تهمة الإسلام السياسي

الشيخ العلامة يوسف القرضاوي

من التعبيرات التي يُشنِّع بها العلمانيون والحداثيون تعبير (الإسلام السياسي)، وهي عبارة دخيلة على مجتمعنا الإسلامي بلا ريب، ويعنون به الإسلام الذي يُعنى بشئون الأمة الإسلامية وعلاقاتها في الداخل والخارج، والعمل على تحريرها من كل سلطان أجنبي يتحكَّم في رقابها، ويُوجِّه أمورها المادية والأدبية كما يريد، ثم العمل كذلك على تحريرها من رواسب الاستعمار الغربي الثقافية والاجتماعية والتشريعية؛ لتعود من جديد إلى تحكيم شرع الله تعالى في مختلف جوانب حياتها.

وهم يطلقون هذه الكلمة (الإسلام السياسي) للتنفير من مضمونها ومن الدعاة الصادقين الذين يدعون إلى الإسلام الشامل؛ باعتباره عقيدة وشريعة، وعبادة ومعاملة، ودعوة ودولة. وقد كنت رددت على هذه الدعوة، وفنَّدت هذه التسمية في فتوى مطوَّلة، ظهرت في الجزء الثاني من كتابي: (فتاوى معاصرة)، ويحسن بي أن أقتبس فقرات منها فيما يلي:

هذه التسمية مردودة وخاطئة:

وذلك لأنها تطبيق لخُطة وضعها خصوم الإسلام، تقوم على تجزئة الإسلام وتفتيته بحسب تقسيمات مختلفة، فليس هو إسلامًا واحدًا كما أنزله الله، وكما ندين به نحن المسلمين؛ بل هو (إسلامات) متعدِّدة مختلفة كما يحب هؤلاء، فهو ينقسم أحيانًا بحسب الأقاليم: فهناك الإسلام الآسيوي، والإسلام الإفريقي.

وأحيانًا بحسب العصور: فهناك الإسلام النبوي، والإسلام الراشدي، والإسلام الأُموي، والإسلام العباسي، والإسلام العثماني، والإسلام الحديث.

وأحيانًا بحسب الأجناس: فهناك الإسلام العربي، والإسلام الهندي، والإسلام التركي، والإسلام الماليزي... إلخ.

وأحيانًا بحسب المذهب: فهناك الإسلام السُّني، والإسلام الشيعي، وقد يقسمون السُّني إلى أقسام، والشيعي إلى أقسام أيضًا.

وزادوا على ذلك تقسيمات جديدة: فهناك الإسلام الثوري، والإسلام الرجعي أو الراديكالي، والكلاسيكي، والإسلام اليميني، والإسلام اليساري، والإسلام المُتزمِّت، والإسلام المُنفتح، وأخيرًا الإسلام السياسي، والإسلام الروحي، والإسلام الزمني، والإسلام اللاهوتي! ولا ندري ماذا يخترعون لنا من تقسيمات يُخبِّئها ضمير الغد!

تقسيمات مرفوضة للإسلام

والحق أن هذه التقسيمات كلَّها مرفوضة في نظر المسلم، فليس هناك إلا إسلام واحد لا شريك له، ولا اعتراف بغيره، هو (الإسلام الأول)، إسلام القرآن والسنة. الإسلام كما فهمه أفضل أجيال الأمة وخير قرونها، من الصحابة ومن تبعهم بإحسان، ممَّن أثنى الله عليهم ورسوله. فهذا هو الإسلام الصحيح، قبل أن تشُوبه الشوائب، وتلوِّث صفاءه تُرَّهَات المِلَل وتطرفات النِّحَل، وشطحات الفلسفات، وابتداعات الفِرَق، وأهواء المُجادلين، وانتحالات المُبطلين، وتعقيدات المُتنطِّعين، وتعسُّفات المُتأوِّلين الجاهلين.

الإسلام لا يكون إلا سياسيًّا

وهنا يجب أن أُعلنها صريحة: إن الإسلام الحق -كما شرعه الله- لا يمكن أن يكون إلا سياسيًّا، وإذا جرَّدت الإسلام من السياسة فقد جعلته دينًا آخر يمكن أن يكون بوذية أو نصرانية أو غير ذلك، أما أن يكون هو الإسلام فلا، وذلك لسببين رئيسين:

السبب الأول: الإسلام يوجّه الحياة كلها:

إن للإسلام موقفًا واضحًا وحكمًا صريحًا في كثير من الأمور التي تُعتبر من صُلب السياسة. فالإسلام ليس عقيدة لاهوتية، أو شعائر تعبُّدية فحسب، أعني أنه ليس مجرد علاقة بين الإنسان وربه، ولا صلة له بتنظيم الحياة، وتوجيه المجتمع والدولة.

كلا، إنه عقيدة، وعبادة، وخلق، وشريعة متكاملة، وبعبارة أخرى: هو منهاج كامل للحياة بما وضع من مبادئ، وما أصَّل من قواعد، وما سنَّ من تشريعات، وما بيَّن من توجيهات تتَّصل بحياة الفرد، وشئون الأسرة، وأوضاع المجتمع، وأُسس الدولة، وعلاقات العالم. ومن قرأ القرآن الكريم والسنة المطهرة وكتب الفقه الإسلامي بمختلف مذاهبه وجد هذا واضحًا كل الوضوح.

