نظام الأسد: قراءة في عوامل الانهيار

محمد عبد الرازق

اللافت للنظر في الواقع الذي تعيشه سورية في ظل نظام الأسد ( أبًا ، و ابنًا ) أن الشعب غدا رعية، و ليسوا مواطنين؛ و هذا ما استدعى وابلًا من النُّذر التي حلّت بكل من أراد أن يستعيد صفة ( المواطنة ).

 الأمر الذي جعل السوريين في عمومهم ينفضّون عن هذا النظام عندما أخذ يتجه إلى السقوط، و الزوال، سالكًا طريق الزوال، و الهلاك، من خلال أخذه بثنائية: الظُلم، و الفساد، التي جعلها الله قانونًا لا يتغير، أو يتبدل في هلاك الأمم و الشعوب.

 إن فهم أسباب الانهيار لـ ( نظام الأسد ) يستدعي منّا دراسة واقعه وفق طبيعة تطور أية مؤسسة من مؤسسات العالم؛ فمؤسسة الحكم هي في النهاية وظيفة إدارية محكومة بقوانين العمل المؤسساتي، التي تعتمد المراحل الثلاث الآتية:

1ـ مرحلة النشأة: وهي مرحلة يحدث فيها الكثير من الفوضى، و العمليات الارتجالية وصولًا إلى نظام مؤسسي يضبط العمل، و هذا ما كان في الأعوام (1970و حتى 1985) حيث رسخت الدولة الأمنية مرتكزاتها بشكل لا يقبل النقض؛ فقُمِع الاسلامُ السياسي و هُجِّر، و قمعت حركات اليسار المختلفة واعتقلت جلُّ كوادرها، و استبدل الأسد ( الأب ) الفكر الإسلامي السياسي ببديل صوفي يأمنه، و يطمئن إليه.

2ـ مرحلة الاستقرار، و الازدهار: وهي مرحلة لم تكن ناجحة تمامًا من جهة التنمية، و الإعمار؛ حيث انخفض سعر صرف الليرة السورية من ( 3إلى50) ليرة للدولار. في حين أنه كانت هناك ورشات لتنظيم البنى التحتية، و مد الطرقات، و استلام تمويلات و منحات خليجية، و منحات روسية تعليمة، و بناء المزيد من السكن الجماعي في المدن المركزية، واستمرت هذه المرحلة حتى عام 2004م، و انطلاقًا من المنهج الاشتراكي الذي تبناه النظام تمّ دعم الحصص التموينية، فشملت السوريين عمومًا؛ و بناء عليه لم تشهد سورية حالات مجاعة تذكر.

 إلاَّ أن أبرز مساوئ هذه المرحلة غياب الحريات السياسية بشكل كامل، والاستعاضة عنها بتنامي الحريات الدينية المهادنة للنظام، و المؤتمرة بتوجيهات مؤسساته الأمنية، و تمّ تدمير الطبقات الموسرة التقليدية، و استبدالها بشخصيات وصولية مرتبطة مع الأجهزة الأمنية، و العسكرية المختلفة.

 لقد جعل الأسد ( الأب ) الدولة السورية دولة لصوص، و فسدة؛ على أن يكون العقاب بالمرصاد لأي لص قرر أن يتعالى عن الموقع المرسوم له.

 لقد تخلى لهم عن موارد مؤسسات الدولة، و اكتفى بثروة واحدة له، و لأسرته، و أقاربه، و بسط نفوذه، و هي ثروة النفط التي لم تدخل قط في ميزانية أيٍّ من الحكومات المشكلة في عهده، و لفترة ما في عهد وريثه، وقسمها على النحو الآتي:

1- قسم ترفيهي مخصص لأسرته، و أقاربه.

2- قسم من أجل التسلح، لترسيخ معايير دولته العسكرية، و الأمنية.

3- قسم للتدخل السريع لمواجهة أيّ خطر اقتصادي مفاجئ يتهدد النظام.

 لم يكن الشعب السوري مرفهًا في هذه المرحلة؛ فمصادر الترفيه لديه محدودة جدًّا ( بضعة مطاعم، وعدد محدود من الفنادق). فسورية رغم أنها من أغنى البلدان في الموروث الثقافي، و الاثري في العالم إلّا أنها كانت من أفقر البلدان في المجال السياحي؛ لذا كان الفقير السوري لا يشعر بالفارق المادي الكبير مع الأثرياء، فكلاهما يعيش، و كلاهما لا يخوض في حديث السياسة، أو الاقتصاد، أو التفكر الحر، وكلاهما يمجِّد القائد الخالد، ويحتفل في مناسبة قيام الحركة التصحيحية في السادس عشر من تشرين الثاني من كل عام.

