سقوط ولاية المتغلب

د. نهى الزيني

[email protected]

شكّلت نظرية "ولاية المتغلب" في بعض مراحل تطور الدولة الإسلامية ركناً ركيناً في بنية الاستبداد السياسي التي حولت مسار الخلافة على منهاج النبوة إلى ملك عضوض ثم إلى ملك جبري يستبيح كرامة الناس وحرياتهم وحقهم في اختيار من  يحكمهم ويتولى أمورهم ، حتى صار الأمر إلى ماوصلنا إليه من استدعاء لتلك النظرية في غير سياقها تبريراً للقهر والظلم بل حضاً على القتل والتحريق .

وانطلاقاً من رسالتنا كأجيال قُدر لها أن تحيا في الفترة الانتقالية – إن صح التعبير-  بين ملك جبري وخلافة على منهاج النبوة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم  (تكون النبوة فيكم ماشاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء ، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ماشاء الله أن تكون ثم يرفعها ، ثم تكون ملكاً عضوضاً فتكون ماشاء الله ثم يرفعها إذا شاء ثم ملكاً جبرياً ، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة)([1])  فإننا نتغيا من مقالنا هذا أمرين ، أولهما : كشف الحقائق وتنبيه الناس إلى مايراد بهم من رضا بالظلم وقعود عن مواجهته تذرعاً بمفاهيم إسلامية من مثل : درء الفتنة وحقن الدماء وطاعة ولي الأمر ، تم استدعاؤها منتزعة من ضوابطها الشرعية مطروحة خارج أطرها التاريخية وسياقاتها الواقعية تبريراً للقهر والبطش والاستبداد كنوع من "المتاجرة بالدين" و"شرعنة" مخالفة الشرع ، أما الأمر الثاني : فهو تبرئة الأئمة الأعلام وعلماء السلف الكرام من فرية شنعاء أُلصقت بهم مفادها أنهم أجازوا الاستيلاء على الحكم بالقوة ثم برروا ذلك شرعاً للحكام المتغلبين ومنعوا المحكومين من مقاومة القهر والاستبداد ، هذه الفرية ألصقها بهم – عمداً – أعداء الدين وأعداء أهل السنة تشويهاً لهم ولمسارهم الفقهي ، وألصقها بهم – جهلاْ – المتسلفة من المتأخرين قعوداً عن الاجتهاد لزمانهم كما اجتهد أولئك لزمانهم ، وألصقها بهم – تزلفاً – علماء السلطان الذين دأبوا على استدعاء نظريات صيغت أساساً دعماً للحق كي يبرروا بها الاعتداء على الحق ، كما ألصقها بهم – تسرعاً – بعض المخلصين الذين ساءتهم النتائج الكارثية التي أدت إليها تطبيقات النظرية فأساءوا لمنظريها من العلماء بدلاً من التمييز بين النظرية والتطبيق .

مفهوم ولاية المتغلب

المقصود بولاية المتغلب أو "ولاية المستولي" في فقه السياسة الشرعية هو تصحيح إمامة المستولي على الحكم قهراً سواء بعد شغور المنصب وقبل انعقاد البيعة لإمام جديد أو بتغلبه بالقوة على إمام قائم ، ومنهج أهل السنة والجماعة في هذه الحالة هو وجوب طاعة الإمام المتغلب ولو فقد بعض شروط الإمامة والجهاد معه وعدم جواز الخروج عليه .

وقد بدأت خطوات التأطير الشرعي لولاية المتغلب منذ مفتتح العصر الأموي بعدما روّع الناس ما أسفرت عنه فتنة البيعة الجبرية ليزيد بن معاوية من تحارب المسلمين ومقتل عدد كبير من الصحابة وآل البيت الأكرمين ، ومن استقراء حوادث تلك الفترة فإنني أزعم أن أول لبنة في البناء الفقهي لولاية المتغلب وضعتها أم المؤمنين حفصة رضي الله عنها حين أشارت على أخيها عبد الله بن عمر رضي الله عنهما بمبايعة يزيد درءاً للفتنة وحقناً لدماء المسلمين ، وربما كانت في ذلك تستدعي ذكريات أليمة وأطيافاً دامية عايشتها بنفسها في أحداث فتنة مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه.    

