" سيسي" تركيا الأول... الجنرال جمال جورسيل!

في مقال سابق نقلت شهادة الضابط “مظفر أركان” ( 72 عاما) الذي أشرف علي إعدام عدنان مندريس رئيس الوزراء التركي الممنتخب عام 1961م وهو الضابط الذي خرج عن صمته وروي- لأول مرة - ماجري يوم الإعدام بعد صمت دام أربعة وخمسين عاما .

قاتل مندريس هو الجنرال جمال جورسيل قائد الانقلاب العسكري عام 1960م .ومن يتوقف أمام دوافع وتدابير انقلاب عسكرتركيا جمال قبل خمسة وستين عاما يجدها نفس الخطة التي سارعليها عبد الفتاح السيسي في الانقلاب علي الرئيس محمد مرسي كما أن طريقة المحاكمات ووحشية التعامل تكاد تكون هي هي لأنها فالعقلية العسكرية العلمانية المتطرفة والحاقدة علي الإسلام واحدة لا تتغير .

الجنرال جمال جورسيل إذا هو من افتتح أسود حقبة في تاريخ تركيا .. حقبة الانقلابات العسكرية التي وضعت البلاد في دوامة من الانقلابات العسكرية بلغت أربع انقلابات علي مدي ما يقرب من نصف قرن هوت بها إلي القاع فقدت تركيا خلالها اقتصادها وشعبها بين معتقل ومقتول ومطارد ومعذب ومشرد .. وهو هو نفس الطريق التي وضع السيسي مصر اليوم إن لم يتداركها الله برحمته . تلك الانقلابات العسكرية البغيضة في تركيا كما انقلاب السيسي ومعظم الانقلابات العسكرية في العالم تمت بهندسة وإشراف الولايات المتحدة الأمريكية والصهيونية العالمية للتخلص من حكام كادوا يضعون بلادهم علي سكة العودة ببلادهم للإسلام بمنظومته الحضارية والانطلاق بها النهضة .

أعود إلي الوراء قليلا في عام 1923 م حين نجح نجح مصطفي كمال في الانقلاب علي الخلافة بمساعدة وتدبير تحالف دولي ماسوني . يومها أعلن مصطفي كمال قيام الجمهورية التركية . وفي عام عام 1924م ألغى مصطفى كمال الخلافة الاسلامية وقام بنفي الخليفة وجميع أسرة آل عثمان خارج تركيا ومنع أفراد أسرة آل عثمان من دخول الاراضي التركية أو مجرد المرور في مجالها الجوي كما حظر دفنهم في الاراضي التركية !

وقرر سلسلة مغلظة من المحظورات الكفيلة بقطع الشعب عن الإسلام نهائيا فقام بحظرما يلي :

• الحجاب 

• التعليم الديني بما فيه تعليم القرآن 

• بناء المساجد 

• أعياد الفطر والأضحى وجعل يوم الأحد هو يوم العطلة الأسبوعية 

• رحلات الحج والعمرة

• حظر رفع الأذان باللغة العربية 

• ارتداء الملابس العربية 

• غير الأبجدية التركية من أبجدية عربية إلى أببجدية لا تينية 4

• منع موظفي الدولة من إطلاق اللحية .

و في عام 1938م رحل مصطفى كمال لكن دفة الحكم ظلت في يد حزبه ( حزب الشعب الجمهوري ) وهو الحزب الوحيد في البلاد والذي ظل وفيا لمصطفي كما واستمر على نهجه .

بدأ عدنان مندريس - المولود عام 1899م لأسرة من كبار ملاك الأراضي الزراعية حياته السياسية - عام 1931م بإدارة فرع الحزب الجمهوري الليبرالي (الحر). وانضم إلى صفوف حزب الشعب الجمهوري عقب إغلاق حزبه. وفي عام 1931م انتخب نائباً في البرلمان من الحزب في مدينة " أيضن." ، وفي عام 1945م تم فصله عن حزب الشعب الجمهوري بسبب اختلافه مع عصمت إينونو خليفة مصطفي كمال حول قانون الإصلاح الزراعي، يومها اعتبره الحزب يمثل معارضة تهدده من الداخل . 

