الدولة المدنية .. ومثقفو العسكر!

أ.د. حلمي محمد القاعود

[email protected]

أبدأ بتهنئة صديقي اللدود الدكتور جابر عصفور على  اعتلائه كرسي الوزرارة الذي ظل يحلم به مذ نهره الفريق أحمد شفيق في آخر وزارة من وزارات الرئيس المخلوع حسني مبارك ، وفرض عليه ترك الوزارة بعد إهانته أمام مجلس الوزراء . كان صديقي اللدود قد قبل أن يكون وزيرا في وزارة الاستبداد الأخيرة ، وخوّض إليها في بحار الدم والقمع والدمع والعار الذي ارتكبته حكومة مبارك ، وأدى اليمين الدستورية دون أن يستشعر وخزا من ضمير ومئات الشهداء قضوا برصاص القتلة والجلادين في ثورة يناير الموءودة .

لم يكف جابر عن الحلم بالوزارة التي تعاقب عليها عدد من الوزراء الحظائريين ، وعندما أعطت الأجهزة إياها الضوء الأخضر لأتباعها كي يسقطوا الرئيس المسلم محمد مرسي – فك الله أسره – ظهر صديقي اللدود لينضم إلى العصابات التي هاجمت مكتب وزير الثقافة غير الفاسد الذي أراد تطهير الوزارة الفاسدة وحمايتها من اللصوص الذين يسرقون بالقانون ، وكان جابر قبل الضوء الأخضر قد بدا وديعا ورقيقا ، وكفّ عن استخدام وصفه للإسلام بالإظلام والظلامية والرجعية والتخلف والأصولية والدولة الدينية !

وعندما حانت ساعة الصفر لحرمان الشعب المصري من ثمار ثورته ، وتحريم الإسلام عليه ، وفض العلاقة بينه وبين الديمقراطية والحرية ليكون أسيرا لحكم البيادة ؛ ظهر جابر في الصورة ، وأكْثر من التصريحات الموالية للعسكر ، لدرجة أنه طالب بإعدام الثوار ، وتأييد أحكام الإعدام التي صدرت ضدهم من الانقلاب العسكري الدموي الفاشي ، وبدا شامتا في شهداء رابعة وأخواتها الذين ذبحهم الانقلاب العسكري وأحرقهم وجرفهم باللودرات ، وألقاهم في حفرات لا يعرفها ذووهم !بل بدا مؤيدا لقتلهم دون أن يختلج له جفن أو يهتز له رمش!

صديقي اللدود ذكي ونشيط ، مذ كان طالبا ترعاه أستاذته سهير القلماوي ، وكتب إلى جمال عبد الناصر الذي  عينه معيدا في كلية الآداب ، فكان من جنود الزعيم الملهم ، ومالبث أن جاء السادات فكان التلميذ على دين أستاذته التي رعت سيدة مصر الأولى في رسالتي الماجستير والدكتوراه ، وقام بالواجب تجاه  الطالبة جيهات صفوت رءوف أوجيهان السادات وفقا للتقاليد الغربية ، بوصفها أضحت زميلة في قسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة القاهرة ، ولم يجد حرجا أن يقدم لها مع مرشده الأعلى لويس عوض المساعدة العلمية الممكنة في منزل الرئاسة ، لدرجة أن التلميذة أطلت عليهما ذات يوم من أعلى السلم في بيت الجيزة لتقول لهما : إنها مشغولة ولن تستطيع استقبالهما!

الكتور جابر شديد الذكاء ، وقد استطاع استثمار ذكائه يوم زار الفنان فاروق حسني هيئة الكتاب ومجلة فصول التي كان جابر ضمن هيئة تحريرها ليرقى إلى رئاسة التحرير ، ويبدأ رحلة الصعود في عهد مبارك ويكون الذراع اليمنى للوزير الفنان ، وصانع حظيرته الثقافية الشهيرة التي أدخلت المثقفين المشتاقين إلى حضن الدولة البوليسية العتيدة ، ويتولى سكرتارية المجلس الأعلى للثقافة ، ويكون الموجه والمرشد والمسوغ للوزير الفنان المقرب من سيدة مصر الأخيرة ، وبالتالي فقد اقترب صديقي اللدود من بيت الحكم مرة أخرى ، وكان عضوا بالمجلس القومي للمرأة التي ترأسه السيدة سوزان ثابت أو سوزان مبارك وفقا للتقاليد الغربية ، وعاش الدكتور جابر أجمل أيامه وخاصة حين قاد مع الرفاق الماركسيين وأشباههم معركة النظام البوليسي الفاشي ضد الإسلام التي سميت آنئذ بالمعركة ضد الإرهاب ، وبلغت المعركة ذروتها مع ما يسمى بقضية نصر أبوزيد – تلميذ الماركسيين الذي أرادوا ترقيته عنوة ، دون الخضوع لقواعد الترقية وموافقة الأغلبية من أساتذة اللجنة !

