وقضينا إلى بني إسرائيل

محمد حايك

أتلانتا جورجيا

[email protected]

لقد إحتار المفسرون سواء السابقون منهم أو اللاحقون في تفسير الآيات من سورة الإسراء التي تتنبأ بحوادث عصيبة ستحدث لبني إسرائيل في الأرض المقدسة:

(وَقَضَيْنَآ إِلَىٰ بَنِىٓ إِسْرَٰٓءِيلَ فِى ٱلْكِتَٰبِ لَتُفْسِدُنَّ فِى ٱلْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا ﴿4﴾ فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولَىٰهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًۭا لَّنَآ أُو۟لِى بَأْسٍۢ شَدِيدٍۢ فَجَاسُوا۟ خِلَـٰلَ ٱلدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًۭا مَّفْعُولًۭا ﴿5﴾ ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ ٱلْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَـٰكُم بِأَمْوَ‌الٍۢ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَـٰكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا ﴿6﴾ إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ ٱلْءَاخِرَةِ لِيَسُٓـُٔوا۟ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا۟ ٱلْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍۢ وَلِيُتَبِّرُوا۟ مَا عَلَوْا۟ تَتْبِيرًا ﴿7﴾ عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَـٰفِرِينَ حَصِيرًا ﴿8﴾) سورة الإسراء. 

الذي جعل مفهوم هذه الآيات غير واضح هو افتراض خاطئ، لقد افترض المفسرون أن المقصود ببني إسرائيل هم اليهود فقط، وأن نص تلك الآيات يتكلم عن اليهود فقط عبر التاريخ.  وهنا كانت المشكلة في تفسير هذه الآيات، فما بني على خطأ، فإن نتائجه ستكون خاطئة.

الحقيقة الأولى في تلك الآيات، إن المقصود ببني إسرائيل هم ذرية النبي إسرائيل فقط، فأي إنسان دخلت فيه مورثات النبي إسرائيل يعتبر من بني إسرائيل، بغض النظر عن معتقده سواء كان يهودياً أم مسيحياً أم مسلماً أم ملحداً.  فقبل أن يُبعث النبي موسى، كان هناك بني إسرائيل ولم يكن هناك يهوداً، فالنبي موسى هو الذي أتى بالديانة اليهودية، وعن طريقه كان خلاص بني إسرائيل من العذاب الأليم من قبل فرعون، فلقد طلب من فرعون أن يرسل معه بني إسرائيل (أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِىٓ إِسْرَ‌اءِيلَ) الشعراء:17.  فبعد بعثته عليه السلام اعتنق أكثر بني إسرائيل الديانة اليهودية، وهذه هي الفترة الوحيدة التي يعتبر فيها اليهود أنهم بني إسرائيل.  وبسبب وجود بني إسرائيل في مصر في زمن الفراعنة، فهناك احتمال أنه دخلت مورثات النبي إسرائيل في أبناء مصر، سواء عن طريق الزواج الشرعي أم غيره.  فلقد كان بنو إسرائيل عبيداً هناك، والعبيد يَفعل بهم أسيادهم ما يشاؤون.  ومع رجوع بني إسرائيل إلى الأرض المقدسة انتشر نسلهم بين الناس في تلك الأرض.  وبسبب تشتت بني إسرائيل في بقاع الأرض، انتشرت مورثات إسرائيل في بعض الناس في المناطق التي سكنوها.  ومع مجيء الديانة المسيحية، اعتنق بعض بني إسرائيل الديانة المسيحية وانتشرت مورثات إسرائيل في مسيحي المنطقة.  فمريم ابنة عمران كانت من بني إسرائيل وابنها عيسى من بني إسرائيل، رغم أنه كان مسيحياً.  ونفس الشيء حصل عندما أتى المسلمون إلى فلسطين وانتشرت معهم الديانة الإسلامية في الأرض المقدسة، واعتنق قسم من بني إسرائيل الإسلام، ولقد كانت زوجة الرسول صفية بنت حيي اليهودي، من ذرية بني إسرائيل.  وهناك من اعتنق اليهودية في مناطق بعيدة عن الشرق الأوسط ليسوا من بني إسرائيل.  وذلك فإننا نجد أن القرآن لم يقل (وقالت بنو إسرائيل ليست النصارى على شيء)، بل قال }وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ لَيْسَتِ ٱلنَّصَـٰرَىٰ عَلَىٰ شَىْءٍۢ{ البقرة:113، لأن اليهود والنصارى في الأرض المقدسة هم من بني إسرائيل.  وهكذا انتشرت مورثات نبي الله إسرائيل في أكثر سكان الشرق الأوسط بغض النظر عن معتقداتهم الدينية.  فكلمة بني إسرائيل المذكورة في القرآن لا تعني اليهود فقط، بل تعني أي إنسان أو قوم دخلتهم مورثات النبي إسرائيل عليه السلام.  وبنفس الوقت فإن ليس كل اليهود في العالم من أبناء بني إسرائيل.

