جهاد في بلجيكا

"  يفعل الجاهل بنفسه ما لا يفعله العدو بعدوه " ، ما أصدق هذا المثل العربي ، وأصدق منه وأظهر للمراد الحديث النبوي الشريف " إن منكم منفرين " ، يحذّر فيه المسلمين من كلّ قول أو فعل او سلوك يجعل الناس ينفرون من الدين ، لذلك اوصى عليه الصلاة والسلام فقال " بشروا ولا تنفروا " ، لتتجاوز هذه الوصية النبوية الكريمة إطار الالتزام الفردي لتبلغ مستوى الدليل الملزم لكلّ مسلم يحمل رسالة الاسلام ، يحبّبها للناس ولا يلوّث صفاءها باجتهاد خاطئ نابع من قلة بضاعة علمية ، وكان ينبغي أن يهتدي بالعلماء الراسخين ولا يجعل من نفسه مفسرا وفقيها ومفتيا بنظر خاص منه او تلقاه ممن هو مثله في قلة العلم .

إننا نشتكي من الغرب وظلمه للمسلمين وتآمره عليهم وكأننا نبرّأ أنفسنا من أي مسؤولية في الفاجعة التي ألمّت بنا ، فلننظر في أسباب التكالب علينا ، ألا نبصر بجلاء أيادي إسلامية تصنع لنا اعداء وتجلب لنا المتاعب ؟ كيف نغض الطرف عن منهج بأكمله – أي خارج التصرفات الفردية المنعزلة – لا يعرف من علاقة المسلمين بغيرهم سوى الاقصاء وجلب المشاكل لهم مهما كانوا مسالمين ؟ بل مهما قامت الأدلة على تسامحهم مع المسلمين واحتضانهم لهم ؟ لا ينقضي العجب من شباب فرّوا هم أو آباؤهم من قبل من بلادهم " العربية الاسلامية " هربا من الاستبداد والظلم والفقر ووجدوا ملاذا آمنا في الغرب ، وجدوا حسن الضيافة والعمل وحرية العبادة ، فبنوا المساجد وأسسوا الجمعيات وقام بعضهم بالدعوة إلى الله ، ثم خلف من بعدهم خلف آلوا على أنفسهم أن يحاربوا هذا الغرب " الكافر ": في عقر بيته ليحوّلوه قسرا إلى الاسلام ، لماذا ؟ لأن أهله يهود ونصارى وبالتالي هم أعداء يجب مقاتلتهم بكل وسيلة ، ألغى هؤلاء الشباب عقولهم وحشوا أدمغتهم بأفكار كلها تشدد وشذوذ تناسب السطحية التي تميّز معرفتهم وشخصيتهم فكانوا أداة للقتل والتخريب والاعتداء باسم الاسلام ، فكانت النتيجة أن ألبوا الدنيا على الاسلام والمسلمين ، لأنهم نفرّوا بدل أن يبشّروا ، وكان حاديهم الجهل وليس العلم ، ولعل مثال بلجيكا أبلغ من كل مثال :

هذه الدولة الأوربية لم تربطها أي علاقة عداء بالمسلمين ، فهي لم تستعمر أرضهم ولم تعتدِ يوما على بلادهم ، وقد أوى إليها عشرات الألوف من المسلمين المضطهدين في دولهم الاستبدادية ( يقدر عددهم بنحو 700000 نسمة من مجموع السكان الأحد عشر مليونا )  فوجدوا فيها الأمن والعمل والحرية ، وهي دولة اعترفت بالإسلام دينا رسميا سنة 1974 فأعطى ذلك للمسلمين حقوقا قانونية في مجال التربية والتعليم والحياة الاجتماعية ، بحيث أصبح - على سبيل المثال - عيد الفطر وعيد الأضحى عطلة مدفوعة الأجر ( في حين كانت تركيا المسلمة لا تعدّهما عيديْن في ظل الاستبداد العلماني ) ويعترف القانون بالمساجد – التي بلغ عددها أكثر من 300 بالإضافة إلى عشرات المصليات -  كأماكن للعبادة تتكفل الدولة بجزء من نفقاتها ، ويتقاضى أكثر من 250 إمامًا رواتبهم الشهرية من وزارة العدل ، ولأبناء المسلمين الحق في الحصول على دروس في التربية الاسلامية في المدارس العامة ، كما تُدرّس مادة التربية الاسلامية بمعدل ساعتين في الاسبوع في المدارس الحكومية يلقيها أكثر من 800 أستاذ يتقاضون هم أيضا أجرتهم من مصالح الدولة ، هذا ويسمح نظام التعليم الرسمي بفتح المسلمين مدارس

 بنفس نظام التعليم البلجيكي تحت إشراف الدولة التي تتكفل بدفع رواتب المدرّسين بها.

دولة بهذه المواصفات استهدفها " مسلمون " مقيمون بها ويحملون جنسيتها  بأعمال إجرامية ، وجعلوا منها منطلقا لاغتيال الابرياء في أكثر من مكان بدعوى الجهاد في سبيل الله ، وانعكست السلبيات حالا على الاسلام والجالية المسلمة ، ولا يُستبعَد أن تنزع منها تلك الامتيازات خاصة وقد أصبح لليمين المتطرف حجة قوية للنفخ في الاسلاموفوبيا والتضييق على المسلمين أمنيا وسياسيا واجتماعيا.

ولنا ان نتصوّر ما الذي كان يحدث لو أن أولئك المسلمين اعترفوا لأصحاب البلد بالجميل وأحسنوا جوارهم وتخلقوا بأخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم وسلكوا المسالك الحضارية وكثفوا الدعوة إلى الله ، إذًا لأعطوا نموذجا يستهوي غير المسلمين ولكانوا  قدوات حسنة تُغني عن الخطب ، ولازْداد  البلجيكيون إقبالا على دين الله تعالى.

إذا غضب منا الأوربيون وتوجسوا منا خيفة فينبغي أن نتحمّل المسؤولية لأننا صرنا نشكل في أعينهم خطرا داهما ولأن أولئك الذين يستهدفونهم في ديارهم مسلمون ويتكلمون باسمنا شئنا ذلك ام أبينا ، فهل هؤلاء " المسلمون " ضحية ظروف مؤسفة أم نتاج ثقافة مغشوشة خارجة عن إشراف العلماء الربانيين والدعاة الراسخين ومدارس الوسطية الاسلامية أم هم ظاهرة غريبة داخلة في إطار مواجهة المدّ الاسلامي ؟ علينا ان نفعل كل شئ لفهم ما يجري وتصحيح المسار بعيدا عن ذهنية التآمر وسياسة تزكية الذات وتبرئة المجرمين وإدانة الضحايا.

وسوم: العدد 695