لقد ازدهرت حياة جابر الثقافية ، ودعمته الحظيرة ، وصار قريبا من السلطة البوليسية الفاشية في مستواها الرئاسي ، وأضحى نجما ثقافيا يتصدر مع حظيرته المشهد الثقافي محليا وعربيا : في الكتابة والنشر والمؤتمرات والندوات والجوائزوالاحتفاليات والسفريات وغيرها .

وأشهد ان ذكاءه الثقافي كان من وراء صعوده في جامعة الكويت التي عمل بها  بضع سنوات ، حتى وصل إلى منصب مساعد العميد ، ولا أصدق ما قيل إنه كان يضحي بزملائه المصريين ويتسبب في إنهاء عقودهم ولا يبقي إلا على الموالين له أو المسايرين . إنه نشط ومتحرك ، ويعرف كيف يتواءم مع السلطة أية سلطة بحيث يكون الأبرز والأشهر والمُقدم .. لدرجة أن العقيد القذافي المعروف بعدائه للمثقفين والمواطنين جميعا والديكتاتور الأول في العالم الثالث منحه جائزته المالية الضخمة ، وقبلها الدكتور جابر ، ولم يردها بعد سقوطه كما زعم حتى هذه اللحظة .

لقد عزف صديقي اللدود على وتر مهم في كتاباته العامة قرّبه من معظم حكام المنطقة ، وهو الحديث عن الدولة المدنية في مواجهة ما يسمى الدولة الدينية ويقصد بها الدولة الإسلامية ؛ مع أن الإسلام لا يعرف الكهنوت ولا صكوك الغفران أوالحرمان ولا الوساطة بين العبد وربه . كان من يقرأ عن الدولة المدنية يظن أنها نقيض الدولة العسكرية أو البوليسية ، ولكن صديقي اللدود كان يعني بها الدولة الإسلامية أو التي تستلهم منهج الإسلام أو تسير على مبادئ الإسلام الذي كان يخصه بصفات الإظلام والظلامية والرجعية والتخلف والأصولية فضلا عن الدولة الدينية .

المفارقة ان الدكتور جابر كان مواليا للدولة العسكرية المخابراتية في عهد عبد الناصر والدولة البوليسية المباحثية في عهد السادات والدولة البوليسية الفاشية في عهد مبارك ، واليوم يقدم أوراق اعتماده إلى الدولة العسكرية الانقلابية بعد 3يولية 2013م التي تبدأ طابور الصباح في السابعة . إنه لم يكن أبدا مواليا للدولة المدنية التي ظل يكتب عنها قرابة ربع قرن من الزمان !

إنه يعيد إنتاج فترة التسعينيات التي عاشها مع مبارك فيطلب الدعم المادي لوزارته لأننا – كما يقول - في معركة مع الإرهاب ولابد من أن نخوضها لأنها الكارثة الأولى الثقافية، فمن خلال الثقافة والتفاعل المتبادل والتعاون بين وزارة التربية والتعليم والشباب والاعلام بأجهزته المختلفة لابد أن نشيع ثقافة الاستنارة وقيم وأفكار المدنية الحديثة. أي مدنية يقصد صديقي اللدود ؟ هل هي مدنية العسكر ومصادرة الحريات وإلقاء عشرات الألوف وراء القضبان من بينهم ثمانمائة امرأة وثلاثمائة طفل والحكم بإعدام المئات من الشرفاء والأحرار وتعذيب أبناء الإسلام الأبرار ؟

الطريف أن صديقي اللدود يشدد في تصريحاته  على حرية الفكر والإبداع وكل فكرة تبعث أو تؤدي للتقدم، فهل يمكن أن يتقبل العسكر الذين يأتمر بأمرهم أن يكون هناك رأي آخر اللهم إلا إذا كان ضد الإسلام والمسلمين والحرية والكرامة والعدالة ؟ مبارك عليك يا صديقي اللدود منصب الوزير في دولة العسكر ، ولا عزاء للدولة المدنية ، ولا المثقفين في أمة العرب.