الحقوق الاجتماعية لغير المسلمين في المجتمع الإسلامي

الحقوق الاجتماعية لغير المسلمين

في المجتمع الإسلامي

دندل جبر

للمواطنين غير المسلمين في المجتمع الإسلامي حقوق اجتماعية أمر بها الإسلام أتباعه لتتكون اللحمة الاجتماعية من خلالها وتسود المجتمع الألفة والمحبة والتعاون والشعور بالأمن والطمأنينة.

أولاً: حسن المعاشرة

إن التسامح وحسن المعاشرة اللذين تميز بهما الإسلام مع غير المسلمين في المجتمع الإسلامي لم يصل إلى مستواه أهل دين من الأديان ولا أتباع مذهب من المذاهب السياسية أو الاجتماعية أو العقائدية.

ومن أجل أن يكون هذا المجتمع مجتمعاً موحداً متعاوناً لا بد أن تسود فيه الألفة والمحبة ويتسامى على الخلافات العقائدية التي يدين بها أفراده.

إن غير المسلم الذي لا يحارب الإسلام قد تكون مودته واجبة وصلته فريضة دينية، وذلك شأن الزوجة الكتابية وأهلها الذين هم أخوال أبناء المسلم وجدته وجده، وكلهم من ذوي الأرحام الذين صلتهم واجبة على المسلم، ومودتهم قربة يراد بها وجه الله تعالى، وقطيعتهم ذنب وإثم، ويكفي هنا ما في الحديث القدسي: "الرحم مني.. ومن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته" (معناه متفق عليه وهو في البخاري بلفظ مختلف . انظر: محمد فؤاد عبد الباقي – اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان – جـــــ 3 – حديث رقم 1655 – ص188).

ورسول الله صلى الله عليه وسلم الذي تنزّل عليه القرآن الكريم بكل سوره وآياته وكلماته وحروفه "كان بحضر ولائم أهل الكتاب، ويغشى مجالسهم، ويواسيهم في مصائبهم، ويعاملهم بكل أنواع المعاملات التي يتبادلها المجتمعون في جماعة يحكمها قانون واحد، وتشغل مكاناً مشتركاً، فقد كان يقترض منهم نقوداً ويرهنهم متاعاً، ولم يكن ذلك عجزاً من أصحابه عن إقراضه، فإن بعضهم كان ثرياً، وكلهم يتلهف عن أن يقرض رسول الله، وإنما كان يفعل ذلك تعليماً للأمة، وتثبيتاً عملياً لما يدعو إليه من سلام ووئام، وتدليلاً على أن الإسلام لا يقطع علاقات المسلمين مع مواطنيهم من غير دينهم" (الدكتور أحمد محمد الحوفي – سماحة الإسلام – القاهرة – سنة 1958 – ص87 – 88).

وقد نهج الخلفاء – من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم – ومن تبعهم بإحسان نهج الرسول عليه السلام في معاملة أهل العهد التي تعتبر مضرب مثل في التسامح وحسن المعاشرة.

ومن التعليمات التي أمر بها الإسلام والتي تدعم حسن المعاشرة مع غير المسلمين في المجتمع الإسلامي ما يلي:

أ- البر والإحسان والرحمة:

- قال الله تعالى: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين، إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم المظالمون) (الممتحنة 8 – 9).

والبر: هو الفضل والخير. والقسط: هو العدل. فهما بنص القرآن الكريم مطلوبان من المسلم للناس كافة، بل للخلق كافة يستوي في ذلك من الناس من آمن بالإسلام ومن كفر به. (الدكتور محمد سليم العوا – النظام السياسي للدولة الإسلامية – طـــ 7 – القاهرة – طبعة دار الشروق الأولى – 1410هـــــ - 1989م – ص248 – 249).

- وهذا الإمام عليه رضي الله عنه يصدر توجيهاته لواليه في مصر مالك الأشقر النخعي مذكراً إياه بالرحمة والمحبة واللطف للرعية المسلمين وغير المسلمين فيقول: "وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين، وإما نظير لك في الخلق، يفرط منهم الزلل، وتعرض لهم العلل، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ، فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب أن يعطيك الله من عفوه" (محمد عبده نهج البلاغة – من خطب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب – جــــــ 3 – ص84).

