هل ثمة تآمر على الأمة العربية

هل أصبحت الهوية العربية للدولة القطرية مرمى للسهام؟ وهل أصبحت الأمة العربية والوطن العربي، عموما، مرمى لقذائف تشكك بوجودهما أصلا، وتاريخا وواقعا؟ وهل أصبح القول أن سايكس- بيكو أو أن الاحتلاليْن الاستعمارييَْن البريطاني والفرنسي للبلاد العربية وتجزئتها إلى 22 قطرا من الخرافات أو تزويرا للتاريخ؟

هذه الأسئلة التي كانت يوما من الأيام، أو عقودا من السنين، غير واردة، أو ما كان لأحد أن يجرؤ على طرحها إلا همسا ومن وراء الظهر أو في الزوايا المعتمة، أصبحت اليوم تقدم باعتبارها مسلمات، فيتهم الذي ما زال يقول بوجود أمة عربية، ووطن عربي بأنه يعيش في الماضي ويتكلم لغة خشبية.

صحيح أن التوجهات القطرية مثل الفرعونية والفينيقية والكنعانية ليست جديدة. وصحيح أن تاريخ البلاد التي أصبحت تسمى عربية مرت بها حضارات قديمة كثيرة، وعاشت فيها عدة شعوب اندمجت في ما أصبح يضم الأمة العربية في ظل الإسلام الذي لعب طوال ألف وأربعمائة سنة دورا رئيسا في هذا الاندماج والتشكل. 

الأمر الذي يعني أن سكان البلاد التي أصبحت تُعرَف بالبلاد العربية هم تشكيل واسع من أصول عربية وأبناء حضارات قديمة أو من أصول قومية أخرى أو من وافدين استوطنوها سواء جاؤوها غزاة حكموها، أو موجات هجرة، فكل هؤلاء أصولهم وأديانهم وهوياتهم جمعتهم في نهاية المطاف لغة موحدة هي اللغة العربية، وتاريخ إسلامي مشترك، وعلاقات اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية وحضارية عربية وإسلامية واحدة. 

كل هذه العوامل تجمعت لتطلق على المنطقة الممتدة من المحيط إلى الخليج البلاد العربية. وقد أصبح سكانها أمة عربية لا تتشكل ولا تنحدر من عرق قومي واحد. 

فكل من يسكن البلاد العربية تاريخيا أصبح مواطنا فيها سواء أكان من أصول عربية أم غير عربية تماما كما هو الحال بالذين شكلوا الأمة الصينية أو الهندية أو الأمريكية، فالانتساب هنا إلى بلاد ومجتمعات ومواطنة وليس إلى أعراق أو لون أو دين أو لسان بالرغم من أن كلٍ من اللسان العربي والدين الإسلامي والحضارة العربية الإسلامية والتاريخ المشترك، أسهم في جعل اللغة العربية هي الأولى الموحدة من دون أن يغمط حق أية مجموعة قومية ولغتها ضمن هذا المكون الذي يمكن أن يطلق عليه الأمة العربية. 

فكل من سكان أو مواطني أو أهالي البلاد التي تحمل اسم البلاد العربية هم، من تجمعهم أمة شاملة واسعة متعددة هي الأمة العربية، بل أن هؤلاء الأخيرين الذين شكلوا الأمة العربية هم من أعطى اسم العربية لتلك البلاد لتصبح البلاد العربية والوطن العربي.

على أن هذه البلاد وهذه الأمة بكل مكوناتها تعرضت لهجمة الاستعمار الحديث البريطاني- الفرنسي أساسا وإلى الإيطالي وغيره على مستوى أدنى. فهذه الهجمة حملت معها خصوصية استراتيجية وهي تجزئتها إلى 22 قطرا- دولة- وطنا.

وهو ما لم يحدث بهذا المستوى لأية أمة أخرى أو لأي بلاد أخرى. والأنكى أن هذه الاستراتيجية التجزيئية- التقسيمية حملت معها خصوصية استعمارية أخرى هي زرع الكيان الصهيوني في فلسطين ليكون سدا بين مغارب بلاد العرب والأمة العربية ومشارقهما. 

وليكون أيضا قوة عسكرية عدوانية متفوقة تمنع مصر من لعب دورها المركزي القيادي باعتبارها القطر الأكبر، والمؤهل لأسباب متعددة للعب هذا الدور.

