الجزائر بين الوزيرة الفرانكفونية والمعلمة العروبية

ما كانت المعلمة الجزائرية صباح بودراس لتعلم حين قامت في اليوم الدراسي الأول بتصوير شريط فيديو لها مع تلاميذ صفها الصغار وهم يردّدون من ورائها جملاً تتعلّق باللغة العربية والأخلاق أنها ستصبح في قلب الحدث الجزائري، وتتحوّل حادثتها إلى قضية رأي عام، ظاهرها مخالفة لنصّ قانوني، وباطنها مليء بالصراعات السياسية والأيديولوجية والدينية (وحتى الإثنية) التي تعجّ بها الجزائر.

ما حوّل هذه المسألة فجأة إلى موضوع للاستقطاب العنيف بين الجزائريين هو أن وزيرة التعليم نورية بن غبريط «قرّرت فتح تحقيق في القضية لانتهاك هذه المعلمة لخصوصية التلاميذ وعدم التزامها بقانون يمنع التصوير داخل الأقسام».

نصّ القانون الذي تذكره الوزيرة واضح في منعه للتصوير داخل صفوف المدارس، وخصوصاً لكون الطلاب صغار العمر، وهو أمر اعترفت به المعلمة نفسها، لكنّها استغربت أن تتحوّل من مخالفة لم يعترض عليها أولياء أمور التلاميذ (الذين ظهروا في وسائل الإعلام وهم يثنون على ما قامت به) إلى أمر يستوجب فتح تحقيق.

تطوّر الأمر مع قيام رواد وسائل التواصل الاجتماعي بإنشاء صفحات تضامن وتواصل مع المعلمة، كما بدأ معلمون وطلاب آخرون بما يشبه حركة عصيان، وذلك بتصوير شرائط فيديو مشابهة للتضامن مع صباح بودراس.

من جهة أخرى فإن بعض الكتاب وبعض المعلقين على وسائل التواصل الاجتماعي ألقوا بالمسألة في خضمّ الصراع المستعرّ في الجزائر منذ عقود مع اتجاه يقيم ربطاً مباشرا بين التعريب والإسلام (وبين الإسلام والتخلف والرجعية بالطبع)، ويعتبر الفرانكفونية مرتقى العلمانية والحداثة، واعتبر مناصرو هذا الاتجاه فيما قالته المعلمة دعوة للتعصب والانغلاق، وأنها تنقل «أفكارا مسمومة ومتطرفة».

ما توضحه الحادثة أنه في مجتمع يعاني من أزمات اجتماعية وسياسية بنيوية عميقة فإن كل حادث يخصّ ظواهر ثقافة هذا المجتمع يحمل في داخله قابلية التسييس والاستقطابات التناحرية.

حادثنا هذا بدوره يحمل عدداً من التعارضات المميّزة، فالوزيرة المذكورة محسوبة على التيّار الفرانكفوني المذكور، ولغتها العربية ركيكة مقارنة بلغتها الفرنسية التي تطلق بها تصريحاتها، كما أنها متهمة بالعمل على تغيير مناهج الدراسة الجزائرية لصالح الاتجاه الفرانكفوني المذكور، فيما أن الشابّة التي أثارت الجدل متحمّسة للغتها العربية، كما أن علاقتها بدينها مقدّمة في شريط الفيديو بطريقة لطيفة، فحجابها الأسود من قماش مطرّز شفاف وكلماتها تدخل إلى القلب لعفويتها وحماسها الذي شاركها فيه الأطفال.

أحد جوانب القضيّة أيضاً هو هذا التواجه الفادح بين الوزيرة الرسميّة التي تصدر القرارات وتأمر بالتحقيقات على شاشات التلفزة أمام الموظفة الصغيرة في ولاية بعيدة عن العاصمة، والتي تستخدم جهازها المحمول ووسائل التواصل الاجتماعي، وفي هذا الصراع بين الرسميّ والشعبيّ، والنخبويّ والعامّ، والتلفزيون وجهاز الموبايل، والفرنسية والعربية، والأيديولوجيا والدين، ليس صعباً أن نفهم سبب تعاطف الناس مع المعلمة.

اعتبر بعض الجزائريين أن اهتمام الوزيرة نورية بن غبريط بالمعلمة صباح بودراس هو أيضاً شكل من أشكال إلهاء الناس عن المشاكل الكارثية التي تعاني منها الجزائر، في قطاع التعليم وفي غيره من القطاعات، وهو أمر يصحّ على السياسات العامّة للحكومات الجزائرية، لكنّ الحادث في الحقيقة هو عرض من أعراض هذه المشاكل الكارثية، وهو عنوان لأسئلة لم تستطع النخبة الجزائرية الخروج منها بعد.

وبالمناسبة فمدينة باتنة التي جرت فيها الحادثة تأسست بمرسوم صدر مثل هذا الشهر ولكن عام 1848، وصدر عن السلطات الفرنسية المحتلة، وكان المقصود منه جعل باتنة مدينة مستقبلية.

وكل هذا يذكرنا بما قاله الشاعر الداغستاني رسول حمزاتوف: إذا أطلقت نيران مسدسك على الماضي أطلق المستقبل نيران مدافعه عليك.

وسوم: العدد 685