كلمة رئيس مؤتمر الاعتدال والوسطية لدى علماء الموصل

الشيخ إبراهيم النعمة

(الكلمة التي قيلت في مؤتمر الاعتدال والوسطية لدى علماء الموصل :

الشيخ رشيد الخطيب أنموذجاً انعقد المؤتمر في مدينة أربيل في يومي 9 و10 ـ12 ـ2015)

أيها الشيوخ الأكارم ، والأساتذة الأفاضل ، والحضور الأعزاء :

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

أحييكم وأرحب بكم أجمل ترحيب في هذا المؤتمر ، ويسعدني أن ألتقيكم وأنتم العلية من العلماء والأساتذة والفضلاء ممن كتب بحثه الماتع ليشنف به أسماعكم ، وممن حضر ليستمع إلى الأبحاث التي تلقى ، ثم يُثري المؤتمر بفكره الحصيف ، ورأيه السديد ، وسوانحه الهادفة ، وتعقيباته التي تضوع منها الحكمة والرشاد ، مؤملاً أن يخرج مؤتمركم بوصايا ومقترحات تُبعد الأمة عن الونى ، وتكون منهلاً عذباً ومورداً صافياً ، ومشرباً رائقاً للدعاة إلى الله من الأئمة والخطباء في العراق أولاً ، وفي غيره من البلاد العربية والإسلامية بعد ذلك ، ولعل ما تجود به قرائحكم من سوانح مكبوكبة تكون سناً يضيء السبيل ، ويفتح مغاليق الأبواب لما هو أكثر يُسراً في اتخاذ المناهج التعليمية والتثقيفية الهادفة ، لعلها تُحلّق في معارج الجوزاء ، بعد تلك الرزايا والغياهب واللجج الصاخبة التي عصفت بالأمة ؛ فتركتها تتقلب على جمر الغضى .! وليس صواباً أن تُصعّر الأمة خدّها عُجباً وكبراً وزهواً وتجمح عن النهج الميسّر إلى ضده .

إن الدين الذي ارتضاه الله لنا ـ نحن المسلمين ـ يُسعد الناس السعادتين : الدنيوية والأخروية ، وهو دين قائم على العدل والاعتدال ، من غير تفريط ولا إفراط ، ومن غير غلو في أي شأن كان من الشؤون .

إن العدل ـ يا أيها الإخوة ـ كما تعلمون هو الإنصاف والحق ، وضده الجور والظلم والافتئات ؛ لذلك رأينا آيات الله في قرآنه المجيد ، تتوالى وتترى داعية إلى الحكم بالعدل من غير هوى ولا جور .. إنه أساس الملك .!

وقبل أن أبدأ بحديثي ، يحسن أن أقدم لكم بتمهيد مختصر فأقول :

إن أسباب الغلو والتطرف كثيرة ، وليس في منهجنا أن نعدّد أسبابه ، ولكن نذكر هنا سبباً واحداً وهو الظلم والجور الذي اكتوى بناره عشرات الآلاف من الناس الأبرياء ، الذين ظُلموا وعذبوا ، وامتلأت بهم السجون والمعتقلات ، وخرجت أرواح كثير من المعذبين تشكو إلى الله ظلم الظالمين وإجرام المجرمين ، وما جرى ويجري في مصر سابقاً ولاحقاً ، وما جرى ويجري في سورية سابقاً ولاحقاً أيضاً ، وما عاناه الدعاة إلى الله في تونس وليبيا وغيرهما من الدول العربية خير شاهد على ما أقول ، ولا ننسى ما عاناه أهل السنة والجماعة في العراق بعد دخول قوات الاحتلال إليه من قتل وتعذيب وتنكيل على أيدي المحتلين أولاً ثم على أيدي الطائفيين بعد ذلك .

