خماسيات الأميري .. هدية الأدب الإسلامي للأدب العالمي(2)

خماسيات الأميري (2)

هدية الأدب الإسلامي للأدب العالمي

بقلم: محمد الحسناوي  

 

[email protected]

دلالة الزمان والمكان

الزمان في الخماسيات زمانان: الأول تاريخ الخماسية في الزمن العام لاسيما التوقيت الهجري وما يسمى الأشهر العربية (القمرية). الثاني تاريخ نظم الخماسية في حياة الشاعر نفسه.

لدى مراجعة تواريخ نظم الخماسيات -والشاعر معني بتأريخها والحديث عن مناسبات أشعاره على وجه العموم- نلحظ أن القسم الأكبر منها نظم في مطلع حياته الأدبية وفي أواخر حياته، ففي سنة (1369 هـ : 1951م) نظم خمس عشرة خماسية، وفي سنة (1371هـ: 1952م) نظم إحدى وعشرين، وفي سنة (1373هـ: 1954م) نظم سبعاً، حينها كان الشاعر في الثلاثينيات لأن مولده (1334هـ: 1916م)، ثم تتوارى الخماسيات أو تأتي على ندرة واحدة واحدة طوال ست وثلاثين سنة، حتى تستعيد عافيتها سنة (1409هـ: 1988م) فتظهر في سنة واحـدة خمس وعشرون خماسية.

في موسم الخماسيات الأول كان الأميري في ميعة الصبا والتوهج العاطفي، فنظم الشعر الذي يصور مجاهدته للعواطف المشبوبة، ولأحابيل الجنس والغريزة، ومفاتن المرأة والشيطان، من ذلك قصيدته المشهورة "ضراعة ثائر - 1370هـ" وخماسية "صراع - 1369هـ":

يقينيَ باللهِ يسمو  بروحيْ    كأنّيْ معاذٌ أَوَ اْنّي أُوَيْسْ

ويرتدُّ بعد قليلٍ جَنانـيْ    جَموحاً شروداً كأَنِّيَ قَيسْ

يُجنُّ بقلبيْ الهوى كلّما    تراءى له في ظلاميْ قُبيس

وأنّى رأى بارقاً مائسـاً    تعلَّقَ منه بأطياف مَيْـس

يُحرِّقُ قلبيَ هذا الصراعُ    أليسَ لقلبيْ نجاةٌ أَليس؟

 (مع الله: 67)

أما الموسم الثاني للخماسيات، وكان الشاعر في السبعينيات من عمره، حين بلغ نضجه العقلي أوجه فنلاحظ ظهور الخماسيات ذات الطابع التأملي (العقلي) أو التي يغلب فيها جانب العقل على العاطفة. يقول في خماسية (رمضان والعافية):

قـالوا: سيُتبعـكَ الصِيا    مُ وأنتَ في السبعينَ مُضنى

فأجبتُ: بـل سيشدُّ من    عزميْ، ويَحبو القلبَ أمنـاً

ذِكراً.. وصَبراً.. وامتثا    لاً للـذي أغـنى وأقنــى

ويَمدُّني.. روحـاً وجسماً    بالقُـوى.. معنىً ومَبْنـى

"رمضانُ" عافيةٌ، فصُمْهُ    تُـقىً، لِتـحيا مُـطمئنّـاً

(قلب ورب: 295)

أما موقع الخماسيات من التاريخ الهجري شهرياً فذو دلالة أوضح. ففي أيام رمضان نظم الشاعر مالا يقل عن /62/ خماسية، وفي شهرين من الأشهر الحرم (رجب والمحرم) نظم سبعاً. فشهر رمضان عند المسلم موسم الصيام والقيام والغفران، وذكرى نزول القرآن، والتماس ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر:

ذهبتْ راؤهُ.. ونونُ خِتامِـهْ    فانبرى في الحديثِ عن أيامِهْ

قالَ: شهريْ مضى.. ويا فوزَ عبدٍ لم يَنمْ عن صِيامهِ وقِيامِهْ..