ثم اجتهد علماء أهل السنة بعد ذلك لوضع شروط وضوابط لإنفاذ البيعة القهرية وانعقاد الإمامة للمتغلب ، وإذا كان من جاء بعدهم لم يُعملوا تلك الضوابط ففتحوا الباب واسعاً لاستبداد المستبدين فذاك مما لاينبغي مؤاخذة أولئك العلماء الثقات به ، فضلاً عن أنهم اجتهدوا لأحوال زمانهم ولم يألوا جهداً في استنباط الحكم الشرعي من أصوله المعتبرة وماكان مطلبهم في ذلك سوى دفع الفتن وحقن دماء المسلمين وليس دعم الاستبداد أو تبرير الاستيلاء على الحكم بالقوة ، والشواهد على ذلك كثيرة ، منها أن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله القائل بالسمع والطاعة للإمام المتغلب بالسيف([2]) هو ذاته الإمام أحمد راوي حديث دفع الصائل وفيه : (أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي قال : فلا تعطه ، قال : أرأيت إن قاتلني قال : قاتله ، قال: أرأيت إن قتلني قال : فأنت شهيد ، قال : أرأيت إن قتلته قال : هو في النار)([3]) وهو ذاته الإمام أحمد الذي سطر له التاريخ وقفته المشهودة في وجه الخليفة المأمون ورفضه مجاراته أو التبرير الشرعي لانحرافه وصموده في مواجهة الاضطهاد والسجن والتشويه حتى أنقذ الله سبحانه وتعالى على يديه أمة محمد صلى الله عليه وسلم من السقوط في فتنة خلق القرآن بفضل صلابته في موقف عقدي مصيري .

ضوابط ولاية المتغلب

يكشف تبين الضوابط الشرعية لإجازة ولاية المتغلب والتي نعرضها فيما يلي أن النظرية برمتها تبلورت في ضوء اجتهادات فقهية لمواجهة واقع يختلف تماماً عن واقعنا الحالي :  

أولاً : إن حكم ولاية المتغلب – كما هو الشأن في أغلب الأحكام المتعلقة بسياسة الدولة –  يقع تحت باب المتغيرات وهي موارد الاجتهاد التي لم يرد عليها دليل نصي قاطع من كتاب أو سنة أو إجماع صريح وذلك على عكس ثوابت الشرع المنزل التي لايسع المسلم المنازعة فيها أو  الخروج عليها وهي الأحكام  الثابتة بنصوص قطعية أو بإجماع صريح([4]) .

ثانياً : الأصل الإسلامي في تولي الحكم أن يتم باختيار المحكومين لقوله تعالى (وأمرهم شورى بينهم) (الشورى : 38) ، ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (لو كنت مؤمراً على أمتى أحداً من غير مشورة منهم لأمرت عليهم ابن أم عبد)([5]) ، كما رُوي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال (من بايع رجلاً من غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يُقتلا)([6])، فإمامة المسلمين لاتثبت إلا بإرادة الأمة ، أو كما قال الإمام أبو يعلى الفرّاء في الأحكام السلطانية : "إن الإمامة إنما تنعقد بعهد المسلمين" .

ثالثاً : يتفرع عن هذا الأصل أن تولي الحكم عند أهل السنة إما أن يتم ببيعة أهل الحل والعقد أو بالاستخلاف وهو مجرد ترشيح لاينفذ إلا بإرادة الأمة ، وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة : "وكذلك عمر لما عهد إليه أبو بكر إنما صار إماماً لما بايعوه وأطاعوه ولو قدّر أنهم لم ينفذوا عهد أبي بكر ولم يبايعوه لم يصر إماما" .   

رابعاً : كما أن من الأصول الإسلامية عدم جواز تولية طالب الولاية – ومن باب أولى المستولي عليها غصباً – وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنا والله لانولي هذا العمل أحداً سأله ولا أحداً حرص عليه)([7])

