مقدّمات لفهم حوادث العراق

مقدّمات لفهم حوادث العراق

مجاهد ديرانية

ربما كانت محنة إخواننا المسلمين السنّة في العراق هي ثانية أكبر الكوارث التي أصابت الأمة في ربع القرن الأخير، فهي محنة طويلة ثقيلة لا تكاد تفوقها في المعاناة والآلام إلاّ محنةُ مسلمي البوسنة. ولقد أحزنت هذه المحنة المسلمين وأدمت قلوبهم وأدمعت عيونهم سنوات وسنوات، حتى صار خلاص العراقيين من الكابوس وتحررهم من الاستعمار الإيراني (المغلَّف بقشرة محلية) هو أغلى الأمنيات.

فلما تواردت أخبار الانتصارات العظيمة من العراق طار أكثر الناس فرحاً بها، وتردد آخرون بين الفرحة والحذر والترقب، واختلطت مشاعر فريق ثالث بين القلق والابتهاج، ولعلي أصنف نفسي في هذا الفريق الأخير. فإني أبتهج غاية البهجة إذا فهمتُ الأمورَ على ظاهرها، ولكني أميل إلى القلق عندما أفكر بأنها ربما كان لها باطنٌ غيرُ الظاهر الذي نراه.

لا أنا أعلم ولا غيري يعلم ما الذي يحصل على وجه الدقة، وقد لا نعرف قبل مضيّ بعض الوقت، ولكننا نعلم كلنا أن الأمور الظاهرة في عالم السياسة غير الحقائق الباطنة، ولئن غابت عنا تلك الحقائق فلنفكر ببعض الأمور التي نستطيع وصفها بأنها "مقدمات" للتفكّر ومحاولة فهم حقيقة الحوادث والتطورات.

1- إن ما حصل في العراق خلال ربع القرن الأخير كان بسبب أهميته الإستراتيجية الكبيرة، وقد أنفق أعداء الأمة ترليونات الدولارات لتحقيق أهدافهم الاستعمارية فيه، وهم لن يتخلوا عن مكتسباتهم بسهولة، كما أن حركات عسكرية بهذا الحجم الهائل لا يمكن أن تتم بمعزل عن رقابة تلك القوى وتدخلها الفجّ المباشر السريع.

2- لقد استماتت إيران في حماية مكتسباتها ونفوذها في سوريا، وأنفقت أموالاً هائلة وأحرقت -في سبيل تلك الغاية- الجسورَ التي اجتهدت في بنائها مع الأمة الإسلامية خلال ثلث قرن، مع العلم بأن القيمة الإستراتيجية لسوريا بالنسبة لإيران لا تبلغ ربع القيمة الإستراتيجية للعراق (حديقة إيران الخلفية)، ومن غير المنطقي ولا المعقول أن تستسلم إيران وتتخلى عن العراق بلا مقاومة شرسة.

3- يمثل العراق مصدر قلق لإسرائيل، ولعله مصدر الخطر الحقيقي الوحيد في المنطقة العربية؛ هذا أمر أعرفه منذ أن كنت طفلاً صغيراً ويعرفه كل المُخَضرمين من أبناء الأمة، ولو كانت حقيقةُ الأحداث كما تبدو لنا في الظاهر فينبغي أن تكون إسرائيل في غاية القلق حالياً، وأن ينعكس قلقها في تحركات محمومة على المستوى السياسي والدبلوماسي، وربما العسكري أيضاً.

4- في سوريا جيشٌ من الثوار يزيد على مئة ألف مقاتل، ما يزالون يقاتلون جيش الاحتلال الأسدي منذ سنتين ونيّف قتالاً شرساً بأسلحة خفيفة ومتوسطة وثقيلة، وعندهم مدافع وصواريخ ودبابات، وقد طوّروا صناعات عسكرية محلية، ولم يحققوا نصف الإنجاز الذي تحقق في العراق في أيام بقدرات متواضعة وأعداد محدودة من المقاتلين.

5- جيش العراق الجديد طائفي كالجيش السوري، بل أسوأ، فهو طائفي في قياداته وقواعده (الضباط وصفّ الضباط والمجندين) بخلاف الجيش السوري الذي تسيطر الطائفة النصيرية على قياداته وبعض وحداته الخاصة فحسب، والجيوش العقائدية لا تتراجع بالكيلومترات بل بالأمتار كما رأينا في سوريا على مدى سنتين.

