إجابة أولى حول الوضع العربي الراهن

المشهد الذي يُرسَمُ للوضع العربي أخذ يراه متشظياً ذاهباً إلى تجزئة الأقطار والمجتمعات. مما يجعل المشهد الذي رسمته تجزئة البلاد العربية انطلاقاً من سايكس بيكو ووعد بلفور "نعمة" على العرب قياساً إلى ما آل إليه الوضع الراهن، وما يتوقع منه من تمزيق للدول والمجتمعات حتى بدا للبعض أن من غير الواقعي الحديث عن شعب، أو جماهير أو أمّة.

والسؤال هل صحيح بأن مآل الوضع العربي إلى الأسوأ وإلى المزيد من التمزق والتشظي؟ وهل ثمة أي بارقة أمل، أو هل ثمة إمكان لإعادة الحديث عن شعب واحد في القطر العربي، أو عن جماهير، أو عن أمّة عربية، أو أمّة إسلامية بعامّة؟

الإجابة يجب أن تبدأ في ترسيخ مبدئين الأول أن عوامل التجزئة والتقسيم والتشظي كانت موجودة دائماً في واقع مكوّنات الشعب والجماهير والأمّة. بل ليس ثمة من مكوّن من المكوّنات المتصارعة الآن إلاّ وكان موجوداً داخل الدولة القطرية. كما داخل الشعب والجماهير والأمّة. والثاني أن عوامل الوحدة الداخلية التي سمحت بتشكّل الدولة القطرية ووحدة شعبها وجماهيرها كانت موجودة دائماً، وكانت متغلبّة على نقيضها التجزيئي المتفلّت. وذلك طوال مرحلة الاستعمار ومرحلة الاستقلال حتى وقت قريب.

أما على المستوى العربي فكذلك كان الوضع العربي يتسّم بوجود عوامل الوحدة وعوامل التجزئة في آن واحد. وقد تغلّبت عوامل التجزئة القائمة على الدولة القطرية على عوامل الوحدة لا سيما ما بعد 1917 إلى اليوم.

إن كلاً من عوامل التجزئة والتشظي في الدولة القطرية الواحدة، وعوامل الوحدة فيها، كما عوامل التجزئة القطرية وعوامل الوحدة العربية، لها واقع موضوعي وذاتي. كما لا تعني غلبة أيّة مجموعة منها على المجموعة الأخرى إنهاءً للمجموعة الأخرى أو تصفيتها، أو أن تُكتب لها الغلبة الدائمة ويُكتب للأخرى الانهزام أو الخضوع الدائم.    

فمسألة غلبة مجموعة من تلك العوامل على الأخرى كانت دُوْلَة، أو تداولاً، بينهما تبعاً لتطورات موازين القوى في مصلحة هذه المجموعة أو تلك.

ولهذا مرّت البلاد العربية عبر تاريخها على مستوى عام أو على مستوى إقليمي هنا وهناك بفترات تاريخية تداولت فيها عوامل الوحدة وعوامل التجزئة غلبة إحداهما على الأخرى. ولكن كانت فترات الوحدة على مستوى عام أو على مستوى مناطق شاسعة أو على مستوى دولة إقليمية هي الغالبة على مراحل التشظي والتجزئة والاقتتال الداخلي طوال التاريخ العربي والإسلامي.

ولم تعرف البلاد العربية تجزئة طويلة الأمد إلاّ في مرحلتين من تاريخها العربي الإسلامي: مرحلة الغزو الفرنجي الذي يسمّيه الغربيون "بالحروب الصليبية". ثم المرحلة التي تلت الحرب العالمية الأولى عندما فرضت بريطانيا وفرنسا حالة التجزئة العربية الناجمة عن سايكس بيكو ومؤتمر سان ريمو. وقد كُرِّست بعد الحرب العالمية الثانية تحت الهيمنة الأمريكية. ولكنها تجزئة حافظت على وحدة أقطارها. وهو ما أخذ يؤول إلى الوضع العربي الراهن الذي أخذ يتجزأ ويتشظى بما يتجاوز التجزئة العربية الحديثة ما بعد 1917 حتى الآن.

هذه الحقائق التاريخية وهي تُغطي مساراً متعرّجاً للعلاقة بين مجموعة العوامل الدافعة للتجزئة والتشظي ومجموعة العوامل الدافعة للوحدة على مستوى شامل أو مستويات واسعة جداً أو على مستوى أدنى، أو نمط تجزئة الدولة القطرية الحديثة، لا تسمح اليوم استناداً للتجربة التاريخية بالاستنتاج أو القطع بأن الوضع العربي الراهن، وهو يتشظى قد دخل في مآل نهائي نحو التشظي. فمن الخطأ التصوّر أن للوضع الراهن صفة الديمومة. فالعوامل التي تشكّل مجموعة الوحدة على مستوى القطر كما على مستوى الأمّة العربية لا تزيلها غلبة عوامل التجزئة الراهنة مهما استفحلت.