3ـ عصر الانحطاط: وهو العصر الذي قضت فيه السلطة الأمنية على كل المعارضين، كما قضت فيه على كل حركات المجتمع المدني، و بادرت لعمليات خلق مكونات مدنية خاصة بها، مكرسة تجربة سوزان مبارك، و مؤسسة القذافي الخيرية، كما ابتلع بعض مدللي عائلة الأسد اقتصاد الجمهورية العربية السورية، و قرروا الانفتاح الاقتصادي على اقتصاديات متفوقة عليهم كالاقتصاد التركي؛ مما سبب انهيار الطبقة الوسطى السورية، وانهيار آلاف ورشات العمل؛ فتحولت الصناعة الحلبية، و الدمشقية الى دكاكين تصريف للمنتجات التركية، و الاسرائيلية المستثمرة في تركيا.

 والغريب أن النظام لم يطور خطابه الإعلامي والتعليمي بما يتوازى مع تطورات الاقتصاد، و افتتاح بورصة دمشق، فأدى هذا الأمر إلى اتساع الفجوة الثقافية والمعرفية الاجتماعية بين أفراد المجتمع؛ مما ولَّد احتقانًا لا سابق له؛ فكانت أية شرارة اجتماعية قادرة على أن تفجر المجتمع، و تفتِّت المؤسسة الحاكمة أو تهشمها.

 يجب على أية أمة، أو مؤسسة في العالم تريد أن تنهض من جديد أن تلتزم بقوانين عمل المؤسسات، و أن تعرف أيّ نوع من السلوك الذي ستسلكه كي تخرج من أزمتها وفق الأنماط الآتية:

1ًـ مؤسسات تقوم بعملية تأهيل لعناصر المؤسسة، و تدارك الأخطاء، و ذلك من خلال:

 أـ فصل العناصر المسيئة.

 ب ـ تحويل العناصر القيادية المتعنتة، و المتشبثة بالسلطة إلى خبراء، أو حكماء للدولة ( مجلس شيوخ)، أو رموز وطنية.

 2ً ـ مؤسسات تقوم بعملية ترميم على جسمها، و ذلك من خلال:

أـ حل المؤسسة بشكل كامل، والبدء بتأسيس أخرى جديدة بالتعاون مع عناصر منتجة تعتمد نظامًا داخليًا يتيح لها التطوير، و التحديث فيها.

ب ـ البقاء على المؤسسة القديمة، و تركها حتى تتفكك، مع تشجيع الانشقاق، و البدء بتأسيس مؤسسة أخرى جديدة.

 3ًـ مؤسسات تدير ظهرها للواقع، و ترفض التأهيل، أو الترميم: هذه المؤسسة ستنهار حكمًا، ولكن خطورة عمل هكذا مؤسسات أنها تطمث كل إنجازاتها في النهاية؛ لان الفئات التي كانت مستفيدة من خدماتها ستتصرف بعقلية انتهازية بحتة، فهي ستنتظر وصول مؤسسات أخرى لمناطقها الجغرافية كي تملأ الفراغ التي شغلته المؤسسة السابقة، وقد تسعى لإيهامها بأنها لن تنجح في هذه المنطقة بدونها، وفي حال رفضها ستسعى لعرقلة عملها، و الحؤول دون نجاحها، و مناصبتها الخصومة و العداء.

 وفق ما تقدم نستطيع التعرف على طبيعة عمل منظومة الحكم في نظام الأسد:

 تقدر قوة أية مؤسسة بمدى قدرتها على أن تطيل عمر فترة الاستقرار والازدهار، ولكن عندما تصبح قنوات الفساد في هذه المؤسسة جزءًا لا يتجزأ من كينونة عملها، يجب على القائمين على هذه المؤسسة أن يتداركوا الأمر، ويعفوا قسمًا كبيرًا من هيكلها، و يأتوا بكوادر مسؤولة وقادرة على العمل، إلّا أن نظام الأسد قد فعل عكس ذلك تمامًا؛ فبعد أن اعترف الرئيس الأسد ( الابن ) بأن الدولة السورية تعيش الفساد، لم يغير أيًّا من الوزراء السياديين؛ لا بل أبقى على رئيس الحكومة محمد ناجي عطري في سبعة تعديلات وزارية متوالية، و أبقى على قادة الأجهزة الأمنية الذين هم رأس فساد الدولة والحكام الحقيقيون لها.