الحقيقة الثانية في تلك الآيات، أنها تتكلم عن أحداث لبني إسرائيل ستحدث في منطقة واحدة فقط وهي الأرض المقدسة، التي تعتبر ديار بني إسرائيل بغض النظر عن معتقدات أهلها الدينية، وهذا يمكن استنتاجه من الآية (فَجَاسُوا۟ خِلَـٰلَ ٱلدِّيَارِ)، فأي ديار تتكلم الآية عنها إذا كان بنو إسرائيل اليهود قد تشتت أكثرهم في بقاع الأرض بعد حادثة غرق فرعون؟ (فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم مِّنَ ٱلْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَـٰهُ وَمَن مَّعَهُۥ جَمِيعًۭا ﴿103﴾ وَقُلْنَا مِنۢ بَعْدِهِ لِبَنِىٓ إِسْرَ‌اءِيلَ ٱسْكُنُوا۟ ٱلْأَرْضَ فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ ٱلْءَاخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًۭا ﴿104﴾) سورة الإسراء.  فلا بد وأن الديار التي تكلم عنها القرآن في هذه الآيات هي الأرض المقدسة فلسطين وما حولها، ففيها أكبر تجمع لبني إسرائيل في منطقة محدودة.  وحتى ولو هاجر إليها أناس ليسوا من ذرية بني إسرائيل وقطنوا فيها، فإنهم مع الزمن سيتزاوجون من أهل تلك الأرض وستدخل فيهم مورثات النبي إسرائيل، فالغالبية العظمى من سكان فلسطين وما حولها هم بني إسرائيل إن لم يكونوا كلهم.

الحقيقة الثالثة في تلك الآيات، أن القرآن يتحدث عن أحداث ستحدث في الديار المقدسة وفي فترة زمنية محددة ما بين نُزول القرآن إلى أن يحدث العلو الكبير لبني إسرائيل في آخر الزمان، بغض النظر عن معتقدات الغالبية العظمى لبني إسرائيل في تلك الديار.  فأي تفسير لحوادث تلك الآيات قبل نزول القرآن يعتبر اجتهاداً خاطئاً، فالقرآن قال (لَتُفْسِدُنَّ فِى ٱلْأَرْضِ) بصيغة التوكيد في المستقبل وليس في الماضي، أي لتعصنّ الله ولتخالفن أمره.  ثم يقول في الآية التالية (فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولَىٰهُمَا) أي أن الحادثة الأولى ستأتي فيما بعد، أي بعد نزول القرآن.

الحقيقة الرابعة في تلك الآيات، تؤكد على أن عباد الله أولي البأس الشديد، الذين سيأتون إلى الأرض المقدسة في المرة الأولى، بعد فساد بني إسرائيل فيها، هم من نفس جنس العباد الذين سيأتون إلى الأرض المقدسة في المرة الثانية بعد فساد بني إسرائيل فيها.  وهذه الحقيقة لم يبينها المفسرون، سواء السابقين منهم أو اللاحقين، في أقوالهم لمعنى تلك الآيات.