وما لنا نتحدث عما جرى وأمام أعيننا الطامة الكبرى والخطب العظيم والهول المفجع الآن ـ هول المهجّرين من العراق وسورية ـ أولئك الذين وصل عددهم إلى الملايين من الشيوخ والنساء والأطفال ، كل ذلك بسبب الظلم الذي أصابهم ، ولو وُجدت العدالة في البلاد لما كان الذي كان ، ولما جرى الذي جرى ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ..! ويحضرني هنا ما قاله جميل صدقي الزهاوي المتوفى سنة 1936 :

ماذا على السلطان لو أجرى الذي .... تشتاقه الأحرار من إصلاح

تالله لو منح الرعية حقها .... لفداه كل الشعب بالأرواح

ولقد حذر شاعر غاية التحذير من الظلم ؛ لأن الملك يبقى مع الكفر ، ولا يبقى مع الظلم والجور فقال :

عليك بالعدل إن أوليت مملكة .... واحذر من الظلم فيها غاية الحذر

فالملك يبقى مع الكفر الذميم ولا .... يبقى مع الجور في بدو ولا حضر

أما في الآخرة فالظلم ظلمات يوم القيامة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم . فهل أدرك ذلك الطائفيون الذي سعّروا العراق وسورية ظلماً وطغياناً ، وساموا أهل السنة والجماعة سوء العذاب قتلاً وتهجيراً .

لا أريد أن أسترسل في هذا المجال ؛ فإن القلب يتفطر ألماً ، ويتأجج ناراً وينزف دماً على ما نرى ونسمع عن أحوال إخوانكم الذين عضّهم الدهر بنابه ، وأخنى عليهم الدهر من المهجّرين والمهاجرين .

أعود إلى مؤتمركم الرشيد إن شاء الله فأقول : عنوان المؤتمر : الاعتدال والوسطية عند علماء الموصل (الشيخ رشيد الخطيب أنوذجاً) ؛ فأقول وبالله التوفيق :

الوسطية في لغة العرب تعني الخيار والعدل ، قال الله تعالى : [قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون (28)] سورة القلم . ومعنى أوسطهم في الآية : أعدلهم وأقصدهم إلى الحق . والقرآن الكريم جاء بلغة العرب ، قال زهير بن أبي سلمى :

هم وسطٌ يرضى الأنام بحكمهم .... إذا نزلت إحدى الليالي بمُعظَمِ

فالشاعر هنا يثني على هؤلاء الناس العادلين الخيار ، الذين يحكمون بين الناس بالعدل .

فالوسط إذن : ما يقع بين الغالي والجافي . وبتعبير آخر : ما يقع بين الإفراط والتفريط . وفي هذا المعنى ما قاله أحد الشعراء :

اقتصد في كل حال .... واجتنب غمّاً وذمّاً

لا تكن حلواً فتؤكل .... لا ولا مرّاً فتُرمى

ونقرأ القرآن الحكيم ، فنراه يثني على من يتخذ الوسطية منهجاً له في حياته ، قال تعالى : [ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كلَّ البسط فتقعد ملوماً محسوراً (29)] سورة الإسراء .

ومدح الله عباده المؤمنين الصادقين في القرآن فقال :

[والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً (67)] سورة الفرقان .

وتتوالى آيات القرآن في عدد من المواضيع ، داعية ومثنية على من يتخذ الوسطية منهجاً له في حياته .

وهكذا الأمر في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الكثيرة ، من ذلك قوله عليه الصلاة والسلام :

" هلك المتنطعون ، هلك المتنطعون ، هلك المتنطعون " (رواه مسلم في كتاب العلم (باب هلك المتنطعون ، 4 / 2055 ، رقم 2670) .

والمتنطعون في الحديث هم المتعمقون ، المجاوزون الحدود في أقوالهم وأعمالهم .

وقوله صلى الله عليه وسلم :

" إن الدين يسر ، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه ؛ فسددوا وقاربوا ، وأبشروا ، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة " (رواه البخاري في كتاب الإيمان (باب : الدين يسر) وانظر البخاري مع الفتح ، رقم 39 . ومعنى الحديث أن يسر الإسلام معروف في العبادة ، وبالنسبة للأديان قبله ؛ فإن من لا يأخذ باليسر يصيبه العجز ، فينقطع ويُغلب . والحديث يدعو إلى اتخاذ طريق الوسط من غير تفريط ولا إفراط .