هو قد برَّ نفسَه فتصدَّى    للتجلّي، واشتدَّ في إِقدامِـهْ

والرحيمُ الرحمانُ برَّ مُناه..    فتجلَّى له بِفيضِ سلامِهْ

أنا حيٌّ في قلبهِ وستبقى    ليلةُ القدرِ في سنا أحلامِهْ

 (قلب ورب: 311)

أما دلالة المكان في الخماسيات، فللشاعر مذهب يُعلي من شأن المشاعر والمعاني، والأزمنة، كما أشرنا وليس الأمكنة، يقول في خماسية "مكة":

رُبَّ ذي شوقٍ لِبيتِ الله..    قــد أشـرعَ فُلْكَـهْ

هَجَرَ الأوطانَ والأهـلَ    بـلا رأيٍ وحُنـكـَـهْ

حَسِبَ القُـربى مـن اللهِ    بــأنْ يَسكُـنَ بَكَّـةْ

كلُّ هذا الكونِ بيـتُ اللهِ    قـد أبـدعَ سَـبْكَـهْ

والـذي فـي قلبِـهِ الله    فـأنَّى عـاشَ مكّـةْ

(مع الله: 118)

لكن إذا اجتمع المكان المقدس والمشاعر المرهفة والأشواق المدنفة، فإن الأمر سوف يختلف، وهذا ما حمل الشاعر على إعادة النظر في موقفه القديم المذكور، وتفنيد بعض ما قاله قبل ستة وثلاثين عاماً وهو قوله: ".. فأنّى عاش مكة" مضيفاً قوله: "أجل، ولكنني اليوم في هذا الحضور الطهور تتأكد لي حقيقة أدركتها منذ سنوات، بصدق وعمق، وهي : أن للمكّتين: طيبة وأم القرى من الخصائص والمزايا -مكانة ومكاناً- ما ليس لسواهما من بقاع الأرض.. فمن كان فيهما، ثم أكرمه الله، فكان سبحانه ملء قلبه، إيماناً.. وإحساناً.. فنور على نور.. وإنها ولا شك ذروة السعد والمجد" (قلب ورب: 19)

لذلك صرح باسم المكان الخاص الذي نظمت فيه بعض الخماسيات، مثل "دعاء" الخماسية التي مرت بنا، ذكر أنها نظمت في "الملتزم : ركن من الكعبة"، وهي دعاء حار فائر العواطف والإيقاع. وكذلك خماسية "عُمرة" نظمها "بين الصفا والمروة"، وأثر المكان القدسي واضح فيها يقول:

عَـبدُكَ – يـا ربّاهُ - لبَّى واعْتَمَرْ

طـوَّفَ بـالبيتِ الـعتيقِ، وَذَكَرْ

دعـاكَ في السَّعيِ وصـلّى وشَكَرْ

عبدُكَ - يا ربَّاهُ - ذو الذنبِ عُمَرْ

فـاغفرْ لهُ، إنَّـك أولى مَـنْ غَفَرْ

(مع الله: 118)

هيكل الخماسية

لم يشأ النقاد القدامى أن يخلعوا على القطعة الشعرية المؤلفة من ثمانية أبيات أو ستة أبيات فما دون ذلك اسم القصيدة استخفافاً، أما الشاعر الأميري فقد جعل من هذه القطعة الخماسية كائناً فنياً ذا موضوع واحد متماسك الأجزاء قوي البناء، لا يقل أهمية وشأناً عن طوال القصائد.

إن هيكل القصيدة هو أهم عناصرها وأكثرها تأثيراً فيها، لأن وظيفته الكبرى أن يوحد القصيدة، ويمنعها من الانتشار والانفلات، ويلمها داخل حاشية متميّزة(15). أدرك الأميري هذا السر بفطرته أو ثقافته، فجاءت أشعاره -لاسيما الخماسيات- وحدات فنية متقنة السبك الهندسي، المتساوق مع الفكرة أو الموقف العاطفي. كما أدرك أن القصيدة القصيرة بحجمها أو حجم تجربتها الشعورية هي قصيدة غنائية تصور موقفاً عاطفياً مفرداً يتحرك أو يتطور في اتجاه واحد، وهما السمتان المميزتان للبنية الداخلية للقصيدة المعاصرة: (وحدة العاطفة وتطور هذه العاطفة في اتجاه واحد)(16).