من هنا لم يكن مصادفة أن تجعل الإمبراطوراية البريطانية استراتيجية التجزئة العربية وإقامة الكيان الصهيوني في فلسطين محور استراتيجيتها الاستعمارية وخصوصيتها للبلاد العربية والأمة العربية ولا سيما بعد تجربتها المريرة مع مصر في مرحلة محمد علي الكبير الذي وحد أجزاء كبيرة من البلاد العربية ووصل إلى الآستانة.

والغريب، بل ليس بالغريب، أن بريطانيا العظمى حين احتلت الهند واستعمرتها فوحدتها، بعد أن كانت مجزأة بين المهرجات وذلك لكي تُسهل حكمها والسيطرة عليها فيما كانت البلاد العربية في أغلبها إن لم يكن كلها بلا حدود، وعمليا، موحدة قررت أن تقسمها إلى أكثر أجزاء ممكنة. مثلا ما فعلته بدول الخليج عدا السعودية التي فرضت وحدة واسعة. 

أو على سبيل المثال، أيضا، ما كان هنالك ما يفرق لبنان وسوريا والأردن وفلسطين والعراق. ومع ذلك بُعثِرت دولا باتفاق بريطاني- فرنسي.

ولو احتج أحدهم بالقول أن النفوذين الفرنسي والبريطاني فرض أن تقسم المنطقة وفقا لهما. ولكن لماذا جزأت فرنسا بين سورية ولبنان وجزأت بريطانيا بين العراق والأردن وفلسطين ومصر. وهكذا بالنسبة إلى المغرب والجزائر وتونس.

لهذا إن من ينكر بأن القول أن البلاد العربية والأمة العربية تعرضا للتآمر الاستعماري فكيف يستطيع أن يفسر سايكس-بيكو ووعد بلفور؟ وكيف يفسر إقامة "الدويلات" أو مشروع الدويلات تحت السيطرة العسكرية البريطانية الفرنسية عليها؟ ثم كيف يفسر إقامة الكيان الصهيوني، وبالقوة العسكرية السافرة، إن لم يكن ذلك تآمرا ومخططات مُعادِية ضد البلاد العربية والأمة العربية ووحدتها؟

هذا التآمر وهذه المخططات شملت بالتجزيء والتقسيم أيضا حتى مكونات قومية داخل البلاد العربية مثل الأمازيغ والأكراد. ولهذا لا تستطيع  بعض الاتجاهات الثقافية أو السياسية الكردية أو الأمازيغية أن يقولوا أن التآمر والمخططات المُعادية للأمة العربية والبلاد العربية خرافة روجت لها الاتجاهات العروبية أو القومية العربية، أو الإسلامية، أو اليسارية، أو حتى الوطنية القطرية التي كافحت ضد الاستعمار وسَعَت لوحدة مجموعة من الأقطار العربية المتجاورة مثلا وحدة بلدان المغرب الكبير، أو وحدة بلاد الشام أو وادي النيل.

فكل هؤلاء ومن مختلف الاتجاهات السياسية الوطنية المناضلة أو العروبية أو الإسلامية أو اليسارية أجمعوا على السعي لوحدة أو اتحاد الأقطار العربية ولو تحت مظلة إطار مثل إطار الجامعة العربية على أمل تحقيق السوق العربية المشتركة والتكامل الاقتصادي، وإقامة المشاريع العربية المشتركة، ناهيك عن الدفاع العربي المشترك والتضامن العربي.

فبدلا من أن تكون النظرة إلى الخلف وحدوية في تقويم التجرية الماضية، وبدلا من النظرة الراهنة إلى الأوضاع العربية الراهنة من أجل التأكيد على العمل من أجل الوحدة، نشأت تيارات تشوه التاريخ المعاصر، وتتنكر حتى لوجود أمة عربية أو بلاد عربية من حيث أتى. 

وقد كمن وراء ذلك أهداف تريد بناء دويلات قومية أو طائفية أو جهوية لتجزيء المجزأ. أي تجزيء دولة التجزئة القطرية. مما يولد وضعا أشد سلبية وسوءا من الأوضاع التي تولدت من التجزئة التي فرضتها بريطانيا وفرنسا بعد الحرب العالمية الأولى وكرستها الإمبريالية الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية.