خامساً :  وبناء على ذلك فإنه إذا حدث اعتداء على إرادة الأمة في اختيار من يحكمها فالواجب استنفاذ كل سبل المواجهة والردع الممكنة في مواجهة المعتدي ، إذ مقاومة الاعتداء وعدم الرضا بالظلم ومدافعة الصائل – ولو كان مسلماً مقيماً للشرع -  أصل من أصول الإسلام لقول الله تعالى (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) (البقرة : 194) وقوله تعالى (والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون) (الشورى : 39)، وكما أن الصيالة تكون بالاعتداء على النفس والعرض والمال فإنها تكون كذلك بالاعتداء على حق المسلمين في اختيار حكامهم بإرادتهم الحرة ، ومادامت هناك مقاومة للمعتدي من جانب فريق معتبر من الأمة فإن القول بوجوب طاعته دفعاً للفتنة يصبح هو ذاته محض الفتنة ، وهو ماوعاه الصحابي الجليل عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما حين رفض البيعة ليزيد في حياة معاوية قائلاً له : (إنك والله لوددت أنا وكلناك في أمر ابنك إلى الله وإنا والله لانفعل ، والله لتردن هذا الأمر شورى في المسلمين أو لتثيرن عليك الفتنة) ، كما وعاه من بعده الثائران العظيمان غراس يد وحملة منهاج رسول الله صلى الله عليه وسلم : سبطه الحسين بن علي وربيب بيته الطاهر عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما حينما جادا بروحيهما وهما يجاهدان لمنع انتقال نظام الحكم الإسلامي من منهاج النبوة إلى منهاج القياصرة والأكاسرة .  

سادساً : يشترط لإجازة ولاية المتغلب – وليس جوازها([8]) -  أن يتحقق التغلب فعلياً ، أي أن يتم قهر الإمام القائم وجنده ومناصريه ويستقر له الأمر دون معارضة قوية فلا يجد الناس سبيلاً إلا الإذعان له والدخول في طاعته ، ومن اجتماع الناس على ذلك – ولو من باب الضرورة –  تتحقق إرادة الأمة كمصدر للسلطان ، ومن هنا يتضح المدلول الحقيقي لمقولة عبد الله بن عمر رضي الله عنهما لمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه لما طلب منه البيعة ليزيد : (إنما أنا رجل من المسلمين فإذا اجتمعوا على أمر فإنما أنا واحد منهم) .

سابعاً :  إن ولاية المتغلب تدخل في باب الضرورات التي تبيح المحظورات ، والضرورات تقدر بقدرها وتقدر بزمانها وبظروفها ، فإذا كان متصوراً أن طاعة الإمام المتغلب ضرورة في بعض المجتمعات التي تقوم فيها توازنات القوى على العشائرية والعصبيات القبلية وفي أزمنة لم تعرف تنظيمات حديثة أوقواعد ومواثيق دولية لردع المعتدين ، فإن القول بأن تلك الضرورة التاريخية مازالت قائمة حتى اليوم وفي كافة المجتمعات لهو قول يناقض الواقع المعاصر الذي يتجسد فيه فعل التغلب في صورة انقلاب على الحكومة الشرعية وهو فعل أصبح مؤثماً دولياً – ولو من الناحية النظرية – كما أن المواثيق والعهود الدولية فتحت أمام الشعوب المقهورة مسارات عملية وقانونية عديدة لاستعادة حقوقها مما أسقط حالة الضرورة التي ألجأت الفقهاء قديماً إلى استنباط الأحكام الشرعية لتأطير التعامل معها .

ثامناً : أما الضابط الأساسي الحاكم لإجازة ولاية المتغلب فهو أن يكون قائماً على حدود الشرع غير منتهك لحرماته ، سواء أكان قد استهدف من الخروج على الحاكم القائم نصرة الدين أم كان ذلك لأي غرض آخر ، ومما لاشك فيه أن علماء السلف حين أسسوا لتلك الصورة من صور الحكم الإسلامي لم يرد على خواطرهم ولا جال بأذهانهم ولا داعب خيالاتهم ولا طاف بأحلامهم أن يكون الاستيلاء على الحكم المجاز للضرورة قد تم أصلاً خوفاً من السير في اتجاه تطبيق الشريعة الإسلامية أو دفعاً لجنوح البعض نحو "أسلمة" المجتمع !

               

الهوامش

 (1)  مسند الإمام أحمد عن النعمان بن بشير .

(2) أصول السنة للإمام أحمد من رواية عبدوس بن مالك العطار .

 (3) مسند الإمام أحمد عن أبي هريرة .

 (4)  مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية .

(5) رواه أحمد في مسنده والترمذي وابن ماجة عن علي بن أبي طالب .

 (6)  فتح الباري في صحيح البخاري .

(7)  متفق عليه من حديث أبي موسى الأشعري .

(8)  إذ لاتلازم بينهما كما بين  الحافظ بن حجر في فتح الباري .