هذه المدركات الفنية تعامل معها الأميري من خلال أحاسيسه ومشاعره، أو حصلت له من خلال هذه الأحاسيس والمشاعر، فالشاعر عادة يعبر عن تجربته متدرجاً من منطقة المشاعر الضبابية خطوة خطوة، ثم يظل يتطور موقفه العاطفي في سبيل الوضوح شيئاً فشيئاً حتى ينتهي إلى إفراغ عاطفي ملموس. يقول في خماسيته "شعاع":

تأمّلتُ في كُنْهِ هذا الوجـودْ    وغُصتُ على كشفِ أسرارهِ

فَجُبتُ الوِهاد، وطُفتُ النُّجودْ    وجُـلتُ بـأجواءِ أنـوارهِ

وفكَّرتُ في نَحسهِ والسُّعـودْ    وفـي خيـِّرَيْهِ وأشـرارهِ

وإذ كادَ يَعروْ شعوريْ الجُمود    ويثـنيهِ عـن سَبْرِ أغوارهِ

تَلألأَ ليْ من خفايـا الخلـود    شعـاعٌ فصحتُ بِإكْبـارِِهِ!

 (مع الله: 57)

هذه الخماسية (الإشراقية) نموذج لطائفة كبيرة من الخماسيات التي تبدأ من نقطة انفعالية ضبابية، ثم تتدرج تدرّج الصاعد في سلم حتى يصل إلى القمة أو الختام بتدرج أو قفزة تتوج هذا التدرج أو الصعود، فالشاعر هنا قام بجولة تأملية أو شعورية بحثاً عن فهم لأسرار الكون، التي هي مستترة خلف مظاهر الأشياء القريبة المحسوسة من جبال وأودية وسماوات، ومن أفراح وأتراح، حتى كاد يرجع يائساً، فإذا هذا الطواف المستبصر يفوز بشعاع هادٍ من عالم الخلود، يشير إليه ويدل عليه. ولما كانت المشاعر والأحاسيس تتدرج في الصعود إلى القمة، فإن القمة تأتي في النهاية، لذلك جاء البيت الأخير كالقفل أو الثمرة أو الختام الشافي لتلك التمهيدات أو التلمسات. والملاحظ أن الجولة كانت تمشي عبر أفعال (ماضية) انتقالية في الأمكنة والمشاعر والقيم: تأملت، وغصتُ، وجبت، وطفت، وجلت، وفكرت. أما في خماسيات أخرى فالسياق يختلف. يقول في خماسية "بقاء":

رَأيتُكَ فـي ضَحِكيْ والبـُكا    نَهاراً وفـي الليلِ مُحلولِكـا

رأيتُـكَ مـثلَ الـذي تبتَغي    جَهـاراً، ولـكـنْ بآلائكـا

رأيتُـكَ تُشرِقُ فـي خَلْـقكا    فيبتـزُّ روحيْ سَنا وَجْهِكا

رأيتُكَ تحـبو خلايـا كِيانيْ    عُيونـاً تَـراكَ وتعـنوْ لكا

فأيقنتُ أنَّ الفنا بـ "الأنـا"    وأنَّ بقـائيْ فنـائـيْ بِكـا

(مع الله: 53)

هنا طاف ببصيرته مستعملاً فعل الرؤية (رأيتك) منطلقاً متتابعاً تتراكم فيه الأحاسيس والمشاعر، حتى جاءت القفزة الوجدانية أو الخاتمة الجامعة مبدوءة بفعل اليقين المقترن بحرف عطف العاقبة. كان الطواف في الخماسيتين السابقتين في جمل إخبارية على حين تجده، يعاود الطواف نفسه بجمل إنشائية تنضح بانفعال عاطفي أقوى، مما احتاج إلى خاتمة أشدّ وأقوى، يقول في "شهود":

خلّني أسْرَحُ في البون المَديدِ    خلّني أُطلقُ روحي من حدودي

خلِّني أسريْ بأطواء الليالـي    خلّني أشتفُّ أضواءَ الوجـودِ

خلّني أُفنـي هنائي وشقائـيْ    خلّني أُفضي إلى كونٍ جديـدِ

خلِّني أجتازُ آفـاقَ البرايــا    خلِّني أجتاحُ أبوابَ الخُلـودِ

أشرقَ الدّيان في غورِ كياني    خلّني هيمانَ في غيبِ شُهودي

(مع الله: 52)

