في عيد المعلم : اللغة العربية والتحديات المعاصرة

لا ريب في أن التحديات الثقافية التي تواجه أية أمة , تعتبر أكبر خطراً من التحديات السياسية أو العسكرية أو الاقتصادية , لان أياً من هذه التحديات يمكن تجاوزه مرحلياً في إطار الصراعات السياسية , أو التنافس الاقتصادي , أو الضغوط العسكرية .

ولكن التحدي الثقافي يكمن في قدرته على تغيير صورة الأمة وإلغاء ذاكرتها , وتشويه شخصيتها , مما يجعل تفتيتها وشرذمتها أمراً سهلاً على كافة المستويات .

ويمكن إيجاز التحديات التي تواجه اللغة العربية , وهي اللغة التي تشكل الحامل الفكري للحضارة والثقافة, في الأمثلة التالية :

أولاً ـ تحدي الذوبان في نطاق العولمة الثقافية : ومن الملاحظ أن العقود الأخيرة قد شهدت تسارعاً في موت كثير من اللغات , وتهميش بعضها الآخر , ومحاولة زعزعة الثوابت لدى لغات  أخرى , وسواء أكان ذلك يتم عن سابق عمد وإصرار , أو يأتي نتيجة عدم التكافؤ الثقافي  والتقني , فإن النتيجة واحدة , وهي أن مئات اللغات قد انقرضت , وبخاصة في إفريقيا وأمريكا اللاتينية  , وانقرضت معها أشكال شتى من التراث الثقافي المادي وغير المادي , بما في ذلك من حكايات وأمثال وأغان وعادات وتقاليد .

ثانياً ـ التحدي السياسي:إن اللغة هي العنصر الأول في بناء شخصية الأمة وتكوين ثقافتها  وانتمائها الحضاري و القومي , وليس الانتماء عرقاً و لا نسباً , بل هو ثقافة وحضارة ولسان , و اللغة العربية في هذا المجال  هي الدرع  الوطني الذي يحمي الشخصية القومية ويربط الماضي بالحاضر و المستقبل , وهي الوعاء الثقافي الذي يشكل  التراث المحدد للهوية و المميز لها , وقد رأينا أن أول ما فعله المستعمرون في بعض الأقطار العربية هو تغييب اللغة الوطنية وعزلها  وتهميشها وفرض لغة المحتل .

ثالثاً ـ التحدي الإنساني :إن ثقة الإنسان بتاريخه وتراثه تجعله يثق بشخصيته وبحاضره  ووجوده , ومنذ ما يسمى بعصر النهضة الأوربية في القرن  السادس عشر , حاولت المركزية الأوربية تقزيم الحضارات الأخرى وإخراجها من الساحة التاريخية , وبخاصة الحضارة العربية الإسلامية التي كانت على احتكاك كبير بأوربا خلال أكثر من ألف سنة , وقد نجحت هذه المحاولات  الأوربية – للأسف – وإلى حد كبير في زعزعة الشخصية العربية , وفي إشعارها بأنها على هامش التاريخ , وأنها دون الحضارات المعاصرة , وأنها قاصرة عن اللحاق بالركب  العالمي المتقدم .

إن لغتنا بحاجة إلى جهدنا في تطويرها و إدخالها في العصر وإدخال العصر فيها , بحيث تكون الرداء الإنساني الجميل للمواطن العربي .

رابعاً ـ التحدي التعليمي والأكاديمي : وذلك بسبب التسارع الكبير اللاهث يومياً وراء التقدم التقني وتشعب اتجاهات البحث العلمي , واللغة كائن حي يطوره أبناؤه , وعلى كل شعب أن يجعل لغته تواكب البعد العلمي والأكاديمي ترجمة وبحثاً وتطويراً ورصد إمكانات بشرية ومالية .

وإلا فإن اللغة سوف تشهد تراجعاً أمام اللغات الأخرى الزاحفة عبر العالم . وهنا نجد أمثلة أخرى لمواكبة التحدي العلمي والأكاديمي لدى لغات الشرق الأقصى في اليابان والصين والهند , وهي التي استطاعت أن تضمن لنفسها موطىء قدم في الساحة الأكاديمية العالمية ويتصل بهذا التحدي كل برامج التعليم في  مراحله  المختلفة .

إن فصل الجهد الأكاديمي عن التعريب , وجعله محصوراً بلغة أجنبية أمر بالغ الخطورة , لأنه يؤدي إلى عزلة الفئة الأكاديمية في برجها العاجي من جهة , وعزلة جمهور الشعب عن التطور العلمي , فالجهد الأكاديمي يجب أن يرقى بالمجتمع , وهذا لا  يكون إلا باللغة الوطنية  للمجتمع. 

