عندما تجرون الحسابات لا تنسوا (من هم وراء الباب...)

درسكم من الإمام أحمد

أتابع ، عن بعد ، طريقة بعض الأقوام في إجراء حساباتهم ، وتقويم وتقدير مواقفهم . يغلب على البعض شعورهم بالدفء في غرفهم المكيفة فتراهم ينطلقون من حقيقة أن هذا الشعور يسري في أعطاف كل من هم وراء جدرانهم . وبالطريقة نفسها يقدر هؤلاء أن فهمهم أو تفهمهم لأبعاد الكلمة أو الموقف أو الخطوة أو القفزة يقولونها أو يتخذونها أو يقومون بها يجعل من يتابعهم أو ينظر إليهم أو ينتظرهم يفهم أو يتفهم من هذه الخطوة أو القفزة ما يتفهمون ، ويقدرها كما يقدرون ...

يقول الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله في روايته عن محنته ( جاءني التثبيت من العيار والشطار وجاءني التخذيل والتثبيط من أهل الفقه والدين ...!!)

صفع أبو الهيثم الشاطر العيار الإمام احمد صفعة كادت تخرج لها عيونه كما يقول رحمه الله ، ثم سأله أتعرفني ؟ أنا أبو الهيثم جُلدت كذا ألف سوط في سبيل الشيطان وأنت إنما تجلد في سبيل الرحمن وما هي إلا سوط أو سوطان ثم لا تحس ألم السياط فاصبر !! ( دورة تثقيفية )

وكان أهل الفقه والدين من أصحاب القصور في الرؤية والفهم ، يقولون للإمام أحمد رضي الله عنه : إن لك في دين الله رخصة وسعة أن تفتدي نفسك من شدة المحنة بكلمات تصرفها كيف شئت ، فتخرج بها من هذا الذي أنت فيه ، وتقي نفسك التلف والهلاك ...!!

وكان الإمام أحمد يجيبهم بثقة المؤمن وبصيرته الذي يحسن تقدير الموقف والنظر في تداعياته وعواقبه وآثاره : وكيف بمن وراء الباب..؟

وكان وراء الباب كما يقول الرواة الآلاف من أصحاب المحابر والأقلام والقراطيس ينتظرون ليسجلوا هذه الكلمة التي يمكن أن يقولها الإمام أحمد ، ووراء هؤلاء الآلاف الملايين من أبناء الإسلام تعلقت عقائدهم على كلمة تخرج من بين شفتي الإمام أحمد ...

الإمام أحمد بن حنبل لم يكن في شخصه الضعيف أميرا ولا عظيما ولا مالكا ولا مملكا ولا صاحب جاه ولا سلطان ولكنه ملك بما ورث من العلم وجلالة الموقف أكثر من كل ذلك واستشعر عظمة كل ذلك .

وهذا الذي يفوت الكثير من الناس وهم يرثون بطريقة ما القرار في القضية العظيمة والموقف الجلل ، فلا يميزون بين شخصيتهم الاجتماعية وشخصيتهم الاعتبارية فيظلون يتصرفون على عتبات الأولى وتنحط بهم هممهم عن الارتقاء إلى أفق يتطلبهم تحملهم عبء الثانية .

 

من الأهم أن تنظر كيف يفهم خطوتك من هم وراء الباب ...

وهذا معطى أولي أساسي يجب أن يدخل معادلة حسابات كل ذي عقل وقلب ، يقف في مقام يُنظر إليه أو يُنتظر منه . كيف سينظر الآخرون الذين هم موضع العناية الأولى إلى لون الثوب ، وطريقة البسمة ، وفتحة الخطوة ، واتجاهها ، وكيف سينعكس ذلك على عقولهم وقلوبهم ومواقفهم وسلوكهم..؟! سؤال من صلب القضية بل هو رأس الأمر فيها ( لولا أن قومك حديثو عهد بشرك لنقضت الكعبة ثم بنيتها على أساس إبراهيم ) . ( كيف إذا تحدث الناس إن محمدا يقتل أصحابه ؟! ) ..وكيف إذا تحدث الناس أن جماعة صبرت وصابرت نصف قرن ثم انقادت وراء... وجلست على طاولة العبث مع العابثين أو أعطت اسمها لقوم يمرغونه والقريب منهم شانئ والآخر منهم عدو بيّن العداوة .