أما مدينة الموصل فهي صاحبة المجد المؤثّل ، وكان لها حظاظ في بناء الثقافة والحضارة معاً . افتُتحت سنة ست عشرة من الهجرة في خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، واستقر فيها عدد من صحابة رسول الله ، يعلمون فيها تلاوة القرآن الكريم وتفسيره ، ويشرحون لهم ما رووه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

ويمضي الزمن وتزدهر الحركة العلمية ، فينشئ الموصليون مدارس تُعنى بعدد ليس بالقليل من العلوم : كالفقه وأصوله ، والحديث وشروحه ، واللغة والأدب والشعر ...

وعلى سبيل المثال ما كان من أمر المدارس الفقهية التي كثرت فكان لكل من الحنفية مدارس خاصة بها ، وكذلك الأمر في الشافعية والحنابلة ، وأما المذهب المالكي فلم يكن له مدرسة فيها ، وكان له الحظ الأوفر في المغرب العربي كله وفي صعيد مصر والسودان والكويت وقطر والبحرين ... جاء في موسوعة الموصل الحضارية : إن في الموصل (عشرين مدرسة تُعنى بالفقه الإسلامي . ونحسب أن هناك غيرها لم يُذكر في مصدر وصل إلينا) . ثم صارت الموسوعة بعد ذلك تعدد أسماء تلك المدارس وأسماء من درّس فيها (موسوعة الموصل الحضارية 3 / 64 ، وكاتب البحث هو الأستاذ الدكتور كاصد ياسر الزيدي .

هكذا حظيت هذه المدينة بالعلم ، فضمّت في جوانحها علماء أعلاماً من ذوي البصيرة المبصرة ؛ فكانوا غطارفة في المجال الثقافي ، بل كانوا قرة عين الدنيا بحق ؛ فكثرت الرحلات إليها من الأقطار والأمصار طلباً للعلم ، ونبغ علماء الموصل في كثير من الدراسات الإسلامية والعربية ، منها : القرآن الكريم وقراءاته وتفسيره ، والحديث وشروحه ، والفقه وأصوله ، وعلم العقائد الذي كان يُسمى بأصول الدين وعلم التوحيد وعلم الكلام ، وكذلك علم النحو والتاريخ والجغرافيا وغير ذلك . وشهد بالمكانة العلمية التي كان عليها الموصليون (ياقوت الحموي) المتوفى سنة 626هـ فقال :

(الموصل إحدى قواعد بلاد الإسلام ... وكثيراً ما سمعتُ أن بلاد الدنيا العظام ثلاثة : نيسابور لأنها باب الشرق ، ودمشق لأنها باب الغرب ، والموصل لأن القاصد إلى الجبهتين قل ما لا يمر بها ... وأما ما يُنسب إلى الموصل من أهل العلم فأكثر من أن يحصوا) (معجم البلدان تأليف : شهاب الدين أبي عبدالله ياقوت بن عبدالله الحموي الرومي البغدادي 5 / 258 ـ 259) .

ومن قبل هذا تحدث (ابن جبير) أبو الحسين محمد بن أحمد الأندلسي في رحلته الموسومة (رحلة ابن جبير) عن زيارته للموصل ، وذلك سنة 580 فتحدث عن مدارسها التي كانت على نهر دجلة وهي (تلوح كأنها القصور المشرقة) (رحلة ابن جبير لأبي الحسين محمد بن أحمد الكناني الأندلسي ، ص 168 ، تقديم الدكتور محمد مصطفى زيادة ، دار الكتاب اللبناني / بيروت ، ودار الكتاب المصري / القاهرة .