وقد كان فقهاء المسلمين حريصين على تذكير حكام المسلمين بالرعاية والعدل والرفق لأهل العهد، ومن ذلك ما كتبه الإمام أبو يوسف في وصيته لأمير المؤمنين هارون الرشيد. "وقد ينبغي يا أمير المؤمنين – أيدك الله – أن تتقدم في الرفق بأهل ذمة نبيك وابن عمك محمد صلى الله عليه وسلم والتقدم لهم حتى لا يظلموا ولا يؤذوا..." (الإمام أبو يوسف – الخراج – ص124 – 125).

- يقول عليه الصلاة والسلام: "الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء".

ب- رعاية الجوار:

- قال الله تعالى: (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالاً فخوراً) (النساء – 36).

في هذه الآية يقرن الله سبحانه وتعالى بين عبادته والإحسان إلى الوالدين.. ثم الإحسان إلى الجوار القريب منهم والبعيد، المسلم منهم وغير المسلم، وتوصية من الله عز وجل لعباده تلزمهم بحسن المعاملة والمعاشرة ورعاية المذكورين ومنهم الجوار، إنها توجب حقوقاً ثابتة للجار على جاره في كل ما تستلزمه الرعاية ويتطلبه الإحسان ويستدعيه حسن العشرة من تصرفات.

وجاء في بعض التأويلات في قوله تعالى: "والجار ذي القربى والجار الجنب" قال أبو إسحاق عن نوف البكالي (والجار ذي القربى يعني الجار المسلم، والجار الجنب يعني اليهودي والنصراني. رواه ابن جرير وابن أبي حاتم. (تفسير ابن كثير – مج1 ص 506).

- روى الإمام أحمد عن عبدالله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه" أخرجه في الصحيحين من حديث محمد بن زيد بن عبدالله بن عمر به. (المصدر السابق).

- وأخرج البزار أنه صلى الله عليه وسلم قال: "ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع وهو يعلم" (منهاج الصالحين – ص280 – رقم الحديث 764).

- روى الترمذي بسنده عن عبدالله بن عمرو بن العاص أنه ذبحت له شاة في أهله، فلما جاء قال: "أهديتم لجارنا اليهودي؟ أهديتم لجارنا اليهودي؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه" (سنن الترمذي – حديث رقم 1943).

- وفي أول صلاة جمعة صلاها عمرو بن العاص بجامعه بالفسطاط في مصر خطب المصلين قائلاً: "... استوصوا بمن جاوركم من القبط خيراً، فإن لكم فيهم ذمة وصهراً، فكفوا أيديكم، وعفّوا، وغضوا أبصاركم..". (عبد الرحمن الشرقاوي – الفاروق – ص247).

جــــــ- مشاركتهم في أعيادهم الدينية وتهنئتهم وتلبية دعوة أعراسهم:

إن من حسن المعاشرة لغير المسلمين في المجتمع الإسلامي، مشاركتهم في أعيادهم الدينية وفي أفراحهم وأحزانهم، وهذا ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان "يحضر ولائم أهل الكتاب ويغشى مجالسهم ويواسيهم في مصائبهم ويعاملهم بكل أنواع المعاملات التي يتبادلها المجتمعون في جماعة يحكمها قانون واحد، وتشغل مكاناً مشتركاً" (الدكتور أحمد محمد الحوفي – سماحة الإسلام – القاهرة – 1958م ص87 – 88).

- وقد نهج أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهج رسول الله عليه الصلاة والسلام من بعده في حسن التعامل والعشرة مع مواطنيهم من غير المسلمين.