في الحقيقة إن الشاعر عكس الطواف في هذه الخماسية، كما عكس التعبير عنه فقد جعل لحظة الإشراق وهي خاتمة الطواف السابق بداية لطواف جديد، كأننا سألناه لماذا تطالب في الأبيات الأربعة الأولى أن تطوف في الليالي والهناءة والشقاء، وآفاق البرايا وتجتاح أبواب الخلود، فأجابنا: لأنني أشرق الدّيان في غور كياني. إذن كان الإشراق سبباً وبداية للطواف ولم يكن نتيجة أو تتويجاً كما كان في الخماسيتين السابقتين "بقاء" و"شعاع" أي عادت النهاية إلى البداية، فالإشراق كان في نفس الشاعر منذ البيت الأول، لكنه لم يصرح به إلا في الخاتمة، وهذا النموذج المعماري له أمثلة كثيرة في الخماسيات.

من الملاحظ على هذا الهيكل أو البناء تماسك أجزائه من البداية إلى النهاية، كما نلاحظ أهمية الدور الذي تنهض به الخاتمة أو البيت الخامس، لدرجة حملت بعض النقاد على الظن بتفاوت أشعار الأميري، حين لاحظوا قوة الخواتيم وشدّة أسرها وهيمنتها على النص ثم على القارئ (المتلقي)، غافلين عن العلاقة الحيوية بين البداية والنهاية، أو بين أجزاء النص الواحد التي تتفاعل وتتكامل وتتقاسم الأدوار، وتقدم بعضها على بعض لإنجاح العرض.

الملاحظة الثانية: أن خماسية "بقاء" و "شعاع" صيغتا بالجمل الخبرية مع الابتداء بحروف العطف في الأولى وبتكرار فعل "رأيت" في الثانية حتى حرف فاء "العاقبة" في الثانية، أو تعلق ظرف الزمان "إذا" بفعل "تلألأ" إعرابياً وبالمعنى أيضاً في الأولى.. نلحظ أن الخماسية الثالثة "شهود" جاءت أبياتها الأربعة، بل شطورها الثمانية مفتتحة بجمل إنشائية مكررة "خلّني" حتى تشكل منها قطاع أو سيل إنشائي متدفق لا يقفه أو يوازيه إلا خاتمة إخبارية قاطعة مانعة "أشرق الديان في غور كيماني". فالتماسك البنيوي لم يكن تماسكاً في إفراغ الموقف العاطفي متدرجاً حتى النهاية أو كاملاً، بل جاء متساوقاً مع التعبير عنه أيضاً.

في خماسية "شكوى" نجد أسلوبي الخبر والإنشاء يتبادلان الأدوار، حيث تبنى الأبيات الأربعة الأولى على أسلوب الخبر، وتأتي الخاتمة أو البيت الخامس إنشائياً:

قلبي - وهمُّ الكون في خفقاتهِ -    نادى وما في الكون من يسمعُ

والصدرُ ضجَّ الليلُ من لهثاتهِ    وشَهيقُ صدريْ والزَّفيرُ تضرُّعُ

والروحُ -مَنْ للروح في أزماتهِ-    أضنـاهُ أَنَّ العمـرَ قفرٌ بلقَعُ

إنّي فتىً، الصبـرُ من عاداتـهِ    لكنَّ صبريْ في الهوى لا ينفعُ

فاكشِفْ لمضنى القلبِ مُرَّ أذاتهِ    يا مَنْ إليكَ المُشتكى والمَفزَعُ

(مع الله: 126)

ذلك لأن البنية الداخلية للتجربة الشعورية قائمة على عرض حال أو مشكلة في الأبيات الأربعة الأولى، احتاج الشاعر بعدها لرفع هذه الشكوى المشكلة إلى صاحب العلاقة إلى الله تعالى جلَّ جلاله، فكان البيت الأخير أو الخاتمة كما رأينا بطرح الحل "فاكشف لمضنى القلب مرّ إذاته" مشفوعاً بالتمجيد والثناء على الله تعالى الذي هو أهل لهما.

