لي مع القمر قصة

هنادة فيصل الرفاعي

الكل يتغزل بالقمر ويحبه، يكتب عنه الشعراء والعشاق، لكن سؤالاً يدور في خاطري دوماً: هل شعر أحدهم به كما شعرت أنا؟!

قضيت مع عدد من المعتقلات 7 أشهر في ظلام قبو المخابرات الجوية بحرستا، لا نعرف الليل من النهار ولا نرى شمساً، ولا قمراً.

الكل بات يعرف ما معنى الاعتقال، وكيف كان الضرب والتحقيق، وكيف ينام المعتقلون، وأصوات صراخ التعذيب في آذانهم، الكل يعرف معاناة القمل والقذارة والانقطاع عن الحياة والعالم الخارجي تماماً.

المهم جاء الفرج ذات صباح، وكنت قد أخبرت الصبايا معي في الزنزانة: «صبايا أنا سأخرج للشارع، كيف؟ لا أعرف! هو إحساس بلا مقدمات، بعد أن انتابتني هواجس كثيرة في أوقات سابقة أن نهايتي ستكون في هذا المكان، وأنني لن أعود للحياة مرة أخرى»، يومها كنت أحدث المعتقلات معي، وأنا أنظر من نافذة الزنزانة الحديدية التي تطل على مدخل القفص الذي يحوي زنزانتنا، لأن القبو يقسم إلى أقفاص، وكل قفص أربع زنزانات، اثنتان على اليمين واثنتان على اليسار. ولكثرة ما كنت أحاول المحافظة قدر المستطاع على النظافة، كي لا نخرج إن كتب لنا الخروج بأمراض ننقلها للأهل، انتقدت يوماً بذور الزيتون المرمي في المدخل، وقلت: من رمى البذر في الشارع؟ ثم شعرت أنني استخدمت كلمة «الشارع»، يا الله! الشارع؟ هنا أخبرت البنات أني سأخرج، وأرى الشارع وبالفعل هي ساعة، وتم استدعائي للذهاب بي للمخابرات الجوية في المزة، وطبعاً مقيدة اليدين و«مطمشة» العينين، ومنه إلى القضاء العسكري الذي طالما رغبت في زيارته، لأفتخر بأخي الحبيب قاضياً عسكرياً هناك، ها أنا أزوره، ولكن بصفة سجينة، مقيدة اليدين رثة الثياب، وأخي لم يكن في استقبالي، كان معتقلاً في نفس فترة اعتقالي، فبعد أسبوع من اعتقالي اعتقل وقضى سنتين وشهرين في سجن صيدنايا، ثم استشهد تحت التعذيب.

تم استجوابي هناك وكان لي ملف ضخم يحوي كل شيء، من التعامل مع الموساد وأعضاء في السفارة الأمريكية ونقل المخدرات في سيارتي، وصولاً إلى كتابة المقالات التي تطالب بإسقاط النظام، بالإضافة الى نقل ضباط منشقين والتعامل مع مشاف ميدانية. تمت تبرئتي هناك من التهم التي تخص المحكمة العسكرية، وأعلموني أن مشواري لم ينتهِ وسأنقل إلى مخفر برزة لقضاء يومي السبت والجمعة، فقد كان يوم خميس، وبعدها أحول إلى المحكمة المدنية في الزبلطاني.

نقلت بسيارة المساجين إلى المخفر الذي وجدته بمثابة فندق خمس نجوم مقارنة بزنزانتنا، فهو واسع وكنت وحدي، وكان بداخله تواليت ومغسلة، وهذا ما كان يعتبر حلماً حينها. مضت الساعات وأنا وحدي، كنت سعيدة كون غرفة الحجز تحت الأرض، كانت هناك نافذة قرب السقف تطل على مدخل المخفر، بدأت أسمع صوت الآذان من جامع قريب، كان الصوت أكثر من رائع، وشعرت بقلبي يخفق عند سماعه، فقد مرت سبعة أشهر لم أسمع فيها صوت الآذان، فقد مر رمضان، كنا نصوم ونفطر حسب التوقع. تعاقبت الأفكار في ذهني دون أن أنتبه لليل الذي حل، كنت ألتفت إلى النافذة وإذا بالقمر يزين السماء، يا الله كم كان رائعاً.. حلقت مع نوره للسماء وقد غمرتني سعادة كبيرة وكأنني أراه للمرة الأولى في حياتي، فقد غاب كثيراً وطال غيابه، ولذلك كلما رأيته الآن تذكرت ذلك الإحساس وتلك اللحظات، ولا أظن أن شاعراً أو عاشقاً رأى جماله كما رأيته أنا..

في النهاية برأتني المحكمة المدنية بعد يومين قضيتهما في المخفر، وعدت للحياة. طبعاً التحويل للمحكمة والبراءة هي عملية شكلية لمن استطاع المهتمون لأمره الوصول إلى رجل مهم في السلطة له كلمته للتوسط لهذا المعتقل أو ذاك.

وسوم: العدد 696