ما الذي يستطيعْ المنطق تقديمه للسوريين ؟!

د. حمزة رستناوي

[email protected]

قد يكون من قبيل مغامرة , أن نرجع إلى علم المنطق في قضيّة اشكالية و معقّدة كالثورة السورية , المنطق هذا العلم البارد المزاج و ربّما البليد!  ما الذي يستطيع تقديمه لنا -نحن السوريون - في مخاضنا الأصعب فيْ التاريخ المُعاصر ؟!

هل سيشكّل المنطقيون المشتغلون بالمنطق , كتيبة تقاتل في صفوف الثورة السوريّة لتحقيق شعار (الله - سوريا -حريّة و بس ) و الخلاص من الاستبداد ..أم أنّها ستنضم الى الجيش العربي السوري في حفاظه على وحدة الدولة السوريّة , و التصدّي للمؤامرات و للإرهابيين ؟!

أم أنهم سيضعون أنفسهم تحت تصرّف حملة تبيض المجازر و تلميع صورة الديكتاتور الأسدي ؟!

أم أنّهم سيبايعون الأمير السلفي و يتوبوا عن زندقتهم  ؟!

 أم أنّه سينضم إلى منطق الأمم المتحدة و جماعة  القبّعات الزرق , الذين لم يُسمحْ لهم أصلا بالذهاب  إلى سوريا ؟!

علم المنطق بشكل عام يدرس القواعد العامة للتفكير (الصحيح) و لا يهتم كثيرا بالجزئيات لنفسها ..هو يسعى للبحث و تطبيق صيغ قانونية عامة , و هذا ما أظنّه مفيدا  من جهة تقديم مقاربة عامة لقضية استهلكتها الأحداث و التفاصيل كثيراً , بما قد يحجب الصورة الكلّية . فمثلا بالنسبة لسكان قرية كردية في الشمال السوري تتعرَّض لهجمات من تنظيم  الدولة الاسلامية " داعش "   قد يكون من الصعب لهم بناء تصوّر عام عن الثورة السورية و القضية السورية بمعزل عن وضعهم الخاص , و مصيرهم هم بالذات..الخ  و هذا أمر مفهوم جدّاً. و كذلك على سبيل المثال السوري الذي تعرّض للتعذيب في أقبية النظام الأسدي قد يصعب عليه بناء تصوّر عام و سياسي شامل , و بمعزل عن التجربة القاسية التي تعرّض لها و الرغبة بالانتقام . و كذلك المواطن السوري الذي تعرّض للأذى من قبل جماعات تكفيرية بناء على خلفيّة الانتماء العقائدي..سيكون على الأرجح حبيس تجربتهِ متأثرا بخصوصيات وضعه.

علم المنطق علم معياري عموما يزوّد مستخدميه بمهارات التفكير النقدي , و هو يزوّدهم بتقنية المُعاين الخارجي , و مراقبة القضايا المطروحة من خارجها , من دون التورط فيها عاطفياً , أي أنّهُ ينمّي مَلكة التفكير المنطقي , و العقلاني , و هو ما نحتاجه في زحمة المواقف و السلوكيات القائمة على الانحياز العاطفي وردّاتْ الفعل .

و سأتناول المنطق الأرسطى بالخاصّة كمنطق صوري Formal Logic    يهتم بمُعاينة انسجام الفكر مع نفسه , و ليس بالمعنى العام لهذا المنطق من حيث اعتماده على الأسس الفكرية و الفلسفية باعتباره منطق جوهراني يستند الى مقولة الجوهر , و يرى وجود تمايز جوهراني بين الكائنات.

الحجج الخاطئة تنجم إمّا عن مُعطيات غير صحيحة ..و هذه خارج اطار بحثنا بالخاصّة , و إما عن وجود معطيات صحيحة , ولكنْ تكون الحجّة و المحاكمة المنطقية غير سليمة.

و قبل المضي في بحث المغالطات المنطقية في الخطاب السياسي السوري سوف نعرّج على قضية المُعطيات ..و ما نطلق عليه برهان الحدوث. فمنذ البداية , ما قبل الثورة نحن أمام دولة تحكمها سلطة استبدادية , يديرها نظام شمولي ..يتحكّم بالإعلام و يحتكر مصادر و حركة المعلومات , و قد تفاقم هذا العيب مع اندلاع الثورة , لدرجة أن الاعلاميين الشباب الذين كانوا يوثقون الحدث  كانوا  يخضعون لعقوبات قاسية و وحشية ربما تتجاوز ربّما عقوبة المقاتلين. و إضافة الى ذلك كانَت كوادر الاعلام المواكب للثورة في معظمها من الهواة  غير المختصين و يعملون في ظروف بالغة الصعوبة , و كذلك وجد بينهم من كانوا منحازين إيديولوجيا , يمارسون الفعل الاعلامي في اطار صراع كسر عظم...الخ . و غنيٌّ عن القول أن النظام السوري لم يكنْ ليسمح بتواجد جهاتْ اعلامية أو حقوقية أو أممية ذات مصداقية حيادية نسبياً  لتقوم بالتوثيق.

ما قصدتهُ أن ضعف توفّر المعلومات الموثّقة نسبياً و ضعف  إمكانية اختبار برهان الحدوث , سوف يعطي مساحة  أكبر للتعويل على صوريّة البرهان , و أساليب المُحاججة ..و قد يكون برنامج الاتجاه المعاكس على قناة الجزيرة خير مثال على هذا النمط في الخطاب الجِدالي - و ليس الجدلي - المليء بالمغالطات المنطقية.

هذا النمط من الخطاب الجدالي ينطلق من النتيجة و يسعى لتدعيمها بالحجج و الأسباب , أي أنه تفكير مقلوب تبريري. و التبرير المنطقي هو إحدى الآليات الدفاعية – المعروفة جيداً في علم النفس - و التي يلجأ اليها الفرد عبر تفسير السلوك الخاطئ بأسباب منطقية.

إن نقص المعطيات الواقعية أو تجاهلها أو التشكيك المُطلق بها  أو حتّى تزويرها سيزيد الاعتماد بالتناسبْ على المحاججة  المنطقية الشكل , و هذا  بحدّ ذاته اشكالية , تجعل أي حوار أو بحث في الثورة السورية و القضية السورية , جسد فارغ معلّق في الهواء.

فعلى سبيل المثال مجزرة الكيماوي التي حدثت في ريف دمشق آب  2013 , إنّ انكار حدوثها أو نسبتها الى قوات المعارضة و الثوّار هو تقديم لمُعطى غير صحيح و تزوير للوقائع , و كذلك مجزرة الحُولة في أيار 2012 م  ..و قد ذكرت هاتين المجزرتين دون غيرهما من  سلسلة المجازر , لوجود تقارير و توثيق دولي من جهات تُصنَّف بكونها ذات مصداقية كالأمم المتّحدة و منظمة العفو الدولية و هيومَنْ رايتش واتش . إنّ اصرار شخص أو جهة معيّنة على براءة النظام السوري من هاتين المجزرتين على سبيل المثال , سيزيد فرص  اعتماده على الحجج ذات الطبيعة المنطقية و المغالطات ,  لتعويض النقص الحاصل في برهان الحدوث , و سيفرِّغ أي حوار أو مُحاجَجَة من محتواها الايجابي كمحاولة لتلمّس الموضوعية و تفهّم  و حلحلة المشكلة.

" مجلة حنطة "