هذا هو المبدأ الثاني الذي يجب أن يبقى راسخاً في الذهن عند معالجة إشكالات الوضع العربي الراهن.

إن عوامل التجزئة والانقسامات والتشظي في بلادنا العربية كانت تقوى وتتجرّأ على أن تصبح غالبة في الصراع، في ظل اختلال في موازين القوى العالمي والإقليمي والعربي. مثلاً كما حدث في مرحلة حروب الفرنجة، أو في مرحلة الغزو الاستعماري- الإمبريالي المعاصر. وقد دخل في مرحلته الراهنة الراعبة نتيجة ما حدث من فراغ في موازين القوى بعد تراجع الهيمنة الغربية- الأمريكية وهزائم جيش الكيان الصهيوني، وعدم بروز قوّة، أو مجموعة قوى متحدّة، تستطيع أن تُخْرِجَ الوضع من الفوضى الناجمة عن الفراغ الذي نشأ بعد انهيار السيطرة السابقة.

الأمر الذي يعني أن التشظي الراهن هو نتاج موازين قوى محدّدة. وهذه الموازين في حالة تغيّر دائم ولا استقرار لها فيما يمضي معاكساً لمجموعة العوامل الدافعة إلى الوحدة (سواء أكان على مستوى القطر الواحد أم على مستوى الأمّة العربية ككل).

ومن ثم فإن النظرة النافذة إلى ما هو تحت سطح الأحداث وأبعد مما يسود من ميزان قوى تسمح برؤية التشظي المستشري حالة عابرة، وغير قابلة للحياة ولا تستطيع أن تكون المستقبل.

أما من جهة أخرى إلى جانب ما تقدّم من إجابة ثمة عامل يمسّ المصلحة العليا للغالبية في كل المكوّنات التي تتشكل منها الأمّة. وهو شدّة التعارض معها من قبل التشظي والانقسامات كالفتن الطائفية أو المذهبية أو الانقسامات الجهوية أو القبلية. فالفتنة متعارضة جوهرياً مع الدين والمذهب والقيَم العليا فكل تعصّب وغلوّ وقتل على الهوية يتراوح بين المذموم والمحرّم. وكل فتنة وتشظٍ يفرق وحدة القطر أو وحدة الأمّة يتعارض مع المصالح العليا للشعب والوطن والأمّة. فالحروب الأهلية تعمّم الدمار والخراب وتعطيل الحياة فضلاً عن القتل وارتكاب ألوان من الجرائم.

ومن هنا فإن التشظي والتحارب والتقاتل الداخليين على مستوى مكوّنات القطر أو مكوّنات الأمّة يتعارض مع مصلحة الأفراد والجماعات موضوعياً وراهناً ومستقبلاً حتى لو بدا في لحظة ما مُقنعاً بأنه "الطريق الصحيح" وانساق وراءه من انساق.

فالعقل الإنساني مهما انحرف عن الجوهر لا يستطيع أن بُواجِه العواقب الوخيمة. ومن يُعانِد النتائج السلبية والعواقب الوخيمة يدخل مأزقه لا محالة، وسيجد من داخله ومن أولاده من يُطالِبه بالخروج من المستنقع. فنحن هنا إزاء مخالفة صارخة لفطرة الإنسان من جهة وللمبادئ والأخلاق والدين من جهة ثانية وللمصالح الوطنية والقومية العليا التي ترى في الانقسامات والاقتتال الداخلي والتجزئة والتشظي ما يتعارض مع الوجود والحياة والنهوض.

ولهذا لا مفرّ من أن يُعاد إلى تغليب عوامل الوحدة على عوامل التجزيء والتشظي.

صحيح أن الإجابة هنا أخذت طابعاً نظرياً ومبدئياً ومنهجياً في تصويب التعامل مع ما يُواجِه الوضع العربي. ولكن ذلك غير كافٍ لمعرفة ماذا علينا أن نعمل؟ وكيف نُواجِه هذا الوضع العربي الذي يوصَف بما شئت من أوصاف سلبية ومدمّرة؟ وكيف يمكن لهذا الوضع العربي أن يخرج من حدّة الانقسامات والصراعات والتشظيات التي تواجهه؟

حقاً هذه الأسئلة هي الملحّة وربما الأكثر أهمية. ولكن الإجابة عنها ليست سهلة أو متوفرة أمامنا. بل حتى لو أُعْطِيَت إجابات فستظل فرضيات تحتاج إلى أن تثبت صحتها عبر التطبيق والنتائج. ومن هنا فإن الارتكاز إلى النظرية والمبادئ العامّة والمنهجية الصحيحة في التعامل مع الأوضاع المعقدة هو شرط الإجابة عن أسئلتها. وهو ما يجب اللجوء إليه أولاً وقبل كل شيء. وذلك لتجنّب الوقوع في أخطاء تمسّ ما هو بدهي ومبدئي وأساسي. وهو ما لا يجوز الوقوع فيه تحت كل الظروف.   

وسوم: العدد 658