6- ما حصل على الأرض خلال الأيام الماضية ليس انسحاباً للجيش العراقي، بل هو انهيار كامل يشبه بشكل غريب انهيارَ الجيش العراقي السابق أثناء الغزو الأميركي، حيث "تبخّرت" وحدات كاملة بتخلّي قادتها وجنودها عنها وخلع الملابس العسكرية والاختفاء وسط المدنيين. وقد صار معلوماً الآن -بعدما مرّت على الحرب الماضية سنوات- أن ذلك الانهيار كان مدبراً من قبل الحرب بوقت طويل.

7- منذ عدة أشهر تجتهد وسائل إعلامية ذات توجهات معروفة في تشويه الثورة السنية الشعبية العشائرية وسرقتها من أصحابها الحقيقيين وتجييرها لحساب داعش. ونحن نعلم اليوم يقيناً أن داعش مشروع مخترَق (أو مصنوع) وأنه يمثل أكبر تهديد للجهاد السنّي في سوريا والعراق، وما يزال دور داعش في الأحداث الأخيرة غامضاً حتى الآن.

*   *   *

المقدمات السابقة تقودنا إلى الاستنتاج التالي: إذا كان ما نراه على الأرض ثمرة لمخططات وضعها أعداء الأمة وأعداء العراق فسوف تمضي بلا أي اعتراض أو مقاومة من طرفهم، وهذا أمر يدعونا إلى القلق لأن المسلمين السنّة هم ضحية المخططات الخبيثة لهؤلاء الأعداء، وسواء أظَهرت الآثارُ السلبية لمؤامرتهم الجديدة عاجلاً أو ظهرت آجلاً فإن المسلمين السنّة هم الخاسرون.

الاحتمال الثاني هو العكس: إنها ثورة شعبية صافية بأيدي وعزائم ثوار العراق الأبطال الصادقين وبتأييد رباني للمؤمنين المظلومين، وفي هذه الحالة سيكون رد الفعل سريعاً وقوياً: سوف تجلب انتصاراتُ العراقيين العظيمةُ عليهم خيلَ قوى الشر ورَجْلَها، وقد يتعرضون لغزو إيراني على الأرض وربما تعرضوا أيضاً لضربات أميركية من الجو (وإن يكن هذا الاحتمال مستبعَداً حتى الآن)، وسوف يبذل الأعداء غايةَ الجهد لإجهاض هذه الثورة العظمية والعودة بالعراق إلى الوراء.

أتمنى من كل قلبي أن يكون الاحتمال الثاني هو الصحيح، ولكني لا أستطيع أن أمنع نفسي من التفكير في الاحتمال الأول لأنه الأكثرُ توافقاً مع سنن الله في الوجود. إنني أثق بقدرة الله وبنصر الله لعباده المؤمنين المستضعَفين، ولكن التغيرات الكبرى لا تكون إلا بآلام وتضحيات، هذه واحدة من أكبر السنن وأكثرها رسوخاً، ولم تنجُ منها حتى دعوات الأنبياء.

لقد عانى المسلمون في العراق الكثيرَ خلال القرن الأخير، ولا سيما منذ انقلاب الشيوعيين قبل خمس وخمسين سنة، معاناة لم تنقطع ومحنة لم ترتفع، وقد آن لهم أن يرتاحوا أخيراً، ولكن الراحة الكبرى لا تأتي إلا بعد التعب الكبير. إنها ولادة جديدة، ولا ولادة بلا ألم، حتى البهائم العَجْماوات تألَمُ وتعاني حينما تضع الحمل الذي تحمله، وكذلك كل ولادة في الدنيا، وكما قال شهيد الأمة سيد قطب رحمه الله في كلمته الخالدة: لا بد للأمة من ميلاد، ولا بد للميلاد من مخاض، ولا بد للمخاض من آلام.

نعم، إنني قلق على إخواننا السنّة في العراق وأخشى أنهم مقبلون على أيام صعبة طويلة، ولكنني سعيد. إنني سعيد بالمآلات، لأن مسلمي العراق يعيشون في القعر منذ سنين، وليس تحت القعر قعر. وسعيد لأن الحرية خيرٌ من العبودية مهما يكن ثمنُها، ولا بدّ لها من ثمن، وما أصدقَ شوقي حين تصوّر لها باباً لا يُفتَح إلا إذا دقّته وطرقته أيدٍ مضرَّجةٌ بدماء التضحيات.

اللهم انصر إخواننا في العراق، اللهم اهدم طاغوتهم واهزم الأحزاب التي تواطأت عليهم، واطوِ اللهمّ صحيفة بؤسهم ومحنتهم، وافتح لهم اللهمّ كتابَ الغد المشرق الجميل، وارزق أهلَ سوريا نصراً كنصرهم، قريباً غيرَ بعيد يا رب العالمين.