 من هنا يظهر الرئيس الشاب رئيسًا فاشلاً بكل المقاييس؛ فهو لم يستطع أن يقوم بعملية تصحيحية لفساد دولته؛ لأنه كما يبدو كان مستفيدًا من هذا الفساد. فعندما تدخل صهره العميد آصف شوكت ( الذي يرى من قابله أنه رجل يمتلك ذكاءً سياسيًا مقارنة بعائلة الأسد ) أتى الأمر بإقصائه عن شعبة المعلومات العسكرية، فذهب في إجازة اختيارية إلى فندق أفاميا في مدينة اللاذقية لعدة أشهر، ولحسن حظه أنه زوج بشرى الأسد، و إلاّ لكان قد انتحر كما يحدث عادة مع كل وزراء الحكومة المغضوب عليهم كمحمود الزغبي، وغازي كنعان.

 اندلعت الأحداث في سورية فاستعان النظام بأعتى رجاله الأمنين، و كان منهم آصف شوكت، و تأسست خلية الأزمة، وتمّ تقسيم العمل على شقين:

1ـ عمل أمني: بقيادة خلية الأزمة التي يرأسها هشام بختيار ظاهريًا، في حين كان آصف شوكت رئيسها في الظل.

2ـ عمل سياسي: بقيادة أسماء الأسد، و مؤسساتها التي اتخذت على عاتقها السعي لاستقدام خبراء لتعديل الدستور وبعض القوانين الإدارية. و ترك للرئيس الشاب أن يظهر في وسائل الإعلام بمظهر المتلقّف للمبادرات الشعبية من خلال ما سمي بلقاء الوفود الشعبية، لفهم وجع الشعب المنتفض!.

 لم تستطع أسرة الأسد تحمّل الضغوط السياسية هذه؛ فعادت لطبيعتها الأمنية الشرسة ثانية، وعلى ما يبدو أنها اصطدمت مع خلية الأزمة الأمنية، تلك التي كانت تتعاطى مع انتفاضة السوريين بنوع من العنف المعتدل، و فجأة تم تصفية خلية الأزمة برمتها، و سارع النظام إلى اتهام الغرب الإمبريالي بالأمر، و لكن الكثيرين استغربوا الحدث؛ لأنه تمّ بدون أصوات انفجارات مدوية، و في مربع أمني شديد السرية، و لا يستطيع اختراقه إلاّ مقرب أول من أسرة الأسد.

 لا يعنينا كثيرًا معرفة الفاعل، ولكن من المهم أن نفهم أن القضاء على هذه الخلية قد أنهى فترة السلطة الأمنية ( السورية )، وحولها إلى السلطة الأمنية ( الإيرانية )؛ وهنا انتهت دولة سورية الأسد، و ظهرت دولة قاسم سليماني.

 لعله من نفلة القول: إن المؤسسة الإيرانية أذكى بكثير من أسرة الأسد، و هي تريد في البداية مصلحة إيران وليس مصلحة سورية، و أوضح دليل على ذلك أنها تجاوزت مباشرة مرحلة ( إقالة العناصر المسيئة، ولم تجعل رئيس الدولة في منصب رفيع فخري، و تنقل صلاحياته إلى رئيس الوزراء )؛ بل على العكس من ذلك انتهجت سياسة تقسيم الدولة السورية على قسمين:

1ـ قسم خاضع للدولة السورية: و قد سعت لأن يزاول أعماله بطريقة إدارية اعتيادية، و وزعت الجيش على أطرافه لحمايته من أي اختراق، و في حال حدوث اختراق له تقوم بتدميره بشكل كامل، وفي كل فترة راحة سياسية دولية له كانت تطلق العنان لتعقب النشطاء المعارضين المقيمين فيه؛ مما دفع غالبيتهم للهرب نحو الخارج كلاجئين، أو جعلتهم ينضمون للمعارضة التي تبرر عمل الجماعات المسلحة، و تركت بعض المعارضين الهرمين كواجهة تبرز وجود معارضة شكلية لا تأثير لها على الارض، و لا مانع كل فترة أن توجه لها بعض الصفعات.

