تداعيات ما بعد النووي الإيراني

شهدت المنطقة في الأشهر الأخيرة تطورات مهمة سوف تؤثر تداعياتها على مجمل الصراعات المحتدمة في المنطقة . لعل أبرزها،توقيع الاتفاق حول الملف النووي الإيراني نهاية حزيران الماضي،وضمنت فيه الولايات المتحدة سلمية البرنامج النووي الإيراني لمدة عشر سنوات قادمة على الأقل ،وخضوع المنشآت النووية الإيرانية وغيرها من المواقع للتفتيش والرقابة من قبل الوكالة الدولية للطاقة الذرية مقابل رفع تدريجي للعقوبات المفروضة على إيران على خلفية برنامجها النووي .مايهمنا من الاتفاق هو انعكاساته على الملفات الساخنة في المنطقة وعلى المصالح الأساسية للدول الإقليمية (إسرائيل –تركيا-السعودية ) ،وما هي ردود أفعال هذه الدول ؟وكيف ستكون توجهات السياسة الإيرانية ودورها في صراعات النفوذ في المنطقة ؟.قد يكون من المبكر التنبؤ بذلك ،لأن إيران طرف مباشر في الصراعات الدائرة وهي غير مستعجلة على كشف خططهالاستحقاقات ما بعد الاتفاق ،خاصة وأن الاتفاق مازال بحاجة إلى مصادقة الجهات التشريعية في البلدين،كما نعتقد أن الحراك الدبلوماسي الإيراني في هذه الفترة هو للتغطية على الهزائم التي يمنى بها مشروعها للهيمنة في اليمن وفي سوريا والعراق ، لذلك لم يلق أحد بالا لدعواتها ومبادراتها ،كما يعتقد أيضا أن الضجيج الذي تثيره إسرائيل حول الاتفاق لايعدو كونه مساهمة في زيادة الضغوط على الجناح المتطرف في النظام الإيراني أكثر منه تخوفا على أمنها .

 تميزت انطلاقة ثورات الربيع العربي التي أطلقها البوعزيزي في تونس عام 2010وتدحرجت إلى ليبيا ومصر واليمن وسوريا ثم العراق بمجموعة من الخصائص الرئيسية ،أولها أنها ثورات في وجه الأنظمة الاستبدادية الحاكمة ،واختزنت رغبة جامحة لإحداث تغيير جذري في بنية هذه الأنظمة ،وثانيها أن هذا الربيع اصطدم ليس فقط بالأنظمة وأجهزتها القمعية ،بل اصطدم أيضا بإيران وأذرعها الميليشاوية الشيعية المتواجدة في المنطقة أو المستجلبة من خارجها بخاصة في سوريا والعراق واليمن ،وثالثها أنها واجهت موقفا دوليا غير متحمس للتغيير ،ولم يتجاوب مع تطلعات الشعوب نحو الحرية ،على العكس فقد غض الطرف عن عنف الأنظمة وخذل القوى الديموفراطية ، وواجه قوى التغيير عبر ربطها بفكرة الإرهاب للتعتيم على جوهر الصراع ،في حين تجاهل ارهاب الميليشيات الشيعية وجرائمها .إن تملص المجتمع الدولي من القيام بواجبه في حماية المدنيين ،وسماحه بهذا الكم من العنف والدمار ،وتأمين الغطاء السياسي للأنظمة في المحافل الدولية ،ستكون له انعكاسات سلبية ، قد تضع فكرة المجتمع الدولي برمته تحت التساؤل .