كيف يفهم مَن وراء الباب أن الكلمة التي يتلفظ بها قائلها على سبيل (اضطرار) هي فقط للهروب من فتنة أو التخلي عن تبعة !! وهل يصح أن يهرب صاحب مسئولية من فتنة فردية فيوقع الناس في فتنة جماعية ؟! ، وأن يتهرب من تحمل مسئولية متعينة فيفرط بالكفائي وقد لزمه، ويحرج الأمة في عموم بلوى لا يكون لها منها بعدُ من الله من كاشفة؟! 

كيف لهؤلاء الذين يخوضون اليوم مع الخائضين بكل شخصياتهم وتجمعاتهم وهيئاتهم ، بالسير في ركاب ديمستورا ، وهم مدركون أن صيرورة السير إما إلى هلاك عام لا منجاة منه ، أو إلى سراب بقيعة لا يحسبه ظمآن مبصر ماء ؛ أن لا يتساءلوا ولا يسألوا أنفسهم كيف ستقع هذه الرياضة البهلوانية بالشقلبة فوق حبال من دماء على عقول وقلوب أولئك الذين هم وراء الباب ...

كيف سينظر إليهم يتشقلبون المجاهد في خندقه على ثغرته يدافع عن عرض ودين ؟! وأي انعكاس سيكون لهذه الشقلبة على الهدف والعزيمة والرغبة في الاستمرار ؟؟؟

كيف ستنظر إلى ( فريق الشقلبة على حبال ديمستورا ) منتهكة في عرضها ، وثاكلة لبنيها ، ويتيم ما زال يبحث عن أبيه ، ومشرد غرّب عن وطنه وألقى العبء ثقة بهم عليهم ، وهم يرونهم يساومون في سوق كل ما فيها ومن فيها شيطاني خبيث ..؟!

هل سيملك هؤلاء القدرة على أن يتتبعوا السرائر والضمائر ليشرحوا لكل متردد مرتاب فيما يقومون به : إننا نقوم بتطبيق قانون ( الحضور خير من الغياب ) ، أونحن نلعب لعبة ( الحق الكذاب إلى وراء الباب ) . أو نحن ذاهبون للجلوس مع المجرمين ونحن موقنون أن هذا الجلوس هو ضرب من العبث اللامجدي ولكننا نفعل ذلك نوعا من الخبابة والختل والتقيّة والمخادعة والمكاذبة ...

لا بد لكلمة الحق من حامل

لم يخل تاريخ هذه الأمة على ما تقلب بها من أحداث وفتن من حامل لكلمة الحق . يصدع بها ويجهر بها ويلقي بها في وجوه الظالمين والفاتنين ويتحمل تبعاتها بكل تضحية وعزيمة وتصميم . والجهر بكلمة الحق في حق حاملها يتعين . وتصبح العزيمة بالنسبة إليه لازمة ويصبح التخلي عنها أكثر من خذلان وتخاذل وجبن وتفريط ...

وإننا وإزاء ما يحاك اليوم لثورة شعبنا التي قدمت أكثر من نصف شهيد ومع الإحاطة التامة بالمقدمات والمتوقعات من النتائج وحرصا على عقول وقلوب من هم وراء الباب من المجاهدين والمكلومين والمؤملين المصابرين ..

ننتظر ممن تعينت عليهم أن يجهروا بكلمة الحق أن يعلنوها صريحة واضحة حاسمة جازمة : لسنا من خطة ديمستورا وليست منا في شيء. .ولن نخوض مع الخائضين فيها . وإن لنا مع قادة ثورتنا وأبناء شعبنا موعدا نستدرك به ما فات ونستنير بما مضى ونستأنف الطريق إلى دولة للعدل لا يخاف فيها من بنيها أحد إن شاء الله ...

فهل نسمعها كلمة تنير الطريق وتشحذ العزائم أو يرتل قوم (( إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ )).

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 650