فبدلا من أن نقرا تجربة التجزئة ودولة التجزئة باعتبارهما مسؤوليته، من بعد الهيمنة الخارجية والكيان الصهيوني واتجاهات التبعية، عن كل ما يمكن أن يُشار إليه من تخلف وكوارث وويلات في الأوضاع العربية عموما، كما خصوصا في كل قطر عربي، بما في ذلك ما راح يتقسم من حركات إسلامية وعروبية.

وبدلا من أن يُقرأ ما تتعرض له عدة دول قطرية خلال الست سنوات الماضية من صراعات دموية داخلية وانقسامات وبروز ظواهر شاذة أو انفصالية تجزيئية تسعى لتدمير الدولة القطرية وتمزيق وحدة مكوناتها.

بدلا من أن يُقرأ هذين الجانبين باتجاه التأكيد على ضرورة التشديد على الوحدة العربية ووحدة الأمة العربية باعتبارهما من جهة شرطا للخروج من التخلف وتحقيق النهوض ومواجهة الكيان الصهيوني وتحرير فلسطين، كما باعتبارهما من جهة ثانية عاملا مهما لإنقاذ الدولة القطرية مما أخذ يتهددها من تجزيء وحروب داخلية.

بل إن وحدة البلاد العربية والأمة العربية أو في الأقل التأكيد على تضامنها وتكاملها يشكل شرطا لإيجاد حل عادل بالنسبة إلى مختلف المكونات القومية أو الدينية أو المذهبية التي تتطلع إلى رفع ما وقع عليها من مظالم أو إلى تأكيد هويتها الخاصة إلى جانب الهوية العربية الإسلامية العامة الجامعة. وليس الذهاب إلى استراتيجية الانفصال التدميرية للجميع.

وبالمناسبة ثمة خطأ يقع فيه بعض المفكرين والدعاة الإسلاميين في تناولهم لموضوع الأمة العربية، وما تعرضت له من تجزئة وإقامة للكيان الصهيوني، فلم يعتبروا أن هنالك مشكلة حقيقية تواجه الأمة العربية وفي مقدمها توحيد العرب من تجزئة مدمرة ليس لهم فحسب وإنما أيضا لدورهم في إنهاض المسلمين وتوحيد الأمة الإسلامية. 

وظنوا أن المناداة بوحدة إسلامية تتناقض مع العمل من أجل الوحدة العربية إذ ربطوا الوحدة العربية بأفكار القومية العلمانية بدلا من اعتبار توحيد العرب هدفا إسلاميا من الدرجة الأولى كما كان توحيد العرب مقدمة لانطلاقة الإسلام نفسه إذ اختير العرب ليحملوا رسالته من دون أن يتمتعوا بأي امتياز قومي على الشعوب والأقوام والأمم التي ستدخل الإسلام وتصبح جزءا من أمته (وفقا للتعريف الإسلامي للأمة).

فالأمة الإسلامية مشكلة من شعوب وقبائل وأمم (قوميات) وأعراق وحضارات متعددة من دون إذابة أو تمزيق أو تجزيء أو إلغاء لأية قومية أو لغة.

فالحركات الإسلامية المعاصرة حافظت على وحدة أوطانها، وسعت إلى تحريرها ونهضتها ولم تتنكر لانتسابها لتلك الأوطان وهوياتها القومية المتميزة. ولم يشعر التركي أو الإيراني أو الباكستاني أو الماليزي أن ثمة مشكلة بين مشروعه الإسلامي وسيادة دولته وحريتها ودورها وحتى الافتخار بالأمة التي تتشكل منها ووصفها بالعظيمة وما شابه.

فهذه الحركات لم تواجه وطنا مجزءا وأمة مجزأة كما حدث مع الواقع العربي بلادا ووطنا وأمة. ومن ثم لم تدرك بالعمق الكافي مشكلة التجزئة العربية إلى دول ووطنيات وهويات قطرية. ولهذا راحت تتشكل في وعيها ومواقفها حساسيات غير مسبوقة إزاء المطالبة بوحدة العرب واستعادة الوحدة العربية والخلاص من حالة التجزئة المقيِدة المعوِقة المدمِرة والباعثة على الشلل والمولدة لانحرافات كثيرة.

من هنا يجب أن يُعاد صوْغ النظرة الإسلامية المعاصرة إزاء وحدة العرب باتجاه الضغط عليهم ومطالبتهم بالوحدة والخروج من حالة التجزئة. لأن أمة عربية موحدة قوية هي قوة هائلة للإسلام ولوحدة الأمة الإسلامية كما للتحرر العالمي كله.

وسوم: العدد 690