حتى إن قسم العبادات من الفقه ليس بعيدًا عن السياسة، فالمسلمون مُجْمِعُون على أن ترك الصلاة ومنع الزكاة والمجاهرة بالفطر في رمضان وإهمال فريضة الحج مما يوجب العقوبة والتعزير، وقد يقتضي القتال إذا تظاهرت عليه فئة ذات شوكة، كما فعل أبو بكر رضي الله عنه مع مانعي الزكاة. إن فكرة التوحيد في الإسلام تقوم على أن المسلم لا يبغي غير الله ربًّا، ولا يتَّخذ غير الله وليًّا، ولا يبتغي غير الله حَكَمًا، كما بيَّنت ذلك سورة التوحيد الكبرى المعروفة باسم: (سورة الأنعام) .

وعقيدة التوحيد في حقيقتها ما هي إلا ثورة لتحقيق الحرية والمساواة والأخوَّة للبشر؛ حتى لا يتخذَّ بعض الناس بعضًا أربابًا من دون الله، وتُبطل عبودية الإنسان للإنسان؛ ولذا كان الرسول الكريم صلوات الله عليه يختم رسائله إلى ملوك أهل الكتاب بهذه الآية الكريمة من سورة آل عمران: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (آل عمران:64) .

وهذا سر وقوف المشركين وكبراء مكة في وجه الدعوة الإسلامية من أول يوم، بمجرد رفع راية (لا إله إلا الله)، فقد كانوا يُدركون ماذا وراءها، وماذا تحمل من معاني التغيير للحياة الاجتماعية والسياسية، بجانب التغيير الديني المعلوم بلا ريب.

السبب الثاني: شخصية المسلم شخصية سياسية:

إن شخصية المسلم -كما كوَّنها الإسلام وصنعتها عقيدته وشريعته وعبادته وتربيته- لا يمكن إلا أن تكون سياسية، إلا إذا ساء فَهمها للإسلام، أو ساء تطبيقها له؛ فالإسلام يضع في عنق كل مسلم فريضة اسمها الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وقد يُعبّر عنها بعنوان: النصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم، وهي التي صحَّ في الحديث اعتبارها الدِّين كله(1)، وقد يُعبّر عنها بالتواصي بالحق، والتواصي بالصبر، وهما من الشروط الأساسية للنجاة من خُسر الدنيا والآخرة، كما وضَّحت ذلك (سورة العصر) .

ويُحرِّض الرسول صلى الله عليه وسلم المسلم على مقاومة الفساد في الداخل، ويعتبره أفضل من مقاومة الغزو من الخارج، فيقول حين سئل عن أفضل الجهاد: "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر"(2)؛ وذلك لأن فساد الداخل هو الذي يمهِّد السبيل لعدوان الخارج.

وتعتبر الشهادة هنا من أعلى أنواع الشهادة في سبيل الله: "سيد الشهداء حمزة، ثم رجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه، فقتله"(3) ، ويغرس في نفس المسلم رفض الظلم، والتمرُّد على الظالمين حتى إنه ليقول في دعاء القنوت المروي عن ابن مسعود، وهو المعمول به في المذهب الحنفي وغيره: "نشكرك الله ولا نكفرك، ونخلع ونترك من يَفجرُك"(4) .

ويُرغِّب في القتال لإنقاذ المُضطهدين والمُستضعفين في الأرض بأبلغ عبارات الحثِّ والتحريض، فيقول: {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا} (النساء:75) .

ويصبُّ جام غضبه وشديد إنكاره على الذين يقبلون الضَّيم، ويرضون بالإقامة في أرض يُهانون فيها ويُظلَمون، ولديهم القدرة على الهجرة منها والفرار إلى أرض سواها، فيقول: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا * فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} (النساء:97-99) .

حتى هؤلاء العجزة والضعفاء قال القرآن في شأنهم: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ}، فجعل ذلك في مَظِنَّة الرجاء من الله تعالى؛ زجرًا عن الرضا بالذل والظلم ما وجد المسلم إلى رفضه سبيلًا. وحديث القرآن المُتكرِّر عن المُتجبرين في الأرض -من أمثال: فرعون وهامان وقارون وأعوانهم وجنودهم- حديث يملأ قلب المسلم بالنقمة عليهم، والإنكار لسيرتهم، والبغض لطغيانهم، والانتصار -فكريًّا وشعوريًّا- لضحاياهم من المظلومين والمستضعفين.

وحديث القرآن والسنة عن السكوت على المنكر والوقوف موقف السلب من مقترفيه -حكامًا أو محكومين- حديث يُزلزل كل من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان. يقول القرآن: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون} (المائدة:78،79) . ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكرًا فليُغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان"(5) . ومن الخطأ الظن بأن المنكر ينحصر في الزنا، وشرب الخمر، وما في معناهما.