الحقيقة الخامسة في تلك الآيات، إن حادثة مجيء عباد الله أولي البأس الشديد في المرة الثانية إلى الديار المقدسة ودخولهم المسجد ستحدث في وقت اقتراب الساعة، كما هو في حالة رجوع بني إسرائيل المشتتين فإنهم سيرجعون إلى الديار المقدسة في وقت اقتراب الساعة (فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ ٱلْءَاخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًۭا).  فدخول القومَين إلى الديار المقدسة سيحدثان في فترة زمنية متقاربة.  وبما أن بني إسرائيل اليهود قد رجعوا إلى الديار المقدسة، وهم يعلون علواً كبيراً أي مسيطرون متمكنون، فهذا فيه دلالة على أن مجيء عباد الله أولي البأس الشديد إلى الديار المقدسة في المرة الأولى والثانية قد حصل وانتهى.

الحقيقة السادسة في تلك الآيات، أن القرآن يقول عن بني إسرائيل في آخر الزمان (وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا)، ثم يقول في القوم الذين يأتون إلى الأرض المقدسة في المرة الثانية (وَلِيُتَبِّرُوا۟ مَا عَلَوْا۟ تَتْبِيرًا).  فكلمة العلو ذكرت في الحالتين، هذا يدل على أن هناك رابطة ما بين وعد الله لبني إسرائيل بأنهم سيعلون في آخر الزمان، وبين علو القوم الذين سيأتون في المرة الثانية ويتبرون مع علوهم تتبيرا، أي يخربون مع علوهم تخريبا.

هاتين الحادثتين اللتين حصلتا في الأرض المقدسة ما بين نزول القرآن إلى رجوع اليهود إلى أرض فلسطين، لا بد وانه كان لهما ضجيج وأثر في تاريخ تلك الأرض، ومن الصعب ألا يلاحظهما قارئ التاريخ.

والعلم عند الله، أن المرة الأولى هي الحروب الصليبية المتعاقبة التي أتى فيها الغزاة من أوربا من خلال هجمات متعددة خلال مائتي سنة تقريبا، ما بين عام (1096 - 1291) ميلادي.  جاس فيها الصليبيون خلال الديار، أي في الأرض المقدسة التي يقطن فيها بنو إسرائيل، وكان ما كان من أحداث شنيعة سُفكت فيها الدماء.  قبل الحروب الصليبية.  كان هناك تعصباً وكراهية بين فرق الأديان، وتعصباً بين المسلمين ضد مذاهبهم.  هناك أسباب وعوامل كثيرة للحروب الصليبية، من أحد أسبابها هو الخطأ الفاحش الذي ارتكب بحق المسيحيين في عام 1009 عندما أمر الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله بتدمير كنيسة القيامة، مع العلم أن الدين الإسلامي يمنع تدمير الكنائس.  ثم سُمح في عام 1039 للإمبراطورية البيزنطية بإعادة بناء كنيسة القيامة.  وحصل كذلك في عهد الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله، اضطهاد لكل من يخالف مذهبه الشافعي.  لقد كان بنو إسرائيل في ديار الأرض المقدسة قبل الحروب الصليبية في شقاق وفساد وظلم وضعف وجهل وتعصب ديني.  فأتى المسيحيون الأوربيون إلى الأرض المقدسة بحجة استرجاعها.  وتحول بيت المقدس لمحرقة كبيرة قتل فيها المسلمون واليهود وخوارج النصارى، وارتكب الصليبيون مجازر شنيعة حتى ضد الأطفال والنساء والشيوخ.  إلى أن جاء صلاح الدين بجيش قوي منظم، واسترد القدس في معركة حطين عام 1187 بعد أن أتى بإمكانيات اقتصادية وعسكرية (ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ ٱلْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَـٰكُم بِأَمْوَ‌الٍۢ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَـٰكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا).

أما في المرة الثانية (فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ ٱلْءَاخِرَةِ لِيَسُٓـُٔوا۟ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا۟ ٱلْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍۢ وَلِيُتَبِّرُوا۟ مَا عَلَوْا۟ تَتْبِيرًا)، فالآية تشير أن المرة الثانية ستحدث عند اقتراب وعد الآخرة أي وقت الساعة، كما هو في سورة الكهف (فإذا جاء وعد الأخرة).  وفي هذه المرة جاء الأوربيون مرة أخرى على شكل مستعمرين ليسيطروا على البلاد العربية بما فيها الشرق الأوسط وفلسطين، وبدخولهم لفلسطين جاء معهم اليهود المشتتون في بقاع الأرض لفيفاً، أي دفعة وراء دفعة من خلال وعد بلفور.  وعَلا بنو إسرائيل بعد ذلك علوا كبيرا، فإننا نشاهد آثاره حتى وقتنا الحاضر.