قام مندريس مع ثلاثة من أصدقائه "جلال بايار" و"فؤاد كوبرولي" و"رفيق كورالتان" الذين تم فصلهم أيضاً من حزب الشعب الجمهوري في 7 ديسمبر من عام 1945م بتأسيس " الحزب الديمقراطي " الذي شارك عام 1946م في الانتخابات العامة، وحصل على 62 مقعدا، لكنه حصل علي الأغلبية الساحقة في انتخابات عام 1950 م واضعا بذلك حدا ليهمنة حزب الشعب الجمهوري لأول مرة في تاريخه منذ عام 1923م وشكل مندريس علي إثر ذلك الحكومة .

كان مندريس قد خاض حملة حزبه الانتخابية ببرنامج وعد الشعب فيه بإلغاء الإجراءات العلمانية الصارمة التي اتخذها سلفيه أتاتورك و إينونو ضد كل ما له صلة بالإسلام ، وحينما فاز مندريس أوفى بوعوده للشعب التركي :

- سمح بتعليم اللغة العربية 

- قراءة القرآن الكريم وتدريسه في جميع المدارس حتى الثانوية .

- أنشأ (١٠ آلاف) مسجد ، وأعاد المساجد التي حولها نظام مصطفي كمال إلي مخازن للحبوب و لتكون أماكن للعبادة مثلما كانت.وأعاد الأذان باللغة العربية .

- فتح (25 ألف) مدرسة لتحفيظ القرآن،

- أنشأ (٢٢) معهداً في الأناضول لتخريج الوعاظ والخطباء وأساتذة الدين. 

- سمح بإصدار المجلات والكتب التي تدعو إلى التمسك بالإسلام والسير على هديه. 

- تقارب مندريس مع العرب ضد إسرائيل ، وطرد السفير الإسرائيلي سنة (1956م). 

- فرض الرقابة على الأدوية والبضائع التي تصنع في إسرائيل . 

وقد أسهمت إصلاحات مندريس في تراجع حدة التوتر الذي كان سائدا بين السكان والدولة بسبب الإجراءات المناهضة للإسلام والمعادية لكل مظاهر التدين والعبادات.

لكن الجيش ظل ينظر إلى إصلاحاته بعين الريبة والشك في صباح 27 مايو/أيار عام 1960 تحرك الجيش التركي ليقوم بأول انقلاب عسكري خلال العهد الجمهوري، حيث سيطر على الحكم 38 ضابطا برئاسة الجنرال جمال جورسيل، وقام قائد الانقلاب بعملية عزل واسعة داخل قيادات الجيش التركي حتي يستقر الوضع له أحال بمقتضاها 235 جنرالا وخمسة آلاف ضابط بينهم رئيس هيئة الأركان إلى التقاعد، وتم وقف نشاط الحزب الديمقراطي حزب مندريس واعتقل رئيس الوزراء عدنان مندريس ورئيس الجمهورية جلال بايار مع عدد من الوزراء وتم الزج بهم في السجن بجزيرة يصي أدا. وبعد محاكمة صورية تم سجن رئيس الجمهورية مدى الحياة فيما حكم بالإعدام على مندريس ووزيري خارجيته وماليته، وكانت التهمة هي اعتزامهم قلب النظام العلماني وتأسيس دولة دينية .

وبهذا الانقلاب وضع جمال جورسيل تركيا في دوامة الانقلابات العسكرية فقد وقع الانقلاب العسكري الثاني في 12مارس عام 1971م من ذلك العام، ، وعُرف باسم "انقلاب المذكرة"، نسبة إلي مذكرة الجيش لحكومة سليمان ديميريل التي صدعتها الانشقاقات بعد اندلاع الاضطرابات والإضرابات العمالية والاغتيالات السياسية ووقوع سلسلة من التفجيرات علي يد الجناج اليساري مما أدي إلي ركود اقتصادي مصحوبا باضطرابات اجتماعية طوال عقد الستينيات من القرن العشرين. 

فقام رئيس هيئة الأركان العامة التركية، ممدوح تاجماك، بتسليم رئيس الوزراء سليمان ديميريل مذكرة كإنذار من المؤسسة العسكرية تطالبه "بتشكيل حكومة قوية ذات مصداقية في إطار المبادئ الديمقراطية (مبادئ مصطفي كمال ) وبحلول يناير عام 1971، عمت الفوضى أرجاء تركيا فقدم ديميريل استقالته بعد اجتماع استمر ثلاث ساعات مع حكومته. 