إن هذا البناء المتماسك ليس سبكاً قسرياً متكلفاً مضطرداً في الخماسيات كلها لاسيما التركيز على البيت الأخير أو الخاتمة، فهناك من الخواتيم ما يستهلك بيتين أخيرين معاً استجابة للحاجة الشعورية. يقول في خماسية: "معية":

أيا ربّ إنّيَ وجَّهتُ خَطْـويْ    بمـلءِ يَقينيَ كـي أَتبَعَـكْ

وأصغيتُ من غور قلبيْ وعَقليْ    وسمعيْ وطَبعيَ كي أَسمَعَكْ

وإنّي وإنْ كنتُ جِرماً صغيراً    لأدركَ يـا ربّ ما أوسعـكْ

فلا ترمِ بي بين شدقَيْ غَرورٍ    عَقورٍ ودعْنيَ أجـريْ مَعَكْ

أعيشُ بِحُبكِ في خَفْقِ قلبـيْ    وتهتِف عينايَ: مـا أَنصَعَكْ!

كان بوسع الشاعر أن يقفل تجربته الشعورية عند قوله: "ودعني أجري معك" فقد انتهت المشكلة أو عرض الحال، وجاء الحل، لكن الشاعر استمتع بهذا الحل أو "المعية" فأحب أن يطيلها ليتلذذ ويتمزز، وحسناً فعل.

في نموذج آخر لا تأتي الخاتمة حلاً لمشكلة، أو تتويجاً لصعود متدرج، بل تأتي على شكل تفسير لمحمول الأبيات الأربعة الأولى، يقول في خماسية "رب":

إنَّ ربَّـاً خلقَ الكَو    نَ وما فيهِ جميعـا

لا يُـؤدَّى حقٍّهُ قطُّ    سُجوداً ورُكوعـا

وطوافاً واعتكافا    وقضاءَ الوقتِ جُوعا

إنّما تلكَ رموزٌ    من ذَوي الألباب تُوعى

حقَّقتْـنا بالعُبوديَّـ    ــةِ للهِ، خُضوعا

(مع الله: 109)

أو تأتي الخاتمة جواباً على سؤال أو مجموعة أسئلة، كالخماسية "سبحان ربي الأعلى":

أيُّ سـرٍّ يودي بدُنيا حُـدوديْ    كلَّما هِمتُ في تجلّي سُجودي

كيفَ تذروْ "سبحانَ ربّيْ" قُيوديْ    كيفَ تَجتازُ بيْ وراءَ السُّدودِ

كيفَ تسمو بِفطرتيْ ووجودي    عن مفاهيم كونِيَ المَعْهودِ

كيفَ ترقى بِطينتِيْ وجُمودي    في سماواتِ عالمٍ من خُلودِ

أتُراها رُوحاً مِنَ المَعْبــودِ    قد جَلَتْ ذاتَها لِعينِ شهودي!

 (مع الله: 97)

وقد تأتي الخاتمة على شكل حكمة أو خلاصة أو الاثنين معاً كما في الخماسية "غاية"!:

رانَ على القلوبِ ما قد شانَها    وعزَّ مَنْ يُشرقُ نورُ قـلبهِ

زيّنتِ الدنيا لـها بُـهتانَهـا    وإنّ حَتْفَ المرءِ زَيغُ لُبِّـهِ

فعَمِهَتْ واتّبـعتْ شيطـانَها    وتاهَ كـلٌّ في ثنايا دَربِـهِ

غيرَ نُفوسٍ فقهَـتْ إيمانَهـا    وجهَدتْ في صَونِهِ ورأبهِ

غايةُ عُشَّاقِ الدُنى ما زانَهـا    وغايةُ المؤمنِ وَجهُ ربِّـهِ

(مع الله: 95)

وقد تأتي الخاتمة كالكفة المقابلة لكفة الأبيات الأربعة وهي أثقل منها:

الكعبةُ الشمّاءُ في مَذهبـيْ    قيمتُها ليستْ بِأحجارِهـا

والقربُ من خالقها ليس في    تَشَبُّثِ المـرءِ بِأستارها

قُدسيّةُ الكعبةِ في جمعِهـا    أمّتَنا مـن كلّ أقطارِِهـا

وأنها مِحـوَرُ أمجادِهـا    وأنَّها مصـدَرُ أَنوارِهـا

وكعبةُ المؤمنِ في قلبهِ    يَطوفُ أنّى كانَ في دارِهـا

 (مع الله: 115)

جدير بالذكر أن كل هذه الأمثلة ليست حصراً للنماذج في هياكل الخماسيات بل هي أمثلة على التعدد والتنوع.

