صورة متقابلة لفواصل أدبية بين العربية والفارسية

رداً على الشعوبي حميد رضا مهاجراني 

خاص بالقادسية

أرسل إلي أحد الإخوة منذ أيام عبر البريد الإلكتروني مقالاً بعنوان (صور متقابلة أواصر أدبية بين العربية والفارسية) للكاتب الإيراني حميد رضا مهاجراني، ثم طلب مني التعليق على المقال بشكل علمي بعيداً عن منهجية إلغاء الآخر، كما حصل في مقالاتي السابقة عن فارس وحضارتها المزعومة، وأن أخفف من حدة لهجتي العدائية!!

أولاً أخي الفاضل، أنا لا أقصي أحداً وليست هذه منهجيتي. ولكن ما يكتبه راقم هذه السطور ليس سوى تقرير واقع مشهود وتاريخ شاهد.

لا أثر تاريخياً لحضارة فارسية قبل الإسلام

وإذا كانت (البينة على من ادعى) قاعدة علمية أرساها نبينا e فلي أن أقول: إن كنت تعتقد بوجود حضارة فارسية قبل الإسلام فقدم الدليل من خلال منجزاتها في مجالات الطب والفلك والأدب وغيرها من هذه العلوم؛ فكتاب واحد من هذه الفنون يكفيني ولو كان كتاباً في فن الطبخ!!

وفي المقابل سأذكر لك إن أردت المئات من الشعراء والحكماء في العصر الجاهلي إن لم يكونوا بالآلاف. وفي الطب مثل الحارث بن كلده والسمعاني. أذكر لي حضرتك اسم حكيم فارسي قبل الإسلام ولو كان بحكمة بهلول المجنون في العصر العباسي أو شاعر؛ وقتها سأتراجع عن كل ما كتبت، وبكل شجاعة سأعتذر. أقول جازماً: إن العرب وهم في عصرهم الجاهلي كانوا أكثر تطوراً من الفرس. لاحظ كيف أن هناك في أكبر الجامعات تخصصاً في (الأدب جاهلي)، ورسائل دكتوراه في الموضوع. وفي المقابل لا تجد - بل لا تسمع - بتخصص أدب فارسي قبل الإسلام!!

اقرأ ماذا يقول المؤرخ الإيراني ناصر بوربيرار صاحب كتاب (12 قرنا من الصمت) يقول: "يوجد لدينا في إيران عدد من النقوش على الصخور من عهد الإخمينيين والساسانيين، لا تتحدث هذه النقوش عن أية ثقافة أو حضارة أو فكر أو حتى عن دين. لا يوجد في هذه النقوش أي كلام عن زرادشت وكتابه أفيستا. فلم تتحدث هذه النقوش عن الشؤون الثقافية، حيث كلها ومن دون استثناء إما تتحدث عن قضايا شخصية، وإما عن قضايا عسكرية". ويضيف بوربيرار: "على الذين يدعون بوجود زرادشت وكتابي أفيستا وزند، أن يقدموا وثائق تاريخية تثبت هذا الأمر. فهؤلاء الذين يدعون بوجود أديان أو حكمة في إيران القديمة أو أي شيء ثقافي أو حضاري قبل نشوء الإسلام، لم يقدموا أية وثيقة ولا أية نقوش صخرية ولا حتى مسكوكة نقدية، حيث من دون هذه الوثائق يتحول الكلام في هذا المجال إلى أساطير".

وأما علماء الفرس بعد الإسلام فهم نتاج بيئة عربية إسلامية، وهي بيئة منتجة للعلم والحضارة، على العكس من البيئة الفارسية، التي لا تهتم بغي الحروب. وكثير منهم نسبوا إلى الفرس وليسوا منهم، كأبي حنيفة والبخاري.

حين يكون الكرم نقيصة ..!

ثانيا قرأت كلام هذا المهاجراني الذي وضع عنواناً بنعومة جلد الأفعى حاول من خلاله تمرير أفكار شعوبية وتجريد العرب من صفة الإبداع والفضيلة. والمقال طويل ولكني سأشير الى أهم ما فيه حسب وجهة نظري:

يقول المهاجراني: "وقلة الموارد الغذائية في بلد قليل الإنتاج والمحاصيل، قد جعلت للضيافة والإطعام شأناً كبيراً ما لبث أن صار طبيعة أصيلة عند العرب حتى في أيام الرخاء، وغالى العربي في جودة الطعام والإنفاق حتى صار مضرب مثل في الكرم وصار قسم كبير من الشعر مقتصراً على وصف الكرم والكرماء ومدحهم".