وتمضي السنون ، ويحل القرن الثاني عشر الهجري ، ويقع في الموصل وباء الطاعون الذي حصد نفوس كثير من أهلها . أما العلماء ، فقد حصدهم ذلك الوباء حصداً ، فلم يبق فيها من العلماء غير الشيخ موسى الحدّادي ـ وكان مدرساً في المدرسة الأمينية في جامع الباشا في الموصل ـ فلما انتقل إلى جوار ربه فلم يبق في الموصل عالم عندذاك استدعى والي الموصل سليمان باشا الجليلي المتوفى سنة 1211هـ الشيخ جرجيس بن محمد الأربلي الرشادي المتوفى سنة 1206 من أربيل وذلك سنة 1180هـ ليرأب الصدع ، ويسدّ الثغر ، ويقوّم الميل ، ويداوي السقم ، فقام طلاب العلم بالانتهال من علمه الغزير ، وقد قال عنه محمد أمين العمري :

(له المعرفة التامة بالفنون العقلية والنقلية .. وظهر فضله ، وتكمل علمه ، وارتفع شأنه ، وانتفع به الجم الغفير ..) (تاريخ الموصل ، تأليف الأستاذ سعيد الديوه جي 2 / 215 ، دار الكتب للطباعة 1422 ـ 2001 ، الموصل) .

لذلك نجد الإجازة العالمية للموصليين تصل إلى الشيخ جرجيس بن محمد الأربلّي الرشادي مثل (إجازات آل الرضواني وآل الديوه جي وآل الخطيب وآل الرمضاني ، وآل محضر باشي ، وبعض العمرية ، وكذا العلامة المفسّر محمود شهاب الآلوسي أخذ عن الشيخ علاء الدين الموصلي الذي يسمى بعلاء الدين الرمضاني ، وهذا أخذ عن أبيه يوسف الذي أجازه الشيخ جرجيس الأربلّي) (من مقال كتبه الأستاذ محمود الملاح بمناسبة وفاة شيخه عبدالله النعمة سنة 1950م) .

فرحم الله الشيخ جرجيس الأربلي ، وبارك في أهل أربيل فإن لهم الفضل على أهل الموصل في الإجازة العالمية .

وتوضيحاً لذلك فإنّ الإجازة التي أجازني بها شيخنا رشيد الخطيب المتوفى سنة 1979 ـ أمطر الله قبره بشآبيب رحمته ـ جاء فيها :

(أجزته بكل ما يجوز لي روايته ودرايته ، كما أجازني بذلك شيخنا محمد أفندي الرضواني ، كما أجازه بذلك صالح الخطيب الطائي (والد شيخنا رشيد الخطيب) ، كما أجازه بذلك شيخه عبدالله أفندي العمري عن شيخه علي أفندي آل محضر باشي ، وهو عن شيخه يوسف أفندي بن رمضان ، وهو عن شيخه جرجيس أفندي الأربلّي الرشادي) .

ومن هنا انتقل سند إجازات الموصليين العالمية إلى سند علماء أربيل .

وفي المقابل نجد كثيراً من طلاب العلم الأكراد جاؤوا من (دهوك) و(أربيل) إلى الموصل ، ودرسوا لدى علمائها ، وفي مقدمة من قام بتدريسهم شيخنا رشيد الخطيب ، وشيخنا بشير الصقال ، والشيخ الملا عثمان الجبوري ، والشيخ علي الشمالي ، وغيرهم كثير . ولا أكون مبالغاً ولا مغالياً إذا قلت : إن طلاب العلم من الأكراد الذين درسوا في الموصل كانوا أكثر من طلبة العلم العرب . وقد أخبرنا شيخنا بشير الصقال رحمه الله أن (الملا أفندي) ـ وهو من كبار علماء الأكراد في أربيل ـ كان لا يمنح الإجازة العالمية لطالب من طلابه الذين أنهوا دراسة الكتب المقررة ـ آنذاك ـ إلا بعد أن يأتي إلى الموصل ويدرس التفسير لدى شيخنا بشير الصقال ويعطيه إجازة بدراسة التفسير عليه .. عند ذاك يمنح الملا أفندي الإجازة العالمية لذلك الطالب .