الملاحظة الأخيرة على هذه النماذج من الهياكل أنها تصنف في الهيكل ذي الدائرة المغلقة سواء جاء البناء متدرجاً من الضبابية في بداية الأبيات إلى الوضوح أو القمة في الخاتمة كما في خماسية "بقاء" وخماسية "شعاع"، أو عادت النهاية إلى البداية بشكل صريح أو غير صريح كما مرَّ معنا في الخماسيات الأخرى مثل خماسية "شهود"، ومن نماذج عودة النهاية صريحة إلى البداية خاتمة خماسية "حب":

فـي تناجي القلوبِ بالحبِّ رُوحٌ    فيه للروحِ والحَشا خيـر قُـوتِ

فيـهِ صَفـوٌ ونَشـوةٌ وهَنـاءٌ    وانطـلاقٌ من الأسـى المكبـوتِ

حينَ تُصغي بعضُ القلوبِ لِبعضٍ    في الحديثِ النَّقي أو في السكوتِ

يُشــرقُ اللهُ بالصَّفـاءِ عليهـا    ويُنـادي أعماقَهـا: هلْ رَضيتِ

في تناجي القلـوبِ بالحـبِّ سـرٌّ    يتسامـى بها إلـى الملكـوتِ

 (مع الله: 59)

إلى جوار الخماسية ذات الدائرة المغلقة هناك خماسية هيكلها كهيكل الخماسية ذات الدائرة المغلقة في كل شيء، لكنه يختلف عنه من حيث النهاية، فالشاعر في هذا الشكل لا يتم دورته الشعورية حتى يعود إلى حيث بدأ، وإنما هو ينتهي في القصيدة إلى نهاية "غير نهائية"، إنها نهاية ترتبط ارتباطاً عضوياً بالبداية، ولكنها ليس هي البداية، إنها نهاية مفتوحة إذا صحَّ التعبير، إن الشاعر هنا يتحرك في اتجاه شعوري ممتد في خط مستقيم يأخذ طابع الامتداد اللانهائي(17). يقول الأميري في خماسية "مضاء":

أَغْمضِ العَينينِ رَهواً    وتنفّـسْ صَعـداءَكْ

أملاً زِدْ.. واستَـعِدْ    لا خيَّـبَ اللهُ رجـاءَك

سِرْ.. ولُـذْ بـاللهِ فالإ    مدادُ من ربِّكَ جاءَك

لا تقلْ: جاوزتُ سبعينيَ    واستكمِلْ عَطـاءَك

وامضِ بـاللهِ قـويّاً..    سدَّد اللهُ مَضـاءَكْ

(قلب ورب: 233)

إنه هيكل أو بناء بسيط يجري على منوال واحد يعطي انطباعاً شعورياً موحداً بدايته مثل نهايته، أو نهايته تترك المجال مفتوحاً لاستمرار الانطباع العام، وهو أصلح ما يكون للتجارب التأملية، أو الخماسيات التي يغلب فيها الجانب العقلي على الجانب العاطفي، وقد برز هذا اللون في الموسم الثاني من خماسيات الأميري أي ما نظمه بعد أن دخل عمر السبعين(18)، وفي ديوانه "قلب.. ورب" عدد وافر منها. في خماسية أخرى "حكمة الدهر" سوف نلحظ أسلوب الحكم العقلية السارية سريان القوانين الأبدية:

لا تُضعْ لمحةً من العمر هَدراً    وارتفعْ عن كثافةِ الأرض قَدرا

وتقـدّسْ بِحمْلِ هـمِّ البرايـا    واسألِ اللهَ فوقَ صبرِكَ صَبرا

وتفاهـمْ والدَّهرَ فهـوَ حكيـمٌ    لا تقلْ: جارَ! إنّه بـكِ أدرى

رُبَّ عُسرٍ شكوتَ منهُ ملحّـاً    يُضمرُ الدَّهرُ في خفاياهُ يُسرا

فتشبَّثْ مسلِّمـاً لِقضـاءِ    اللهِ وادأبْ في السعي -يا عبدُ- حُرّاً

(قلب ورب: 284)