2ـ قسم خاضع للمعارضة المسلحة: إنه على الرغم من عفوية العمل المسلح في عموم سورية، إلا أن هناك أطرافا سياسية تجاوبت مع الرغبة في عسكرة المجتمع السوري، وهي تسعى في ذلك إلى أمرين تجاه نظام الأسد:

أـ الثأر: وهدفه إذلال النظام بكل رموزه، سواء أكانت سُنّية، أو علوية، أو غيرها من الأقليات المستفيدة ورجال الأعمال مرتبطين عضويًا بالنظام.

ب ـ كسب الشعبية الاجتماعية: و يشمل ذلك أطرافًا في المعارضة في الخارج، و لا سيّما تيارات الإسلام السياسي ( الإخوان، السلفيون، التحريريون ) الذين تآكلت شعبيتهم الممنهجة بعد حملات قمعية قاسية طالتهم في عهد الأب؛ و عليه فإنها وجدت في عسكرة المجتمع السوري فرصة لإيجاد قواعد لها جديدة ضمن فئات المجتمع، تجعلها القوة السياسية و العسكرية الأولى في المجتمع في حال انهار النظام، و الجيش كما حدث في العراق بعد حرب 2003م.

 لقد أدرك المخطط الإيراني هذه المعادلة، فسعى لأن يشرذم القوى المنتفضة نظام الأسد، فابتدع ثقافة الإفراج عن الإسلاميين المحسوبين على التيار السلفي، سواء من سجون الأسد، أو من سجون المالكي، الأمر الذي مهّد لظهور تنظيم الدولة الإسلامية ( داعش )؛ فتنامت قوتهم لدرجة باتوا فيها المسيطرين على مساحة جغرافية كبيرة من سورية، ثمّ العراق لاحقًا، في حين أن بقية الجماعات المسلحة الأخرى: الكتائب الإسلامية، حركة حزم، الفرقة 13، جبهة ثوار سورية، النصرة، .... موزعة في أماكن متفرقة.

 إن هذا الواقع لم يساهم به الإيرانيون وحدهم، بل كان نتيجة لجملة استراتيجيات دولية، من أبرزها:

1ـ حل المشكلة القومية الكردية: جميع المجريات توضح تماما رغبة دولية بان يكتسب الاكراد وطن قومي خاص بهم ضمن الحدود للعراق، و سورية، يضمن فيه حقوق الأقليات القومية، و الدينية ( اليزيدية، الكاكائية، المسيحية، الأشوريين، السريان، الكلدان، الصابئة ) ضمن الدستور؛ و عليه كان هجوم تنظيم الدولة مبررًا قويًا لتسليح الكرد العراقيين تسليحًا نوعيًا لا يمتلكه الجيش الطائفي في العراق. فالغرب يرغب بدولة علمانية على حدود إيران ( الإسلامية )، و تركيا العلمانية.

2ـ تفتيت القدرات الكيمائية السورية: التي تمثل تهديدًا حقيقيًا على الجارة الجنوبية لسورية، و لا سيّما بعد تسريبات بوقوع بعض مفرداتها في يد تنظيم الدولة بعد الاستيلاء على مطار الطبقة، و القطع العسكرية الأخرى في محافظة الرقة، الأمر الذي يعني وصولها إلى مافيا السلاح الدولية.

3ـ تفتيت ترسانة الصواريخ السورية وسلاح الجو: فذلك يشكل تهديدًا على تلك الجارة، التي تمتلك أهمّ لوبي مؤثر على البيت الأبيض، و على الكرملين.

4ـ القضاء على أبرز مقاتلي حزب الله اللبناني: المدرج بقسمه العسكري على لائحة الإرهاب الدولية، في معارك حرب العصابات القائمة في سورية.

 إن هذه الاستراتيجيات الأربعة دفعت نحو تأخير الدعم الدولي للجناح السياسي للمعارضة، مما ولد هوة شاسعة بينه، و بين الجناح المسلح للمعارضة، ومع توالي الوقت تقاسم التيار المسلح المعارض عدة اتجاهات:

1ـ اتجاه يصعب عليه أن يخفي ولاءه لأجهزة الاستخبارات الإقليمية و الدولية.

2ـ اتجاه آخر يتلقى دعمًا ما من تيارات الإسلام السياسي ( السلفي، و التحريري، و الإخواني ).

3ـ و اتجاه ثالث ( كبير نسبيًا ) يمثل شريحة من اللصوص والمرتزقة باتوا يؤسسون جماعات مسلحة مستغلين حالة الفوضى العارمة، وباتوا يلقبون أنفسهم بأسماء الصحابة، و رموز دينية إسلامية؛ قناعةً منهم أن السلطة الدينية حتى و إن كانت صورية فهي حقيقة تحمي سرقاتهم، و هم بدلًا من أن يخضعوا للسلطات القانونية التي ابتكرتها المعارضة السياسية باتوا يؤسسوا محاكم شرعية خاصة بهم يرأسها شيخ، أو شاب منتحل العمل الديني.