 بعد أربع سنوات ونيف ،باتت لوحة الصراع على الأرض أكثر وضوحا.وقابلية للاستنتاج والتقدير .ففي سوريا ،تعاني قوات النظام وحلفاؤه تراجعا متسارعا ونقصا في القوى البشرية ،وتتنقل من هزيمة إلى أخرى وتواجه صمودا اسطوريا في الزبداني وجوبر وداريا ،إلا أن الأخطر على النظام تقدم داعش في ريف حمص الشرقي وهدفه قطع طريق دمشق حمص الحيوي وربما ماهو أبعد من ذلك ،ليس أدل على حالة الانهيار التي يعانيها النظام من اعتراف رأسه في خطابه الأخير بهذه الحقيقة ‘ودعوته الفاجرة لكل قوى الاحتلال في العالم ممن لديها القدرة على القدوم واحتلال سوريا ،لأنه يرى أن "سوريا ليست لأبنائها ومن يحملون جنسيتها بل هي لمن يدافع عنها " . حلفاء النظام أضحوا عاجزين عن إعادة تعويمه ،بعد أن عجزوا عن تأمين انتصاره وفي مقدمتهم حزب الله الذي سيهزم بسقوط النظام ويتخلص لبنان من شروره وتعطيله للدولة اللبنانية،إلا أن المجتمع الدولي يخشى انهيار النظام بشكل مفاجئ لذلك نشهد حراكا سياسيا محموما لإيجاد حل سياسي يرضي مصالح الدول المتصارعة على سوريا، حل لايبدو أن شروطه قد نضجت حتى الآن .إن أي حل لا يحقق تطلعات الثورة ولايكون المقاتلون على الأرض طرفا أساسيا في انجازه،فإنه لن يكون قابلا للاستمرار.وفي هذا السياق فإننا نعتقد أن خطة ديمستورا التي تلقت دعم مجلس الأمن الدولي في بيانه الرئاسي الأخير ،لا تعدو كونها تقطيعا للوقت ، ليس فقط لأنها غير منصفة وتتجاهل والوقائع على الأرض ومآسي الشعب السوري على يد النظام وحلفائه ،بل لأن المفاوضات والمساومات بين الدول الفاعلة بالملف السوري دوليا وإقليميا ،تجري في مكان آخر بانتظار أن تنضج .

 أما في اليمن فإن قوى المقاومة اليمنية المدعومة من قوى عاصفة الحزم ،على وشك أن تحسم الصراع وتهزم المشروع الإيراني في اليمن وأدواته من الحوثيين وصالح .فأغلب المدن اليمنية في الجنوب تحررت ولم يعد أمام الحوثثين في القريب العاجل بد من القبول بالقرار الأممي رقم 2216 وعودة الشرعية التي انقلبوا عليها إلى صنعاء.

 لاشك أن القضية العراقية لاتقل تعقيدا عن القضية السورية بحكم عمق النفوذ الإيراني والوجه الطائفي للصراع الذي أشعله المالكي طوال سني حكمه ، وتهميشه وإقصائه لمكون أساسي من مكونات العراق الثلاث هو المكون السني، كما والفساد الخرافي الذي مارسه.إن الحل في العراق لابد من أن يقوم على تحجيم النفوذ الإيراني وإيجاد صيغة يتجاوز فيها الوصول إليه عناد إيران وتوسع دور ميليشياتها ،وهشاشة الجيش العراقي وقواه الأمنية وبطء التحالف الدولي في حربه على داعش التي تستفيد من كل ذلك ،ولعل الحراك الشعبي الأخير في محافظات الجنوب ذو الطابع المطلبي إذا عم العراق وتصاعد قد يساهم في الوصول إلى عراق أكثر عدلا واندماجا واستقلالا .

 إن عودة العسكر إلى السلطة في مصر، وحربهم الشاملة على الإخوان تحت مسمى الإرهاب ،وعلى قوى الثورة الأخرى التي عارضتهم ،أغرق مصر في دوامة صراع داخلي مدمر ،يزيد في مشاكلها المستعصية ،ويمنعها من القيام بأي دور إقليمي فاعل ،كان يعول عليه في صراعات النفوذ على المنطقة ،التي ترتسم خطوطه في هذه المرحلة .لقد عمل حكام مصر الحاليين على إنهاء الثورة المصرية ،وهو مايجعلهم في تعارض مع تطلعات شعوب المنطقة ،لا بل أصبحوا جزءا" من الثورة المضادة ،يؤشر إليه موقفهم من ثورة الشعب السوري .

 لوحة الصراعات الدولية في المنطقة هي الأخرى باتت أكثر وضوحا .فالروس والصينيون والإيرانيون الذين شكلوا عائقا في وجه الثورة اصطدمت مصالحهم بمواقف شعوب المنطقة، وبدأ عائقهم بالتراجع وهو يعاني الفشل في سوريا وإلى حد ما في العراق وعلى وشك الهزيمة في اليمن مما يدلل على أزمة المشروع الإيراني وتراجع دورها .