إن وحدة الخماسية النفسية وفرت لكل منها الوحدة العضوية التي وجدناها في تماسك الهيكل وقوة البناء، وبوسعنا أن نكشف عن عوامل أخرى أسهمت في قوة البناء، أو نشأت عن هذه الوحدة النفسية أو الشعورية، مثل الاعتماد على القافية الموحدة، وهو ما غلب على قوافي الخماسيات باضطراد إلا نماذج سوف نقف عندها في حينه، ومثل اعتماد صيغ نحوية تشدّ من ترابط التراكيب والعبارات بل الأبيات نفسها، أشرنا إلى أمثلة من الترابط النحوي في خماسيتي "بقاء" و "شعاع" ونضيف مثلاً آخر أوسع مساحة وأشد إحكاماً في خماسية "طمأنينة":

لو أخـذَ الإنسـانُ في يَومِـه    لِغَــدهِ العبـرةَ من أمسِـهِ

وأنفذَ النَّظرةَ عبـر النُـهـى    تقرأُ سِـرَّ الغيبَ في طِرسِـهِ

وأرهفَ السمعَ وراءَ الحِجـا    يُصغي إلى المَقدورِ في جَرسِهِ

لاستشعرَ الـرَّوعَ طُمأنينـةً    وشامَ وجهَ الأنسِ فـي بُؤسِـهِ

وسلَّـم الأمـرَ إلـى رَحمـةٍ    يكتُـبهـا اللهُ عـلى نفسِـهِ

 (مع الله: 101)

هذه الخماسية تنقسم إلى مقطعين اثنين من حيث الهيكل أو البناء، يشتمل المقطع الأول على الأبيات الثلاثة الأولى المبدوءة بحرف "لو"، حرف شرط وامتناع لامتناع، أما المقطع الثاني فيشتمل على البيتين الأخيرين المبدوء بحرف اللام الواقع في صدر جواب الشرط: "لاستشعر الروع.." إذ لا تتم الجملة الشرطية إلا بهذا الجواب، ولا يطَّرد المقطع الأول ما لم يلتحم مع المقطع الثاني نحوياً ومعنوياً فإن كل ما ورد من أفعال في المقطع الثاني ممتنعة الحصول لامتناع حصول الأفعال الواردة في المقطع الأول.

لعلك لاحظت في هذه الخماسية كما في غيرها من ألوان الترابط الداخلي توظيف "الإرصاد" أو ما يسمى "التوشيح" أو "المطمع" في القوافي حيث يدل أول الكلام على آخره، فتُعلمُ القافيةُ قبل ذكرها، مثل قافية البيت الثاني "طرسه" وقافية البيت الأخير "نفسه". ومما زاد في قوة الإرصاد وإشباع التوقع المتماسك في هذه القافية الأخيرة أنها جزء من آية قرآنية جاء بعض منها معها، وهو: "رحمة يكتبها الله على نفِسه" قال تعالى في سورة الأنعام: كتبَ على نفسِه الرحمةَ لَيجمعنّكم إلى يومِ القيامةِ لا ريبَ فيه.. (الأنعام: 12).

يتبـــــــع

ــــــــــــــــــ

(15) قضايا الشعر المعاصر - نازك الملائكة - دار العلم للملايين - بيروت - ط8  ص: 235.

(16) الشعر العربي المعاصر - د. عز الدين إسماعيل - المكتبة الأكاديمية - القاهرة - ط5 - ص: 21.

(17) من نماذج الهياكل الأخرى نموذج يبدأ بمطلع موجز ثم تفصله الأبيات الأخرى مثل الخماسيات في ديوان "مع الله ص: 57 و 59 و 299"، أو عرض ثم تعليل -في الديوان نفسه: 253 - ،125 أو خماسية جاءت كلها إنشائية في نموذج مفتوح ذي خط واحد "قلب ورب: 267" وهكذا..

(18) عثرنا على نماذج منها في بواكير خماسياته وهي الخماسيات الثلاث التي وردت في ديوانه "أمي" وهو في الثلاثين من عمره، وتجربته الفنية في بداياتها.