- يقول الدكتور مصطفى السباعي: "ومن مظاهر التسامح الديني في حضارتنا الاشتراك بالأعياد الدينية، بمباهجها وزينتها، فمنذ العهد الأموي كانت للنصارى احتفالاتهم العامة في الشوارع تتقدمها الصلبان ورجال الدين بألبستهم الكهنونية، وقد دخل البطريرك ميخائيل مدينة الإسكندرية في احتفال رائع، وبين يديه الشموع والصلبان والأناجيل.. وجرت العادة أيام الرشيد بأن يخرج النصارى في موكب كبير وبين أيديهم الصليب، وكان ذلك يوم عيد الفصح" (الدكتور مصطفى السباعي – من روائع حضارتنا – ص90).

د – أكل طعامهم:

- اتفق الفقهاء – ما عدا بعض الشيعة الإمامية – على حل ذبائح أهل الكتاب خاصة، ونقل ابن قدامة عن ابن المنذر إجماع أهل العلم في ذلك (ابن قدامة – المغني – جـــ8 ص568، ابن قيم الجوزية – أحكام أهل الذمة – جـــــ 1 ص2459).

ودليل هذا الحكم قول الله تعالى: (اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لهم) (المائدة – 5).

وظاهر النص القرآني يقتضي حل عموم طعام أهل الكتاب إلا ما قام الدليل على تحريمه، يقول سبحانه وتعالى: (إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله) (البقرة – 173) فهذه الذبائح ونحوها مما حرم الله لا يجوز لمسلم تناولها من طعام أهل الكتاب لأنها ممنوعات لذاتها في الشريعة الإسلامية.

- جماهير السلف حمل لفظ الطعام في الآية على ذبائح أهل الكتاب خاصة.

- ودليله من السنة ما أخرجه أحمد بإسناده عن قيس بن سكن الأسدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنكم نزلتم بفارس من النبط، فإن اشتريتم لحماً فإن كان من يهودي أو نصراني فكلوا، وإن كان من ذبيحة مجوسي فلا تأكلوا" (ابن قدامة – المغني – جــــ8 ص570).

والرسول عليه الصلاة والسلام كان يأكل من طعام أهل الكتاب سواء دعي إلى وليمة عندهم أم أهدي إليه منهم، وعلى هذا نهج المسلمون من بعده صلى الله عليه وسلم، فكانوا يؤاكلون أهل الكتاب سواء كانوا داعين أو مدعوين.

هــــ- عيادة مرضاهم:

- روى أبو داود بسنده عن أنس رضي الله عنه، أن غلاماً من اليهود كان مريض فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده، فقعد عند رأسه، فقال له أسلم، فنظر إلى أبيه وهو عند رأسه، فقال له أبوه: أطع أبا القاسم، فأسلم، فقام النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذه من النار" (أبو داود – السنن – جــــ3 ص185 – حديث رقم 3095).

- ورسول الله صلى الله عليه وسلم قدوة للمسلمين في أفعاله، وبهذا يكون قد خط لهم حسن التعامل مع غير المسلمين في المجتمع الإسلامي، ومن ذلك عيادة مرضاهم ومشاركتهم في مصابهم، وإدخال السرور إلى نفوسهم وإشعارهم بالمودة والمحبة في قلوبهم، يقول سبحانه وتعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً) (الأحزاب – 21).

و- المهاداة (التهادي):

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية من غير المسلمين – كما كان يقبلها من المسلمين – وكذلك كان صلى الله عليه وسلم يقدم لهم الهدايا – حتى أصبح هذا السلوك من سمات المسلمين في تعاملهم مع غير المسلمين اقتداء برسول الله، وامتثالاً لتوجيهاته في قوله: "تهادوا تحابوا" (كشف الخفا ومزيل الإلباس للعجلوني – مج 1 ص285 – دار الكتب العلمية – بيروت)، لأن التهادي بين الناس يورث المحبة والمودة ويزيد في لحمة التقارب بينهم، عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ويثيب عليها" (صحيح البخاري – كتاب الهبة وفضلها – باب المكافأة في الهبة – حديث رقم 2585).