أقول: المهاجراني ابن بيئته، وما يكتبه ماهو إلا إنعكاس لواقعه العرقي والاجتماعي، ولم يستطع تجاوز ما راكمته الأساطير والبيئة المعادية والعصبيات القومية التي غذت المخيال الفارسي عبر قرون طويلة بنسخته الأخيرة.

إن حصر أرض العرب بالجزيرة فقط (نجد والحجاز) في مواضع كثيرة من مقاله، ومن خلال وصفه لجغرافية الأرض التي تتطابق تماماً مع جزيرة العرب كما هو واضح.. له مغزاه في وعيه ولا وعيه، حيث لا يعتبر غيرها أرضاً عربية بل تابعة للإمبراطورية الفارسية البائدة، وهيهات له ذلك!

هل يريد أن يُفهم القارئ أن الكرم العربي نتيجة لجوعهم ونقص غذائهم؟ حسناً، فها هم العرب في العراق والشام ومصر واليمن يتمتعون منذ آلاف السنين بوفرة الغذاء وجودة المحاصيل، ومع ذلك يشاركون إخوانهم في الجزيرة طبيعة الكرم وعاداته. ام إنه لا يعدها بلاداً عربية؟ ثم إن الجزيرة العربية قد انتفت عنها أسباب الجوع وأصبحت منتجة للغذاء، ولها وفرة في المال؛ فلماذا لا يعودون إلى البخل؟

وأذكر المهاجراني بأن مكة قد أكرمها الله تعالى بالرزق منذ أمد بعيد وذلك ببركة دعاء أبينا إبراهيم u كما أخبر سبحانه فقال: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (البقرة:126). وقال: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) (إبراهيم:37). فلماذا أهلها كرماء كانوا وما زالوا؟ ولن يزولوا بإذن الله. الكرم في العرب إذن طبيعة متأصلة، لا فضيلة مكتسبة.

هذا من ناحية الأدلة التاريخية والجغرافية. أما من ناحية التحليل النفسي الاجتماعي (سيكولوجية الجماهير)، فإن ما قاله المهاجراني معكوس الوضع، مردود الاتجاه؛ فالملاحظ أن البلاد التي تصاب بالمجاعة، خصوصاً إذا طالت وتكررت، يميل أهلها إلى البخل لا إلى الكرم، ما لم يكن الكرم طبيعة متأصلة لا عادة مكتسبة. وهذا من الناحية الأُخرى يفسر البخل عند الفرس؛ فإن هضبة فارس - موطن الفرس الأصلي - أرض فقيرة مجدبة لا يصلح للزراعة أكثر من 15% من مجموع مساحتها. وهي موقعذو طبيعة جبلية في منتصفه صحراء هي من أكثر مناطق العالم حرارة وجفافاً؛ إلا أن يكون البخل طبيعة متأصلة في نفوسهم، وهو كذلك. وما قاله يعكس رغبة دفينة في تمجيد البخل الصفة الراسخة عند الفرس. وهو ما فعله الشعوبي الفارسي سهل بن هارون، ، الذي وضع رسالته في ذم الكرم وتمجيد البخل وأهداها لوزير المأمون الفارسي الفضل بن سهل؛ فهرب إلى المزراب من المطر! 

أخيرا معاذ الله ان أقلل من قيمة الشعب الإيراني في كل مقالاتي؛ ففيهم الصالح والفاجر كما في العرب وامم الأرض ومنطلقاتي لا ترتكز علي عصبيات وقوميات فكلنا من تراب والفارسي المسلم الصالح أقرب لي من العربي الفاجر، ولكن الغرض من كتاباتي تسليط الضوء على هؤلاء الشعوبيين الذين ينبشون في مقابر التاريخ بحثاً عن تجديد العداوات والحرص على ديمومتها ورفع وتيرتها.

وسوم: العدد 667