إسرائيل و"القنبلة الديمغرافية" الفلسطينية

صاغ الإسرائيليون مصطلح " القنبلة الديمغرافية " أو السكانية ، توصيفا لهلعهم من التزايد المتصاعد لعدد الفلسطينيين في الضفة وغزة وداخل إسرائيل نفسها . وشهد هذا الهلع مراحل شدة وفتور تناسقت مع الهجرة إلى إسرائيل والهجرة منها . واستعادة سريعة لإحدى مراحل هذا الهلع في ثمانينات القرن الماضي تبين بأي عين ، بل بأي قلب ينظر الإسرائيليون إلى نمو الفلسطينيين ، أهل البلاد الأصليين ، السكاني . يومئذ بلغ الهلع الإسرائيلي من هذا النمو حد السعار ، وازدحمت الصحف الإسرائيلية بمقالات رأي ودراسات تبين خطره ، وإمكانية فتكه بإسرائيل مستقبلا . وهبط عليهم الإنقاذ بانفتاح باب الهجرة من الاتحاد السوفيتي التي تتابعت زيادتها مع تتابع اقتراب الاتحاد من التفكك الذي تم فعلا في مطلع تسعينات القرن الماضي . وكسبت إسرائيل من تلك الهجرة مليون مستوطن انضافوا إلى سكانها ، والمجمع عليه أن نصفهم لم يكن يهوديا ؛ فحاجة إسرائيل الضاغطة لمواجهة ما تسميه القنبلة السكانية الفلسطينية دفعتها إلى التساهل والتغافل عن معيار يهودية المهاجرين الذي اشترطته سابقا في من يهاجر إليها . وأحست إسرائيل بطمأنينة ظاهرة بعد تلك الموجة الكبرى من المهاجرين ، ولكن الهلع القديم الدفين ما لبث أن عاودها من جديد ، وتطايرت الاقتراحات لمواجهته قديمة وجديدة ، ولم تثبت إمكانية تطبيق أي منها ، وأحدها تعايش الفلسطينيين والإسرائيليين في دولة واحدة مثل بعض دول العالم التي تتعدد أعراقها . وبداهة أننا لا نفوت هنا   نُهزة السخرية العميقة من قادة المشروع الصهيوني وأبنائهم وأحفادهم في بلادنا  الذين عللوا اغتصابها بأنها خالية من السكان مثلما جسدت هذا التعليل العبارة المشهورة " أرض بلا شعب لشعب بلا أرض " ؛ فهلع الإسرائيليين الذي لا يزول من القنبلة السكانية الفلسطينية ، ونستعمل مصطلحهم للضرورة رغم ما فيه من وحشية وكراهية ونزوع إجرامي ؛ يبين لهم كم كانوا كاذبين مزورين في تلك العبارة ، وكم كانوا مغتصبين ومجرمين ومعتدين على أرض ومجتمع وتاريخ شعب آخر . الحقائق لا تموت وفق الأهواء ، حتى لو كانت أهواء الأقوياء . وقد بالغ الإسرائيليون في ثقتهم بقوتهم في مواجهة الفلسطينيين والعرب مستندين إلى دعم أميركي وغربي مطلق ، ودائما قالوا : " ما لا يتحقق بالقوة  نحققه بالمزيد من القوة " ، وتمسكوا في خطوات تنفيذ مشروعهم بعقيدة " السياسة هي فن المستحيل " خارجين عن عقيدة بقية البشر الذين يجمعون على أن السياسة هي فن الممكن  تهيئة وتمهيدا لقبول حلول وسط تحفظ لكل طرف بعض حقه وكرامته ، على  أن  كل ما فعلوه لم يخلصهم من عواقب كذبتهم التاريخية المارقة عن خلو فلسطين من سكان أصليين اسمهم الفلسطينيون ورثوها عن أسلافهم الكنعانيين المتحضرين ، وعمقوا جذورهم فيها بفتح أسلافهم العرب المسلمين لها تاليا . ويقول أحدث تقرير صادر عن " صندوق الأمم المتحدة للسكان " إن سكان الضفة وغزة سيكونون في 2050 حوالي 10 ملايين ، وإذا أضيف إليهم زيادة عدد فلسطينيي الداخل فسيكون العدد 13 وربما 14 مليونا . كيف ستواجه إسرائيل هذه الملايين ؟! ناهيك ولو نظريا ، من عدد مماثل تقريبا لفلسطينيي الشتات !