يومها قرر العسكر ممارسة السلطة من وراء ستار واختاروا في 19 مارس 1971م نهاد إريم لقيادة تلك الحكومة لكنها فشلت فشلا ذريعا علي مدي تسع سنوات حتي هوت بالبلاد للحضيض .وبدلا من أن يعود العسكر إلي رشدهم ويدركوا أنهم يدمروان البلاد بسيطرتهم علي الحكم ويدركوا ان الحل الطبيعي لتلك الكارثة هو إعادة حق الشعب في اختيار حكامه وممثليه بدلا من ذلك أوغل العسكر في السيطرة والسطوة فقاموا بانقلاب عسكري ثالث هو الأعنف والأكثر دموية في تاريخ تركيا علي يد الجنرال كنعان إيفرين في 12 سبتمبر عام 1980م ، ولم يعمل هذا الانقلاب علي تقويض واستئصال كافة المؤسسة السياسية في تركيا فحسب، بل أسس أيضاً لنظام سياسي قمعي صادر الحقوق والحريات الأساسية، بما في ذلك حرية التعبير والصحافة ، وحظر العديد من الأحزاب السياسية، مُنع عدد كبير من السياسيين السابقين من الترشح للمناصب العامة وتم اعتقال أكثر من ستمائة ألف وقتل المئات واعدام خمسمائة شخص دون سند أو مسوغ قانوني .

بقي إيفرين رئيساً للجمهورية التركية حتى عام 1989، ولكن حتى بعد انتهاء ولايته، بقيت المؤسسات التي بناها، مثل مجلس الأمن القومي الذي يسيطر عليه العسكر، معقلاً لقوة الجيش، لكن اتساع مؤيدي المدنية بين الشعب بصورة قوية في تسعينيات القرن الماضي، تم الحد من هيمنة العسكر على الحكم ، لكن نفوذ بعض الجنرالات استمر فمارسوا ضغوطا شديدة على السياسة عبرممرات وقنوات مختلفة .

توفي ايفرين عام 2015م عن عمر يناهز 89عام وكان قد صدر بحقه حكما بالسجن مدي الحياه عام 2014 مع قائد القوات الجويه الاسبق “تحسين شاهين كايا” لدورهما في الانقلاب العسكري عام 1980، وذلك بتهمه “قلب النظام الدستوري“. وسيظل ذلك الحكم محفورا في تاريخ الشعب التركي وشاهدا علي أن الشعب رفض دوما الانقلابات العسكرية بل وعاقبها عقابا شديدا . 

وفي عام 1997 م وقع الانقلاب العسكري الرابع وهو ما سمي بالانقلاب الابيض علي حكومه الزعيم الإسلامي “نجم الدين اربكان” مهندس الصحوة الإسلامية الحديثة في تركيا ، ففي عام 1995 م وصل حزب الرفاه وحليفه الطريق القويم الي السلطه ليصبح نجم الدين اربكان رئيسا للوزراء - اول رجل ذي توجّه اسلامي صريح يصل الي السلطه - وهو الامر الذي اغضب العلمانيين و دعاهم الي تحريك الاذرع العسكريه ضد الحكومه المنتخبه بقيادة الجنرال شفيق بير تلميذ كنعان إيفرين، مما اضطر الحكومة إلى الاستقالة تحت هذا الضغط، كما عملت السلطة القضائية –الحليف الأهم للجيش لفترة طويلة- على ختم هذا التدخل العسكري بخاتم قانوني بإصدار حكم بإغلاق حزب الرفاه.

تلك الحملة الضارية علي مدي أكثر من ثمانين عاما ( 1923م – 2004م ) لسلخ تركيا من دينها الإسلامي وتذويب هويتها وقطعها عن محيطها العربي والإسلامي لم تحقق أهدافها بل ظل الشعب التركي قابضا علي دينه متمسكا بهويته ومع كل انتخابات كان يجريها العسكر كان الشعب يوجه لهم صفعة مدوية تؤكد تمسكه بهويته ودينه ورفضه للانقلابات العسكرية .

بعد تلك السنين جاءت ساعة الحساب والعقاب، والمحاكمة لهؤلاء الجنرالات بل لظاهرة الانقلابات العسكرية بالحكم علي كنعان ايفرين بالسجن مدي الحياة .. واختار الشعب خياره الإسلامي بانتخاب حزب العدالة والتنمية منذ 2004م حتي اليوم وانتخب رئيس ومؤسس الحزب رجب طيب أردوغان رئيسا للجمهورية .

وسوم: 640