أحزاب ونقابات وهيئات وشخصيات عامة ومناطق وقبائل وطوائف وشبيبة وطلاب...

 ومع أن دوافع وتوجهات عديدة حركت هذه القوى –كما هي الحال في كل الحركات العامة- إلا أنها تقاطعت عند هدف مركزي شكَّل نقطة اللقاء: إنهاء الديكتاتورية العسكرية واستئناف الحياة الديمقراطية. وهو ما تحقق في الحالتين بعد صراع مرير استخدمت فيه كل طرائق وأدوات النضال السلمية: التوعية والتحريض بالخطابة والكتابة والمحاضرات، المذكرات، التظاهرات، الاعتصامات، المسيرات، الاضرابات، وصولاً إلى العصيان المدني الذي دعا إليه مؤتمر "حمص" في سورية وأيده عدد من الضباط مع وحداتهم العسكرية، وإلى الثورة الشعبية في السودان التي أطلقت شرارتها تظاهرة اتحاد طلاب جامعة الخرطوم وتضامنت فيها القوى التقليدية: (الطائفية والقبلية والمناطقية) التي قلَّص نفوذها وهمَّشها الحكم العسكري، مع القوى الجديدة الصاعدة (كالإسلاميين والشيوعيين). وكان للنقابات دوراً مميزاً فيها، سنرى أنه سيتكرر فيما بعد عند المواجهة مع دكتاتورية "جعفر النميري" والإطاحة بها في ابريل- نيسان عام 1985م.

* * *

 ومع ملاحظة التباينات العديدة بين البلدين الشقيقين: سورية والسودان في جوانب شتى، إلا أنهما اشتركتا –فيما يخص تجربة النضال ضد الديكتاتورية- في كونهما كانتا قد استقلتا حديثاً (سورية في العام 1946م، والسودان في العام 1956م). وكانت نخبهما وقياداتهما المختلفة قد تمرَّست بالنضال ضد الاستعمارين الفرنسي والإنجليزي، وذاقت طعم الحرية والمشاركة عند الاستقلال، وتطلعت إلى الإسهام الفاعل في تقرير توجهات الدولتين الوليدتين اللتين كانت تمران في مرحلة انتقالية عاصفة طرحت فيها أسئلة واختيارات عديدة.

 وكان طبيعياً أن ترفض هذه النخب والقيادات التي حظيت كل منها بنفوذ خاص بها في مجتمعاتها، هيمنة فرد أو جماعة واحدة على الدولة وإقصاء الآخرين، لتفرض اختيارها وتوجهها على الشعب مستخدمة قوة الجيش الذي كان قد جرى تكوينه خلال الحقبة الاستعمارية.

لكن زجَّ الجيشين –السوري والسوداني- واستخدامهما في قمع منطقتي (جبل العرب في سورية، وإقليم الجنوب في السودان) إدى في القطرين إلى تأجج النقمة الشعبية المتّقدة، وسرّع من دفع الأوضاع نحو التأزُّم فالاحتدام الذي فاقمته محاولات الاستقطاب الإقليمي والدولي لكل من الدولتين ومشاريع جذبهما إلى المحاور القائمة آنذاك.

 وتميزت سورية بوقوعها في عين العاصفة حيث كانت ساحة وموضوعاً وهدفاً لصراع هائل ساهمت فيه قوى إقليمية ودولية عديدة. وإذ كانت اتفاقات "سايكس بيكو وسان ريمو" قد مزّقتها إلى أقطار ودول، فإن إقامة دولة "إسرائيل" وهزيمة الجيوش العربية في العام 1948م، كانت العامل القوي على طعن السوريين في كرامتهم بفقدان ما يعدونه جزءهم الجنوبي: فلسطين.

* * *

 نجحت حركة الشعب في الدولتين في الإطاحة بدكتاتوريتي الشيشكي وعبّود كما هو معروف. لكن القوى العديدة التي اشتركت في النضال والتي افتقدت للقوة المركزية القادرة على كسب الأغلبية وقيادتها، لم تتمكن من التوافق على رؤية وطنية جامعة تضمن توطيد وتطوير النظام الذي ناضلت لأجله. وبدل إدارة الاختلاف سلمياً في إطار دولة حديثة، عاد صراع الاستحواذ والإقصاء الفئوي ليندلع مجدداً فتبدَّد ما تم إحرازه.

 لكن استعادة ذكرى التجربتين في مساريهما وفي مصيريهما، ليست مسألة من مسائل الأمس الذاهب، بل هي مسألة من مسائل الحاضر الراهن. فدعوات: الحريات، والمشاركة الشعبية، والاختيار الوطني والقومي الديمقراطي قائمة تطرق أبواب عرب اليوم والغد بإلحاح.