هي اتبعت حتى الآن في هذه المواجهة المصيرية الأساليب التالية :

أولا : محاصرة النمو السكاني الفلسطيني بتصعيب وتعقيد ترخيص بناء المنازل في الداخل وفي القدس ، والمبادرة لهدم كل منزل بني دون ترخيص مهما كان قدمه ولو كان قبل قيامها ، وهدمت قرية العراقيب في النقب عشرات المرات !

ثانيا : تحظر البناء على الفلسطينيين في المنطقة المصنفة (ج) في اتفاق أوسلو والتي تشكل 60 % من مساحة الضفة ، وتستعمل تلك الأراضي في التوسع الاستيطاني .

ثالثا : تضعف الاقتصاد الفلسطيني الذي صيرته اتفاقية باريس بينها وبين السلطة الفلسطينية رهينة للاقتصاد الإسرائيلي ، وقاد ضعفه إلى تخفيض هائل في مجالات العمل ، وارتفعت تبعا لذلك نسبة البطالة في الضفة ، وغزة التي وصلت فيها إلى 60% من القوة القادرة على العمل .

رابعا : تخصيص غزة بكارثة حصار تجاوزت 10 سنوات ، ومن مظاهر هذا الحصار منع دخول 400 سلعة إليها بحجة إمكان دخولها في منتجات وأدوات قتالية .

وتستهدف الأساليب  السابقة جعل حياة الفلسطينيين جحيما ومصاعب وتعقيدات واختناقات يتمنى الجميع الفرار منها ، ودفع الشبان إلى الابتعاد الإجباري عن الزواج ، وعن التعليم الذي لا يأتي في ظل البطالة المستفحلة بأي عائد بعد التخرج في الجامعة .

وإلى جانب تلك الأساليب تضع في مخططاتها الاستراتيجية :

أولا : التطلع إلى ظهور فرصة ملائمة تدفع فيها بأكبر عدد تستطيع دفعه من سكان الضفة نحو الأردن ، وفي هذا التخطيط كذلك السعي لتوسعة قطاع غزة بالامتداد إلى شمال سيناء ليكون هذا الشمال نقطة امتصاص لسكان قطاع غزة على أمل أن تظهر فرصة مستقبلية ، قد تكون حربا على القطاع ، ليصبح نقطة تهجير وتفريغ لهؤلاء السكان .

ثانيا : العمل على تذويب الوجود الفلسطيني في الدول العربية المجاورة ، وتهجيره إلى بلدان بعيدة خارج المنطقة ، وكان من بين تفسيرات الحرب العدوانية الكونية على سوريا  أنها تستهدف الوجود الفلسطيني فيها ، ودور إسرائيل في هذه الحرب يبرهن صحة هذا التفسير .

***

في التقييم الكلي ، في لحظة غفلة وطمع وخداع للذات ومؤثرات أخرى كثيرة ، ابتلع الثعلب الإسرائيلي المنجل الفلسطيني ، وهو يتلوى الآن لإخراجه والإفلات من خطر بقائه في معدته ، ويدفعه هلعه من خطره إلى اجتراح وسائل استثنائية لإخراجه . ويستطيع الفلسطينيون إذا توحدوا وشدوا عزمهم ، وقدموا قضيتهم الوطنية مخلصين على فصائليتهم وفردياتهم أن يجعلوا المنجل أداة خلاص نهائي من الثعلب الإسرائيلي الذي سطا على حظيرتهم ، على حياتهم .

وسوم: العدد 701