في عام 1917 احتلت القوات البريطانية المتجهة من مصر جنوب بلاد الشام التي تحوي الأرض المقدسة من الدولة العثمانية، وفرضت عليها حكماً عسكرياً.  وفي 9 ديسمبر 1917 دخل قائد القوات البريطانية الجنرال أدموند أللنبي مدينة القدس، مما أثار مشاعر الابتهاج في أوروبا إذ وقعت القدس تحت السيطرة المسيحية لأول مرة منذ أكتوبر 1187.  كانت فلسطين قبل الاحتلال البريطاني جزء من الإمبراطورية العثمانية، شأنها شأن باقي الدول العربية.  وفي نهاية الإمبراطورية العثمانية حدث ضعف وتمزق وحزازية وظلم وفساد في أجزائها.  أزيلت الدولة العثمانية كلياً في نوفمبر عام 1922 ورسخ العالم العربي تحت الاحتلال الأوربي، وتقسم إلى دويلات.  وبدأ تهجير اليهود من أوربا إلى فلسطين على دفعات، وبذلك رجع بنو إسرائيل المشتتون في بقاع الأرض إلى الأراض المقدسة، ورجوعهم هو إشارة كبرى على اقتراب وقت الساعة لأنه مذكور في القرآن (فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ ٱلْءَاخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًۭا)

وفي المرة الأولى نجد أن القرآن قال عن عباد الله الذين سيأتون إلى الديار (فَجَاسُوا۟ خِلَـٰلَ ٱلدِّيَارِ)، وحصل هذا عندما دخل الصليبيون الديار المقدسة، فلقد ترددوا عليها بهجماتهم مرات ومرات خلال فترة الحروب الصليبية، ويعتقد أنه كان هناك تسع هجمات متعاقبة من قبل للصليبين للأرض المقدسة، دامت لمدة مائتي عام.  خلال هجمات الصليبين للديار المقدسة، قام جنودهم بالقتل والنهب والعبث في كل بقاعها، كانوا يترددون على البيوت ليل نهار ليتأكدوا أنه لم يبق فيها حي يرزق.  لقد أبادوا جميع سكان القدس من المسلمين واليهود وخوارج النصارى، الذين كان عددهـم ستين ألفا، فأفنوهم عن بكرة أبيهم في ثمانية أيام، ولم يتركوا منهم امرأة ولا ولداً ولا شيخاً. 

ففي معجم لسان العرب: فَجاسُوا خِلال الدِّيار؛ أَي تردّدوا بينها للغارة، وهو الجَوَسانُ، وقال الفراء: قتلوكم بين بيوتكم، وجاسُوا وحاسُوا بمعنى واحد يذهبون ويجيثون؛ وقال الزجاج: فجاسوا خلال الديار أَي فطافوا في خلال الديار ينظرون هل بقي أَحد لم يقتلوه؛ وفي الصحاح: جاسوا خلال الديار أَي تخللوها فطلبوا ما فيها، كما يَجُوس الرجلُ الأَخبار أَي يطلبها، وكذلك الاجْتِياسُ. والجَوَسان، بالتحريك: الطوفان بالليل.  وفي تفسير ابن كثير فجاسوا خلال الديار: أي تملكوا بلادكم وسلكوا خلال بيوتكم أي بينها ووسطها وانصرفوا ذاهبين وجائين لا يخافون أحدا. 

وصف ستيفن رنسيمان في كتابه " تاريخ الحروب الصليبية " ما حدث في القدس يوم دخلهـا الصليبيون فقال: (في الصباح الباكر من اليوم التالي اقتحم باب المسجد ثلة من الصليبيين، فأجهزت على جميع اللاجئين إليه، وحينما توجه قائد القوة ريموند أجيل في الضحى لزيارة ساحة المعبد أخذ يتلمس طريقه بين الجثث والدماء التي بلغت ركبتيه، وتركت مذبحة بيت المقدس أثرا عميقا في جميع العالم، وليس معروفا بالضبط عدد ضحاياها، غير أنها أدت إلى خلو المدينة من سكانها المسلمين واليهود؛ بل إن كثيراً من المسيحيين اشتد جزعهم لما حدث).