هكذا نرى العلاقة وثيقة بين علماء الموصل وعلماء أربيل ودهوك ؛ لأن رابطة الإخوة الإسلامية فوق كل الروابط : إنها فوق رابطة الأرض والطين ، وفوق رابطة الدم . وما أصيبت الأمة الإسلامية بقارعة من الوهن والضعف والخسف ، وما أصابها ما أصابها من الصغار ، وعرّها ما عرّها من الخطل ، وما تجرّعت السم الزعاف إلا بعد أن جاست العصبيات القومية خلال ديار المسلمين ..

ولكن هيهات أن ينجح أعداء هذه الأمة بمسعاهم الأخرق الذي عجّ عجيجاً في غفوة من الزمن في البلاد العربية والإسلامية ، يقوده جحفل عرمرم جرار من الزعانيف النزقين ؛ لأن الوعي الواعي لأمة الإسلام برونقه البسّام رفع الغطاء عن وجود الوشاة والخرصاء ، فعاد النشيد الخالد يردده الأكابر والأصاغر في كل مكان :

أبي الإسلام لا أب لي سواه .... إذا افتخروا بقيس أو تميم

أيها الشيوخ الأفاضل ؛ والأساتذة الكرام ، والحضور الأعزاء :

أما عن وسطية شيخنا الخطيب ، فلست أدري من أين أبدأ الحديث عنها ، بعد أن مضى ما يقرب من خمسين سنة من دراستي عليه .!

إذا أردنا أن نعلم شيئاً عن عبقرية شيخنا الخطيب ، فلابدّ أن نلقي نظرة عامة على البيئة العلمية التي عايشها شيخنا رحمه الله .!

عاش شيخنا في بيئة علمية جاس فيها الجمود ، فانكبّ العلماء وركنوا وعكفوا على دراسة عدد من العلوم في الكتب التي لم تكتب للعصر الذي عايشه الشيخ ، بل كتبت قبل عصره بقرون ، وكانت تلك المناهج الدراسية ـ آنذاك ـ قد احتجنها علم المنطق اليوناني ، ودبت في حشاها الفلسفات الوافدة ، وكثرت في أساليبها بلاغة العجم وليست بلاغة العرب . ويعكف طالب العلم سنوات قلّت أو كثرت حسب نشاطه واجتهاده حتى ينال الإجازة العالمية . وهذا ما حصل لشيخنا الخطيب : فقد درس الكتب المنهجية هذه وأتقنها ؛ لأنها هي الكتب المعدة للدراسة ـ آنذاك ـ لكنه كان يتطلع إلى تأليف الكتب الدراسية وغير الدراسية التي تكتب بأسلوب يخلصها من تلك الألغاز والرموز والتفنن في إعادة الضمائر ؛ لأن الغاية من التأليف تيسير فهم ما يُكتب .. ووجد شيخنا صالته في ابتداء العشرينيات من القرن العشرين ، لما دخلت إلى العراق الكتب التي يسّرت فهم كتب العقيدة والشريعة والفقه ، جيئ بها من البلاد العربية وبخاصة من مصر : أعجب الشيخ بأساليبها الواضحة التي يسّرت على طلبة العلوم الإسلامية فهم الإسلام الصحيح ، المدلل في كثير من الأحيان بالقرآن الكريم ، وبالصحيح من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأفاد من أساليب تلك الكتب ، وكان يستحسن هذا أمام العلماء ، وبخاصة كتابات الشيخين محمد عبده (الشيخ محمد عبده عالم كبير ومصلح اجتماعي . ولد سنة 1849 ، وتوفي سنة 1905 . عمل في مقاومة الجمود الذي كان عليه كثير من العلماء في عصره ـ آنذاك ـ بعقل مستنير ، ودعا إلى فتح باب الاجتهاد الذي قال قسم من العلماء بسده منذ القرن الرابع الهجري ، وعمل في إصلاح الأزهر ، وكتب في تبيان قدرة الشريعة الإسلامية على مواكبة العصر ، وأخذ المفيد من علوم الحضارة الغربية) ، ومحمد رشيد رضا (محمد رشيد رضا بغدادي الأصل ، حسيني النسب ، وهو أحد رواد الإصلاح الإسلامي . ولد سنة 1865 وتوفي سنة 1935 . تأثر بشيخه محمد عبده وأخذ عنه ، أصدر 34 مجلداً من مجلة (المنار) ، وأصدر من تفسيره 12 مجلداً منه ابتداءاً من سورة الفاتحة إلى الآية 52 من سورة يوسف ، فلم يتمه إذ وافاه الأجل) ، وقد تأثر بما دبّجه هذان الشيخان الجليلان من مقالات وكتب . ولما علم أن الشيخ محمد رشيد رضا صار يصدر تفسيراً باسم (تفسير القرآن الحكيم) ، وهو المعروف بتفسير المنار ، فصار شيخنا يراسل تلك الدار للحصول على كل جزء يصدر من أجزائه ، فيضع ثمن الجزء الصادر بظرف ، ويرسله بالبريد إلى دار المنار ؛ فيأتيه ذلك الجزء . وهكذا فعل في الأجزاء التي صدرت . وأراد شيخنا أن يبين لأحد الشيوخ فائدة هذا المنهج الجديد في التفسير فأعطى جزءاً من أجزائه لأحد الشيوخ ملتمساً منه أن يقرأه ويبين رأيه فيه بعد ذلك . لكن ذلك الجزء لم يبق لدى الشيخ غير فترة وجيزة جداً ؛ فسرعان ما أعاده لشيخنا الخطيب . ولما سأله عن سبب إعادته بهذه السرعة أجابه : إن الكتاب جيد ، لكني لا أريد أن يبقى في داري أي كتاب طبع حديثاً .! وكأن العلم ـ كل العلم ـ والعبقرية ـ كل العبقرية ـ في الكتب التي كتبت قبل قرون ليس إلا .! فاعجب أو لا تعجبْ .!

