قصة البلاغ " 66 " المتعلق بإعلان سقوط القنيطرة

تنبع أهمية التوقف الطويل والعميق عند هذا الموضوع ، والذي كنت الشاهد الرئيسي فيه ، بحكم وضعي الحزبي (أمين عام مساعد للحزب) والحكومي (وزير الإعلام) ، من كونه يلقي ضوءاً على كثير من سلوكيات وممارسات حافظ الأسد اللاحقة ، ولاسيما انقلابه العسكري على قيادة 23 شباط عام 1970 ، وما ترتب عليها من إلغاء الدور القومي المتميز لسوريا ، وإلحاقها في ركب كامبديفد في ظل ما يبدو لي أنه دور قديم قد رُسم له من قبل مثلث : أمريكا وإسرائيل والرجعية العربية ولاسيما النظام المصري والسعودي والمغربي .

لقد كانت سوريا شوكة في حلق إسرائيل وفي حلق الرجعية العربية وفي حلق القوى الاستعمارية ، وكانت تمثل سنداً أساسياً للثورة الفلسطينية ، ولحركة التحرر العربية ، وقد نصب لهذا القطر الأبي فخ " الطائفية " ، وتم وضعه في سجن حافظ الأسد المحكم والمغلق منذ عام 1970 .

إن قصة هذا البلاغ ـ إذا لم تخني ذاكرتي ـ هي كما يلي :

كانت البلاغات العسكرية المتعلقة بحرب حزيران 1967 تأتي إلى مديرية الإذاعة والتلفزيون من غرفة العمليات العسكرية بدمشق التي كان يتواجد فيها وزير الدفاع حافظ الأسد . وتبين لموظفي الإذاعة والتلفزيون أن هذه البلاغات تنطوي على أخطاء لغوية لابد من تصحيحها ، فاقترحت على وزير الدفاع أن يلتحق موظف من وزارة الإعلام بغرفة العمليات حيث تُسلم له البلاغات ، ويقوم هو بتصحيح أخطائها اللغوية ثم يعرضها على الجانب العسكري ، وبعد ذلك ترسل إلى مبنى الإذاعة والتلفزيون لإذاعتها على الناس . لقد وافق حافظ الأسد على هذا الإجراء ، وقمت بتكليف أحد موظفي وكالة سانا بهذه المهمة ، وكان هذا الشخص هو السيد أحمد اسكندر الأحمد الذي استوزره الأسد لاحقاً (في وزارة الإعلام) ، واستمرت البلاغات تتوالى من قيادة الجيش إلى الإذاعة والتلفزيون بشكل روتيني إلى أن وصلنا البلاغ رقم " 66 " . جاءني مدير الإذاعة والتلفزيون عبدالله الحوراني ليعلمني أنه قد وصل الإذاعة من غرفة العمليات بلاغ يعلن عن سقوط مدينة " القنيطرة " بيد الجيش الإسرائيلي ، وأنه لو تمت إذاعة هذا البلاغ لأحدث حالة من الإحباط والفوضى بين موظفي الإذاعة والتلفزيون الذين كانوا يبشرون الناس بالنصر القريب . أخذت منه البلاغ رقم (66) ووضعته في مغلف خاص ، وسلمته إلى مدير مكتبي السيد " عزيز درويش " وطلبت منه أن يذهب إلى القصر الجمهوري ، حيث يتواجد الأعضاء الأساسيين في القيادة ويسلم إما إلى الدكتور الأتاسي أو الدكتور يوسف زعيّن (رئيس الوزراء) بعد مرور برهة قصيرة ، اتصل بي هاتفياً الدكتور يوسف زعين وقال لي : محمد .. لقد اتصل بنا الرفيق حافظ ، وأبلغنا بنبأ سقوط القنيطرة وعليك أن تذيع البلاغ . عاد عزيز درويش بالبلاغ ، وتمت إذاعته بعد أن أمر بذلك السيد رئيس الوزراء . أحدثت إذاعة البلاغ حالة من الفوضى بين موظفي هيئة الإذاعة والتلفزيون اضطرتني أن أتدخل شخصياً لكي أرجوهم أن يتابعوا عملهم ، ولا سيما أن المعركة ما تزال مستمرة في الجبهة (الجولان) ، وقد كان ذلك أي أن العمل عاد إلى طبيعته رغم إذاعة البلاغ رقم (66) . بعد حوالي نصف ساعة ، اتصل بي هاتفياً وزير الدفاع حافظ الأسد ليبلغني أن هناك إشكالية تتعلق بالبلاغ 66 . وعندما استوضحته قال : يبدو رفيق محمد أن القنيطرة لم تسقط بيد الجيش الإسرائيلي . فسألته : لماذا بعثتم إلينا بالبلاغ 66 إذن ؟ فقال : لقد اتصل بي ضابط من الجبهة (لم يذكر لي اسمه ولا رتبته) وأعلمني بالأمر ، وأنا صدقته ، وأرسلنا البلاغ على هذا الأساس (!) . أردف حافظ الأسد موضحاً : واقع الحال رفيق محمد أن المدينة (محوّطة) من الجيش الإسرائيلي ، أي أنها تعتبر من الناحية العسكرية ساقطة وكل ما هنالك أنهم لم يدخلوها بعد . قلت له : سوف نقوم هنا بإعداد بلاغ برقم 67 لتسوية هذا الخطأ ، ولسوف أقرأ عليك النص عندما أنجزه . قمت بالتعاون مع عبدالله الحوراني بصياغة البلاغ رقم 67 الذي قلنا فيه أن القتال في مدينة القنيطرة يدور من منزل إلى منزل .. وكان الهدف من ذلك ، بيان أن الجيش السوري قد استرجع المدينة من أيادي الإسرائليين (الذين احتلوها بموجب البلاغ 66) : قرأت نص البلاغ التدقيقي على حافظ الأسد ، فوافق عليه وأمر بإذاعته ، وقمنا فعلاً بإذاعته . قال لي اللواء أحمد سويداني لاحقاً (وهو رئيس أركان الجيش والمشرف الميداني على العمليات) . أن ضباط إدارة العمليات الذين كانوا بصحبته في الجبهة ، وفي مدينة القنيطرة بالذات ، قاموا بمخالفة أوامري بعد أن سمعوا البلاغ رقم 66 وغادروا الجبهة إلى دمشق . لقد بقي أحمد سويداني ـ كما أبلغني ـ فترة (لا أذكر طولها) لوحده في غرفة العمليات الميدانية ، ثم ركب سيارته وغادر القنيطرة نحو دمشق ، وأن أقرب دبابة إسرائيلية إلى المدينة (القنيطرة) كانت تبعد حوالي أربعة كيلومترات ، وهو بعد عدة ساعات من إذاعة البلاغ رقم 66 (!!) . (كنت وإياه نتجول وحدنا في سيارته ، وقد كان يفتح الراديو خوفاً من وجود تسجيل في سيارته . إن ما دفعني إلى هذا التدخل (صياغة البلاغ رقم 67) الذي قام عملياً بالتغطية على تصرف الأسد في إعلانه سقوط القنيطرة قبل أن تسقط هو أنه لم تكن لدي في تلك الفترة شكوك حول وطنية ونظافة حافظ الأسد ، وقد صدقته فيما قاله لي حول ملابسات إصدار البلاغ .

أما الآن فإنني على شبه يقين أن البلاغ رقم 66 كان مقصوداً ومتعمداً من قبل حافظ الأسد . 

د . محمد الزعبي

وزير الإعلام أثناء حرب حزيران

وسوم: العدد 654