خامساً ـ التحدي الاقتصادي :إن التخلف الاقتصادي أحد مظاهر المجتمع العربي – كمجتمع نامٍ منتم إلى العالم الثالث , والتخلف الاقتصادي أمر مرتبط بالتخلف الاجتماعي , و بالتالي مرتبط بالأمية   والعجز الثقافي , ولا بدمن ربط المشكلات كلها في إطار واحد , فالإنسان هو جذر التقدم , والتنمية البشرية تنطلق أساساً من بناء الإنسان في إطاره الوطني والحضاري و التراثي ,  والإنسان هو الثروة الحقة و ليس النفط أو المواد الخام , والإنسان المتقدم هو الذي يصنع مجتمعه وثروته ولا يسمح للآخرين بنهب ثرواته وتهميش دوره , ومن هنا فإن التعريب الحضاري  والأكاديمي و التعليمي هو سبيل إلى بناء اقتصاد قومي متماسك قائم على أسس منهجية وعلمية .

سادساً ـ التحدي الإعلامي : ولهذا الأمر تشعبات عدة , فنحن في عصر طوفان المعلومات المتدفقة عبر الفضاء وشبكات الانترنت وألوف المطبوعات , ووراء ذلك كله سياسات ترسم الأبعاد الاستراتيجية لهذا التدفق الإعلامي , بحيث غدا الإعلام سلاحاً أشد قوة وفتكاً من السلاح العسكري ويفرض هذا التحدي توحيد الجهود العربية سياسياً و أكاديمياً للوصول إلى ترابط ثقافي في مجالات الإبداع و الأدب و الفن و السينما و التلفزيون , وإخراج الثقافة العربية من نطاقها المحلي إلى نطاق عربي واسع , وهذا لا يكون إلا من خلال العربية الفصحى لغة للأعمال الأدبية كالقصة و الرواية  والمقالة و الشعر و الصحافة و الأخبار و المسرح , مع تقريب هوامش الفروقات بين اللهجات العامية بحيث تغدو لغة الصحافة و الإعلام المسموع و المرئي مفهومة لدى كل المواطنين  العرب . 

إن الوطن العربي لا يعيش حالة تعدد ثقافي ,بل هناك تمايز ثقافي تمليه الظروف التاريخية المكانية و التاريخية , ولكن الإطار الثقافي العام في الوطن العربي تحكمه أرضيات  ومكونات واحدة مشتركة , ولهذا نستطيع القول وبكل وضوح , إن هناك ثقافة عربية واحدة , ولكنها تبرز في صورة متمايزة في هذا القطر أو ذاك .

سابعاً ـ تحدي الفصحى والعامية :  في مجالات الإعلام والأعمال الفنية من مسرح وسينما وغناء والنمو الهائل للفضائيات والإذاعات والدوريات من صحف ومجلات في شتى مجالات المعرفة , ويتصل بهذا المجال الفهم الخاطئ للواقعية الفنية , والفهم الخاطئ لجدلية الحداثة والتراث , والأصالة و المعاصرة .

ويمكننا في هذا المجال  رصد الملاحظات التالية :

‌أ. إن إغراق بعض الفضائيات في الدارجة المحلية يجعل من الصعب جداً – إن لم يكن من المستحيل – فهم هذه الدارجة لدى المشاهد و المستمع العربي في أقطار أخرى , وبالتالي تنتفي الفائدة المتوخاة من التواصل الإعلامي .

‌ب. إن بعض اللهجات المحلية مشحونة ببعض المفردات من لغات أخرى يقتضيها الجوار الجغرافي أو التاريخي , وبالتالي تغدو غير مفهومة على مستوى المواطن العربي عموماً .

‌ج.  إن لغة الإعلام البسيطة الواضحة السهلة يمكن أن تغدو أمراً متعارفاً عليه , وبالتالي لا تعني الفصحى بالضرورة استخدام المصطلحات المعقدة والتي لم تعد تلائم العصر .

‌د. إن ذلك لا يعني أن نقوم بشن حرب على اللهجات الدارجة في كل قطر عربي , لأن لكل من هذه  اللهجات خصوصيتها الفولكلورية وتراثها الغنائي و الفني و الزجلي و تكريسها لمحليات العادات والتقاليد .

ولكن هذا  لا يعني الاتكاء الشديد على المحليات الضيقة و تجاهل الفصحى التي هي لغة مئات الملايين من العرب

يلاحظ كذلك في هذا المجال إقدام بعض الجهات وبخاصة في المجال الفني على استخدام الحرف اللاتيني بدلاً من الحرف العربي وذلك في عناوين الأغاني و الأفلام و أسماء الفنانين , ويشبه ذلك لوحات الأماكن العامة والخاصة .

وهذا التصرف له خطورته الكبرى على حيوية  اللغة العربية من جهة , وعلى دقة المعلومة المقدمة من جهة أخرى . لأن العربية فيها أحرف لا توجد في الأبجدية اللاتينية  مثل : ض ــ ع ــ ص ــ ط ــ ظ .. الخ , وبالتالي فإن التصرف بالأسماء والمصطلحات تؤدي إلى تشويه خطير في  تلك الأسماء و المصطلحات على المستوى اللغوي و مستوى المفهوم الصوتي والمعنوي .

وسوم: العدد 665