* الحقبة الأميركية ونهاية الدور الإيراني:

 صحيح أن إيران تتميز بحنكة سياسية عالية على عكس حكومات دول منطقة الشرق الأوسط، فهذه الدولة قررت دعم الشيخ روحاني المعتدل ليرأس الحكم، رغم أن سلطة المحافظين في الانتخابات الإيرانية كانت في أوجها، و كما يبدو أن مرشد الثورة أدرك بعد الربيع العربي، و الثورة الخضراء في إيران أنه بحاجة إلى خبرات الاعتدال لتقود المرحلة سياسيًا.

 و هي لما أدركت عدم جدية البيت الابيض في لمعالجة الملف السوري كما حدث في ليبيا ومصر، كلفت الحرس الثوري الإيراني بمتابعة هذا الملف، و كان من أبرز إنجازاته إغراق حزب الله في المستنقع السوري، وتجييش النزاع السني ـ الشيعي في المنطقة، و هذا الأمر يناسب حكومة طهران الدينية القوية، و يبرر وجودها أمام الشيعة في العالم، و يهمش من الانتقادات لها في مجال حقوق الإنسان، وقمعها للنخب العلمانية الإيرانية.

 إلَّا أن الأمور لا تسير دائمًا كما يشتهي الإيرانيون، فولاية الرئيس الاميركي أوباما ستنتهي في العام 2018م، ولا يمكن أن يسمح الحزب الديمقراطي لأن يبدو الأسد، و من ورائه قاسم سليماني منتصرين أمامه، فهذا سيعني خسارتهم الانتخابات القادمة أمام أي مرشح جمهوري حتى و إن كان ضعيفًا؛ فالشعوب تعشق المنتصر، و تشيح عن الخاسر.

 لقد استطاع الأمريكيون، والغربيون المتحالفون معهم أن يحققوا بتريثهم في الملف السوري النقاط الآتية:

1ـ تدمير السلاح الكيمائي.

2ـ تهشيم الجيش السوري، وضرب الكثير من دفاعاته الجوية.

3ـ ضمان مديونية طويلة الأمد في حال بدأت ورشات إعادة الإعمار في سورية.

4ـ قتل أعداد كبيرة من حزب الله، وضمان كراهية كبيرة من العرب لهذا الحزب ولأمينه العام.

5ـ تجميع عدد كبير من الجهاديين في سورية، و البدء الممنهج بعمليات تصفيتهم، و هذا أمر يحقق خطاب القسم للرئيس أوباما الذي وعد فيه بمحاربة الإرهاب.

6ـ سحب الجنود الأمريكيين من المنطقة، و ضمان ضرورة وجود القواعد الأميركية في هذه المنطقة، و بمباركة من الدول التي كانت تعادي الولايات المتحدة.

7ـ جعل شعوب العالم تتخوف بشكل واضح من الإرهاب، و لاسيّما بعد اقترابه من حدود أوروبا من سورية المجاورة لهم؛ الأمر الذي يستدعي تحالف دولي عسكري، و أمني يقلل من الإنفاق الأمريكي على هذا الملف، و يحمل أعباء كبيرة في هذا الملف على الدول الأعضاء في هذا الحلف.

8ـ ضمان كراهية المسلمين للتطرف، و سعيهم للبحث عن خيارات سياسية، و دينية تبعد عنهم هذه التهمة.

9ـ إدراك الشعوب العربية أن أولويتهم ليست في محاربة إسرائيل فقط، بل في تطوير مؤسساتهم ليصبحوا شعوب منتجة للحضارة وليس مستهلكة لها فقط، فدولة تركيا تتخاصم و إسرائيل سياسيًا إلّا أنها تتعاون معها في الأمور الاستراتيجية والتنموية؛ رغم أنها دولة مسلمة وحكامها من قادة الإسلام السياسي في العالم.

10ـ إشعار حكومات السنة النفطية أن سندها الوحيد هو الولايات المتحدة، وإلَّا سيوجهها الخطر الإيراني، أو خطر تنظيم الدولة.