وجاء في صحيح البخاري قال: أبو حميد: "أهدى ملك أيلة للنبي صلى الله عليه وسلم بغلة بيضاء، وكساه برداً، وكتب إليهم ببحرهم" (المصدر السابق – باب قبول الهدية من المشركين).

- وعن قتادة عن أنس رضي الله عنه: "أن أكيدر دومة الجندل أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم حُلّة..." (متفق عليه في الصحيحين).

ز- آداب الحوار:

قال الله تعالى: (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلاهكم واحد ونحن له مسلمون). (العنكبوت – 46).

وهذا النص القرآني، وإن كان عاماً في كل جدل يتصور وقوعه بين المسلمين وأهل الكتاب، فإن أولى ما يتبع فيه حين يكون الجدال في أمر ديني تجنباً لإيغار الصدور، وإيقاد نار العصبية والبغضاء في القلوب (الدكتور يوسف القرضاوي – غير المسلمين في المجتمع الإسلامي – القاهرة – 1977م – ص6).

بل إن عفة اللسان واجبة على المسلم حتى مع المشركين من عبدة الأوثان، ففيهم نزل قول الله تعالى: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم) (الأنعام – 108) ... (الدكتور محمد سليم العوا – في النظام السياسي للدولة الإسلامية – القاهرة –  طبعة دار الشروق الأولى – 1410هــــ 1989م – ص250).

- وكلما كانت لغة الحوار لطيفة حكيمة كانت أبلغ في الاستماع والإنصات والقبول، يقول الله تعالى: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن) (النحل – 125).

ويوصي الله عز وجل رسوليه إلى فرعون – موسى وهارون – أن يخاطباه بلين الكلام وطيبه لعله يكون أنجع وأبلغ في التذكر وخشية الله، فيقول تعالى: (اذهبا إلى فرعون إنه طغى، فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى) (طه – 43 – 44).

ح- عدم الإيذاء:

حذر فقهاء المسلمين وعلماؤهم تحذيراً شديداً من إيذاء غير المسلمين في المجتمع الإسلامي، لأن في إيذائهم خروجاً على عقد العهد الذي أعطاه المسلمون لهم، ولأن الأصل في معاملتهم هو حسن العشرة وما يُمكّن ويُمتّن أواصر الألفة والمودة معهم، ما لم يعادوا الإسلام والمسلمين.

بل لقد صرح بعضهم بأنه كما تحرم غيبة المسلم تحرم غيبة أهل العهد، وأن ظلم المعاهد هو أشد إثماً من ظلم المسلم.

يقول ابن عابدين في حاشيته: "تحرم غيبته (أي المعاهد) كالمسلم، لأنه بعقد الذمة وجب له مالنا ، فإذا حرمت غيبة المسلم حرمت غيبته، بل قالوا: إن ظلم الذمي أشد" (حاشية ابن عابدين (رد المحتار على الدر المختار) – جـــــ3 ص386).

- ومعنى الإيذاء لا يخص الإيذاء المادي أو الجسدي فقط، بل يشمل أيضاً الإيذاء المعنوي الذي فيه مساس بالمشاعر والكرامة الإنسانية، لذلك: يمنع المسلم من أن يقول للذمي يا كافر، أو يا عدو الله، لتأذيه بمثل هذه العبارات، ويستحق المسلم التعزير (أي العقوبة) على ذلك. (المصدر السابق – جـــ3 ص418).

وتحذير الفقهاء من الإساءة لأهل العهد وعدم إيذائهم، والدعوة إلى حسن معاملتهم ومعاشرتهم، مستمد ومستوحى من تعاليم وتوجيهات كتاب الله ورسوله الكريم صلى الله عليه وسلم.

- يقول عليه الصلاة والسلام: "من آذى ذمياً فأنا خصمه، ومن كنت خصمه خصمته يوم القيامة" (السيوطي – الجامع الصغير – جـــ2 ص473).

- ويقول أيضاً: "ألا من ظلم معاهداً أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة" (سنن أبي داود – رقم الحديث 3052). (البيهقي – السنن الكبرى – جــــ9 ص205).