قدمت التطورات الأخيرة جملة من الحقائق رسخها صمود الشعب السوري ومنها

1- إن تقسيم سوريا أصيح صعبا لأسباب داخلية يتمثل بتقدم الثوار وتراجع قوى النظام وأسباب إقليمية أيضا وذلك بعد انفضاح السياسة الإيرانية وخطرها في المنطقة ، وسياسات بعض الدول التي روجت للتقسيم .

2- فشل المبادرة الروسية التي دعت لحلف رباعي من دول المنطقة أحد أركانه النظام لمحاربة داعش الإرهابية وتجاهلها لإرهاب النظام بحق الشعب السوري .ذات الفشل لحق بالمبادرة الإيرانية التي تطرح الديمقراطيةالتوافقية ، والتي تعني حصريا المحاصصة الطائفية وهو ما يرفضه الشعب السوري بشكل قطعي .

3- إذا قيض لحل سياسي في سوريا أن يرى النور، وتاليا المرحلة الانتقالية ،فإنه يفترض على كافة تشكيلات المعارضة ومنها ائتلاف قوى الثورة والمعارضة شكلا جديدا من الاصطفاف وإعادة التموضع محدده الأساسي الارتكاز إلى جوهر أهداف الثورة ويلتزم الشعارات التي رافقت انطلاقتها ، كيما يمكن لها مواجهة استحقاقات هذه المرحلة الحساسة بفاعلية.

4- فيما يتعلق بالقضية الكردية في سوريا ،فإن إعلان دمشق سبق له منذ عام 2005 ،ثم أكد وأضاف في عام 2012 ،أن قدم رؤية لحل هذه القضية في سياق حل ديمقراطي لعموم سوريا كانت الحاجة ملحة له ،حلا يقوم على مبدأ المواطنة المتساوية وحصول الأكراد على كامل حقوقهم المشروعة واعتماد اللامركزية الإدارية في الحكم ، والحفاظ على وحدة سوريا أرضا وشعبا ، ونعتقد أن هذا الحل مازال هو الحل والواقعي والآمن ،بالقدر نفسه الذي نعتقد فيه أن أوهام بعض المتطرفين الأكراد السوريين التي تستند إلى معطيات عابرة في السياسات الدولية والإقليمية ،سوف تتحطم على جدران مصالح تلك الدول .

 أمام ماتقدم هل يمكن لنا التقدير أن المجتمع الدولي قد دخل مرحلة التسويات الشاملة للمنطقة ؟،أم نحن أمام حلول جزئية لكل ملف على حده ؟ الوقائع المتسارعة على الأرض في كافة الساحات المشتعلة سوف تجبرها على البحث الحثيث عن تسويات وهذا البحث قد بدأ بالفعل .فالحراك السياسي المحموم وما شهدته الدوحة ومسقطوطهران وموسكو والمبادرتين الروسية والإيرانية الفاشلتين ،والمنطقة التركية الآمنة في شمال سوريا ،كلها جزء من هذا السعي نحو التسويات التي نعتقد أنها ستكون شاملة لأن الملفات مترابطة ،لكن الخطوات سوف تكون جزئية لأسباب عملية.وما زالت الخشية قائمة من تسويات دولية أو إقليمية على حساب شعوب المنطقة التي دفعت غاليا من دماء أبنائها إذا لم تتضمن الخلاص النهائي من الاستبداد،وأن يحترم حقها في تقرير مصيرها واختيار شكل نظام الحكم الذي ترتضيه ،أو إذا تجاهلت هذه التسويات مخاطر الصراعات القومية أو المذهبية التي اشتغلت عليها إيران وآخرون .

 إن هذه الثورة العظيمة التي اقتربت أكثر من أي يوم مضى من تحقيق هدفها بهزيمة الاستبداد الذي ثارت عليه وحطمت بصمودها كل أحلام الذين عملوا على تطويع تطلعات الشعب السوري وشعوب المنطقة نحو الحرية والكرامة والعدالة ،مؤكد أنها سوف تقطع الطريق على أي استبداد قادم .

تحية لأرواح الشهداء

عاشت سوريا حرة وديمقراطية

دمشق في 24 / 8 /2015

الأمانة العامة لإعلان دمشق

للتغيير الوطني الديمقراطي​

وسوم: العدد 630