11ـ ضمان كراهية الدول السنية لروسيا، والصين و مصالحهما في المنطقة، مما يجعل أولوية الجهاد الإسلامي في حال رحيله عن العراق، و سورية أن يتحول نحو القوقاز، أو آسيا الوسطى ( إيران، الصين )؛ و بهذا تكون الصفعة الروسية ـ الصينية في مجلس الأمن لأمريكا قد ردت، و بقوة.

 إنّ النقاط سالفة الذكر بمجملها تدلل أن الأمريكيين باتوا يعدون سكينهم للتقطيع، و هذا الأمر أدركه الإيرانيون بعد الضغط الأميركي لتنحي المالكي عن حكم العراق، و هو الأمر رافقه إبعاد الجنرال قاسم سليماني عن ملفات المنطقة، و المجيء بعلي شمخاني ( وزير الدفاع السابق ) بديلاً عنه، وتسليم الملف كاملاً إلى الخارجية الإيرانية المرنة، مما يعطي انطباعات جديدة قد نلمسها في الفترة القادمة من، أبرزها:

1ـ تخفيض حزب الله لوجوده في الداخل السوري، و نشر قواته فقط على الحدود السورية اللبنانية، و بالتعاون مع الجيش اللبناني.

2ـ تحالفات سياسية جديدة في لبنان قد تجمع ( جعجع، و السيد حسن، و الحريري، و جنبلاط ) في خندق واحد، عنوانه بقاء دولة لبنان دون تطرف، وسيُدعم هذا الملف أمريكيًا، و فرنسيًا.

3ـ انسحاب قسم كبير من الميليشيات العراقية من الشوارع السورية، و بقاء قسم قليل منهم تحت رعاية رجال أعمال النظام كمقاتلين مأجورين.

4ـ تطبيق حظر جوي جزئي في سورية، و تحديدًا في الشمال السوري، و هو ما تناقلته وسائل الإعلام من محادثات الرئيس أردوغان مع أوباما في قمة الناتو في ويلز.

5ـ قصف مقرات تنظيم الدولة في سورية، و تقوية الجيش الحر عبر دعمه ماليًا، و لوجستيًا، و تفتيت الكتائب الإسلامية، و ضمان انضمامها لهذا الجيش الذي سيحمل علم الاستقلال بدل من رايات التوحيد، و قد يساهم الجيش التركي ميدانيًا في هذه المعارك مع مجموعات برية عربية.

6ـ تقوية العشائر السنية العراقية، و تفعيل وجودها السياسي في الحكومة العراقية المشكلة برئاسة حيدر العبادي؛ كي تكون رأس الحربة في تدمير تنظيم الدولة، و دفعه ليترك ثروة النفط والغاز.

7ـ بعد تدمير ما يمكن من تنظيم الدولة العسكرية في العراق، من المرجح أن تنتقل القيادة السياسية للداخل السوري، و تباشر من هناك توسعها ضد نظام الأسد، على أن يرافق ضربات جوية ضد المضادات الجوية للنظام، مبررة بقرار مجلس الأمن المدرج تحت الفصل السابع؛ فنظام أسد كان يشتري النفط والغاز من تنظيم الدولة، فهو أحد ممولي هذا التنظيم الذين تشملهم العقوبات الأممية.

 من المؤكد أن هذا الضغط العسكري تجاه النظام لن تمنعه روسيا، التي فككت في شهر آب الفائت صفقة بطاريات إس 300، التي كان يفترض إرسالها إلى سورية،؛ ممّا يعني أن الغطاء الدولي سيرفع عن الأسد الشاب، و يدفعه إمّا للرحيل، أو لملاقاة مصير مهين، كما حلّ بالقذافي، أو صدام حسين، فالأسد شريك غير موثوق أمام المجتمع الدولي.

 وفق هذا التصور، و وفق التقسيم لمؤسسة الدولة السورية الذي قام به الحرس الثوري الإيراني، ستنتقل إدارتها بعد لك إلى الأتراك بدعم من الناتو، وسيكون مقر المؤسسة الجديدة في الشمال السوري على الرغم من فشلها السابق؛ إلّا أنها ستكون مدعومة هذه المرة بشكل كبير يضمن نجاحها في المستقبل.

 و ربما ستدار هذه المؤسسة بالتعاون مع جزء من جسم النظام السابق وفق تسوية سياسية يقتنع بها الطرفان، بعد إبعاد الأسد كما أشرنا، بالطبع لن تكون هذه المرحلة القادمة وردية، و لكنها مرحلة ضرورية في مخاض بناء مؤسسة الوطن المدمر.