كرامة لبنان والاتجار الجنسي بالسوريّات

انفجرت في وقت متقارب أخبار عديدة قادمة من لبنان كان أسوأها وقعاً اكتشاف شبكة اتجار جنسيّ بفتيات معظمهن سوريات تعرّضن لإجبارهن على ممارسة البغاء، للاستعباد والاغتصاب والاجهاض القسريّ والتعذيب النفسيّ والجسديّ والتشويه.

كشفت التحقيقات الأولية عن وجود الشبكة المذكورة في مناطق لبنانية مختلفة وهي تستدرج سوريّات بزعم تأمين عمل لهن، وتلمّست العمليات الأمنية التي أدت إلى تحرير 75 فتاة واعتقال بعض أعضاء الشبكة معالم سوق لبنانيّ واسع للاستعباد والاتجار الجنسيّ بالفتيات السوريّات يقف خلفه رجال أعمال وعصابات إجراميّة متكاملة فيها العناصر المسؤولة عن الخداع وتأمين استمرار العنصر البشريّ، ورجال الأعمال من أصحاب الملاهي والفنادق وبيوت الليل، والزبانية المسؤولون عن التعذيب والتشويه والتدمير النفسيّ للفتيات، والحرّاس (ذكوراً وإناثاً)، بل إن للشبكة فرعا طبّيا اعترف طبيب فيها بإجراء نحو 200 عملية إجهاض.

كل ذلك يعني أن الفتيات المحرّرات يشكّلن نسبة فحسب من مجمل عدد ضحايا العبودية الجنسية في لبنان، وإذا أضفنا التأكيدات المتكررة في التغطيات الإعلامية للحدث أن شخصيّات لبنانية متنفّذة، أمنية وسياسية، تساهم في حماية الشبكة الإجرامية، نستنتج بسهولة أن المخفيّ في شأن هذه القضية ما زال كبيرا.

نسيء كثيراً لقضية الفتيات السوريّات لو فصلنا معاناتهن الفظيعة التي تجمع، بشكل شيطانيّ، بين أشكال الاستغلال الجنسيّ، مع عناصر أخرى انجدلت في عمق المأساة الكبرى التي يعيشها الشعب السوريّ، من التعذيب الجسدي الذي يذكرنا بضحايا النظام السوري الذين بلغوا ما يقارب 20 ألف سجين توفّوا تحت التعذيب، إلى تحطيم الكيان النفسيّ لفتيات (بينهن قاصرات) بكافة أشكال الضغط الإجراميّ، وهو معادل مختصر لتحطيم الكيان النفسيّ للشعب السوريّ عبر ممارسات مشابهة تريد كسر روح الحرّية لإعادة تدوير نظام الاستبداد.

الجانب اللبناني من المسألة تحضر فيه أيضاً عناصر معقّدة، فالمصادر الأمنية تقول إن رأس الشبكة لبناني يدعى حسن زعيتر، وأن «مديرها التنفيذيّ» سوريّ يدعى عماد الريحاني، ويقوم الأخير بدور الجلاد الجسديّ والنفسي الذي يعذّب الضحايا ويصورّهن لعرضها على الفتيات لإرهابهن وإخضاعهن، وهو ما يذكّرنا بالشراكة القائمة بين النظام السوريّ وحلفائه اللبنانيين، في تقاسمهما للأدوار، ليس في المعارك العسكرية والدبلوماسية والإعلامية فحسب بل في شبكة واسعة من المصالح والمنافع ومناطق النفوذ (منها حقول المخدرات الهائلة في سهل البقاع) والتي يضيع فيها الفارق بين السياسة والإجرام.

مثير للجدل، على خلفيّة هذا الموضوع، ما أثارته قضية الكاريكاتير حول العلم اللبناني، والتي تشير إلى تحوّل الضغط السعودي على بيئة «حزب الله» الحاضنة إلى موضوع تأجيج للكراهية بين اللبنانيين عموما والمملكة، ورغم أن مهمة رسام الكاريكاتير الطبيعية هي السخرية من كل شيء والتقاط المفارقات الفاضحة، وأن المجتمعات المعافاة نفسياً تتقبل السخرية من زعمائها ورموزها، بما فيها العلم، فإن الضخّ في هذه التوتّرات الجارية جعل تلك السخرية من العلم اللبناني أمراً يثير حفيظة أطراف لبنانية عديدة، رغم أن السعودية ليست هي التي تهدد هويّة البلد، بل الحزب الذي يربط نفسه بمصالح إيران البعيدة جغرافيا وثقافيا عن لبنان.

الأحرى أن يسائل الحادثان المذكوران مفهوم الكرامة الحقيقية في لبنان، والذي تباهى على أقرانه من البلدان على مدار عقود بمساحة حريّات التعبير وحقوق الإنسان واستنكرت أحزابه، كافّة، أوضاع الاستبداد العربية وإهانة البشر واستعبادهم وتحقيرهم، فإذا بلبنان ينقلب على نفسه ويزاود في تحقيره واستعباده وإهانته للكرامة البشرية على كل من كان ينتقدهم.

الكرامة البشرية لا يمكن أن تنفصل عن حب الوطن والتغنّي بعلمه وأرزته والحفاظ على دولته.