ذكر "غوستاف لوبون" في كتابه "الحضارة العربية" - نقلا عن روايات رهبان ومؤرخين رافقوا الحملة الصليبية الحاقدة على القدس - ما حدث حين دخل الصليبيون للمدينة المقدسة من مجازر دموية لا تدل إلا على حقد أسود متأصل في نفوس ووجدان الصليبيين.  قال الراهب "روبرت" أحد الصليبيين المتعصبين وهو شاهد عيان لما حدث في بيت المقدس، واصفا سلوك قومه: (كان قومنا يجوبون الشوارع والميادين وسطوح البيوت ليرووا غليلهم من التقتيل، وذلك كاللبؤات التي خطفت صغـارها، كانوا يذبحـون الأولاد والشباب، ويقطعونهم إربا إربا، وكانوا يشنقون أناسا كثيرين بحبل واحد بغيـة السرعة، وكانت الدماء تسيل كالأنهار في طرق المدينة المغطاة بالجثث).

أما في المرة الثانية فإن القرآن لم يذكر كلمة جاسوا، لأن المستعمرين الأوربيين احتلوا مواقع معينة ليثبتوا سيطرتهم على البلاد ولم يعثوا في الأرض المقدسة قتلا وتدميرا للصغير والكبير وبشكل عشوائي كما حصل في المرة الأولى، فكان دخولهم مجرد سيطرة على البلاد لاستعمارها ما لم يعارضهم أحد.  فدخولهم في المرة الثانية للأرض المقدسة وللمسجد هو بمثابة إهانة لأهل الديار بسبب ضعفهم (لِيَسُٓـُٔوا۟ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا۟ ٱلْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍۢ).  وجزء من الأوربيين الذين أتوا في المرة الثانية كانوا اليهود من بني إسرائيل، فبعد أن سيطر الأوربيون على البلاد، ساعدوا في ترحيل اليهود الأوربيين إلى الأرض المقدسة.  ثم سلمت الأرض المقدسة لليهود من قبل البريطانيين ليقيموا فيها دولتهم إسرائيل في عام 1948، وبذلك بدأ الخراب والدمار والاستيلاء على أراضي الفلسطينيين وتهجير سكانها من قبل اليهود المهاجرين.  فلقد مكن الله اليهود المهاجرين من بني إسرائيل على سكانها الأصليين من بني إسرائيل، ولله في خلقه شؤون.  وكلما علا بني إسرائيل من اليهود في الأرض (وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا) كلما ازداد الخراب والدمار على أهل سكان البلاد الأصليين من بني إسرائيل حتى وقتنا الحاضر، وذلك بسبب الأسلحة الثقيلة التي يمتلكونها (وَلِيُتَبِّرُوا۟ مَا عَلَوْا۟ تَتْبِيرًا)، أي ليخربوا ما علوا تخريبا.

الناس كلهم عباد الله بغض النظر عن معتقداتهم (إِن كُلُّ مَن فِى ٱلسَّمَـٰوَ‌اتِ وَٱلْأَرْضِ إِلَّآ ءَاتِى ٱلرَّحْمَـٰنِ عَبْدًۭا) مريم:93، وعندما ينتشر الظلم والفساد بين أي طرف من عباده فإنه تعالى قد ينتقم منهم سواء بعذاب من عنده أو بتسليط عباد أخرين عليهم، سنة الله في خلقه، وفي الحديث: {والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله عز وجل أن يبعث عليكم عذابا من عنده ثم تدعونه فلا يستجاب لكم}.

وعن أبي بكر الصديق قال، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : {إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله تعالى بعذاب منه}.  وفي قول لابن تيميه: "إن الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة".

اللهم لا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يخشاك ولا يرحمنا

لقد علا اليهود من بني إسرائيل في الأرض بسبب جهدهم وعرقهم وليس بسبب المورثات التي فيهم من نبي الله إسرائيل، فإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.  فالكثير من يحمل مورثات نبي الله إسرائيل، ولكن لا فائدة لها إن لم تتبع بالجهد والعلم والعمل.  فمن جد وجد، ومن زرع حصد، ومن سار على الدرب وصل.