لقد كان شيخنا الخطيب منفتحاً على العلوم الإسلامية بأساليبها الحديثة ، يتطلع إلى أي علم كان من العلوم المفيدة التي تقرب المادة العلمية إلى ذهن الطالب ، فيعمل على الإفادة منه .

وهكذا يعد الشيخ من المجددين في عصره ، وكان يغرس في نفوس طلبته حب الاحتكام إلى العقل في كثير من القضايا التي تعرض له ، وكان يقول لتلاميذه في الدرس : لا تسلموا لي بكل ما أقول لكم ، فإن كان لكم رأي آخر في أية مسألة كانت فاذكروه ؛ لعله يكون أقرب إلى الصواب من قولي ، فأرجع عن قولي وهكذا يغرس في نفس الطالب ملكة إعمال الذهن فيما يقرأ ، وهذا هو ديدن العلماء الأعلام .

أما في فتاويه ، فكان منفتحاً على عصره كذلك ، فلا يجمد على أقوال من عاشوا في عصور تختلف عن العصر الذي عاش فيه ، ولا في بيئة تختلف عن البيئة التي عاش فيها ، وهذا هو مذهب علية العلماء من الفقهاء والأصوليين ، حتى قال القرافي المتوفى سنة 684 هـ مخاطباً من يفتي الناس من العلماء :

(لا تجمد على المسطور في الكتب في الكتب طول عمرك ، بل إذا جاءك رجل من غير أهل إقامتك يستفتيك ، لا تجره على عُرف بلدك ، واسأله عن عرف بلده وأجره عليه ، وأفته به دون عرف بلدك ، ودون المقرر في كتبك . فهذا هو الحق الواضح . والجمود على المنقولات أبداً ضلال في الدين ، وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين) (الفروق لشهاب الدين القرافي 1 /176 ، دار المعرفة ، بيروت) .

ونرى صورة الانفتاح على المذاهب وعدم الجمود على أقوال من تقدمه واضحة في كثير من الأمور ـ وبخاصة في اختياره الفقهي ـ فقد كان رحمه الله شافعي المذهب ، لكنه لم يتعصب للشافعية ، فإذا تبين له في مسألة من المسائل أن رأي الحنفية أو المالكية أو الحنابلة أرجح من رأي الشافعية قال به بعد أن يُشفع تلك المسألة دراسة وتمحيصاً وتدقيقاً .

ولم يكن منهجه هذا في المسألة الفقهية وحدها ، بل كان حتى في عدد قليل من مسائل العقيدة . فعلى الرغم من الصورة السيئة التي انطبعت في أذهان العلماء وطلبة العلم من أهل السنة والجماعة عن المعتزلة ، نراه يرجح في بعض الأحيان ما ذهبت إليه المعتزلة . وبسبب ذلك انتشرت شائعة تقول : إن الشيخ الخطيب رجل معتزلي العقيدة .!

ويتبرأ الشيخ من مقولة هؤلاء فيقول : لم أكن في يوم من الأيام معتزلياً قط ، ولو كنت كذلك لما ترددت بالإعلان عن ذلك ؛ لأن المعتزلة ـ على الرغم من إساءاتهم في مسألة (خلق القرآن) ـ وقد كانت كبيرة من الكبائر ، وكانت صفحة سوداء في تاريخهم ـ ظهر منهم علماء أعلام . ألم يكن أبو القاسم جار الله محمود بن عمر الزمخشري صاحب تفسير الكشاف معتزلياً وقد قالوا في تفسيره العظيم هذا : لولا الكوسج الأعرج ـ يعنون الزمخشري ـ لظلّ القرآن بكراً .

ألم يكن أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ معتزلياً ؟ وهو من هو في مؤلفاته التي تبين عن واسع علمه وثقافته ومنها كتاب (البيان والتبيين) الذي هو أصل وركن من أركان الأدب الأربعة ، وغير ذلك من الكتب .

ومن وسطية الشيخ : أن كثيراً من طلبة العلم ـ وحتى العلماء ـ كانوا يرددون على مدرسته في بيته ؛ ليزدادوا من منهل علمه الفياض ، ومورده الزلال ، فيجلس بين يديه الصوفي والسلفي فيلقي إليهم بالمنهج المعتدل في كل علم يقوم بتدريسه .

وفي هذه المناسبة ، أهيب بالأساتذة الفضلاء من أساتذة الجامعات وغيرهم من ذوي الاختصاص أن يقوموا بتحقيق كتب شيخنا الخطيب ، فإن كثيراً من رسائل الماجستير والدكتوراه المحققة والمؤلفة في هذا العصر ، لا ترقى إلى مستوى الكتب التي خطها ذراع شيخنا رحمه الله .

ولا أنسى أن أشير إلى ضرورة أن يهتم أهل السنة والجماعة بعلمائهم الأعلام ، من العرب والأكراد والتركمان وغيرهم وما أكثرهم ! فيحيوا ذكرهم ، وتكتب البحوث والمؤلفات والأطاريح في حياتهم ومنهجهم العلمي ، وما قاموا به من إصلاحات ، وأن تُعقد المؤتمرات كهذا المؤتمر في ذلك . واسمحوا لي أن أقول بكل حسرة وألم : إن أهل السنة والجماعة ـ وبخاصة في العراق ـ مقصرون في هذا الجانب ، ونرى غيرهم يهتمون بعلمائهم ويشيدون بهم ـ ولو لم يبلغ كثير منهم ما بلغه علماء أهل السنة ـ وقد كان شيخنا الخطيب يتألم من هذا التقصير ، وكم سمعته يُنشد ما قاله فخر الدين الرازي المتوفى سنة 606 من الهجرة :

والمرء ما دام حياً يستهان به .... ويعظم الرزء فيه حين يفقد

وقال يوماً لسبطه الأستاذ أثيل النجيفي : (ترى الفتى يُنكر فضل الفتى ما دام حياً ، فإذا ذهب أدى به الحرص على نكتة يكتبها عنه بماء الذهب) .

وبعد :

فرحم الله شيخنا الخطيب ، وبارك في أسباطه من آل النجيفي : أسامة أثيل ومحمد وإخوانهم الذين أحيوا ذكر جدهم في هذا المؤتمر . والله يقول الحق وهو يهدي السبيل .!

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .!

وسوم: العدد649