إن الاستهانة بكرامة الشعب منكر أي منكر، وتزوير الانتخابات منكر أي منكر، والقعود عن الإدلاء بالشهادة في الانتخابات منكر أي منكر؛ لأنه كتمان للشهادة، وتوسيد الأمر إلى غير أهله منكر أي منكر، وسرقة المال العام منكر أي منكر، واحتكار السلع التي يحتاج إليها الناس لصالح فرد أو فئة منكر أي منكر، واعتقال الناس بغير جريمة حكم بها القضاء العادل منكر أي منكر، وتعذيب الناس داخل السجون والمعتقلات منكر أي منكر، ودفع الرشوة وقبولها والتوسط فيها منكر أي منكر، وتملُّق الحكام بالباطل وإحراق البخور بين أيديهم منكر أي منكر، وموالاة أعداء الله وأعداء الأمة من دون المؤمنين منكر أي منكر.

وهكذا نجد دائرة المنكرات تتَّسع وتتَّسع لتشمل كثيرًا مما يعدُّه الناس في صُلب السياسة. فهل يَسَع المسلم الشحيح بدينه الحريص على مرضاة ربه أن يقف صامتًا، أو ينسحب من الميدان هاربًا، أمام هذه المنكرات وغيرها؛ خوفًا أو طمعًا أو إيثارًا للسلامة؟.

إن مثل هذه الروح إن شاعت في الأمة فقد انتهت رسالتها، وحُكِمَ عليها بالفناء؛ لأنها غَدَت أمة أخرى غير الأمة التي وصفها الله بقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (آل عمران:110) .

ولا عجب أن نسمع هذا النذير النبوي للأمة في هذا الموقف؛ إذ يقول: "إذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم: يا ظالم فقد تُوُدِّعَ منهم"(6)، أي فقدوا أهلية الحياة. إن المسلم مطالب -بمقتضى إيمانه- ألا يقف موقف المتفرج من المنكر أيًّا كان نوعه سياسيًّا كان، أو اقتصاديًّا، أو اجتماعيًّا، أو ثقافيًّا، بل عليه أن يقاومه ويعمل على تغييره باليد إن استطاع، وإلا فباللسان والبيان، فإن عجز عن التغيير باللسان انتقل إلى آخر المراحل وأدناها؛ وهي التغيير بالقلب، وهي التي جعلها الحديث: "أضعف الإيمان".

وإنما سماه الرسول صلى الله عليه وسلم تغييرًا بالقلب؛ لأنه تعبئة نفسية وشعورية ضد المنكر وأهله وحماته، وهذه التعبئة ليست أمرًا سلبيًّا محضًا كما يتوهم، ولو كانت كذلك ما سماها الحديث (تغييرًا). وهذه التعبئة المستمرة للأنفس والمشاعر والضمائر لا بد لها أن تتنفَّس يومًا ما في عمل إيجابي، قد يكون ثورة عارمة، أو انفجارًا لا يُبقى ولا يذر، فإن توالي الضغط لا بد أن يُولِّد الانفجار، سُنة الله في خلقه.

وإذا كان هذا الحديث سمى هذا الموقف (تغييرًا بالقلب)، فإن حديثًا نبويًّا آخر سماه (جهاد القلب)، وهو آخر درجات الجهاد، كما أنه آخر درجات الإيمان وأضعفها، فقد روى مسلم عن ابن مسعود مرفوعًا: "ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم إنها تَخلُف من بعدهم خُلُوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمَن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومَن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومَن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، ليس ذلك من الإيمان حبة خردل"(7) .

وقد يعجز الفرد وحده عن مقاومة المنكر، وخصوصًا إذا انتشر شراره، واشتد أواره، وقَوِي فاعلوه، أو كان المنكر من قِبَل الأمراء الذين يفترض فيهم أن يكونوا هم أول المحاربين له، لا أصحابه وحرَّاسه، وهنا يكون الأمر كما قال المثل: "حاميها حراميها"، أو كما قال الشاعر: وراعي الشاة يحمي الذئب عنهافكيف إذا الرعاة لها ذئاب؟! وهنا يكون التعاون على تغيير المنكر واجبًا لا ريب فيه؛ لأنه تعاون على البر والتقوى، ويكون العمل الجماعي -عن طريق الجمعيات أو الأحزاب أو غيرها من القنوات المتاحة- فريضة يوجبها الدِّين، كما أنه ضرورة يُحتِّمها الواقع.

بين الحق والواجب

إن ما يُعتبر في الفلسفات والأنظمة المعاصرة (حقًّا) للإنسان في التعبير والنقد والمعارضة، يَرقى به الإسلام ليجعله فريضة مقدسة يبوء بالإثم ويستحق عقاب الله إذا فرَّط فيها. وفرق كبير بين (الحق) الذي يدخل في دائرة (الإباحة) أو (التخيير) الذي يكون الإنسان في حِلّ من تركه إن شاء، وبين (الواجب) أو (الفرض) الذي لا خيار للمكلف في تركه أو إغفاله بغير عذر يقبله الشرع. وممَّا يجعل المسلم سياسيًّا دائمًا أنه مطالب بمقتضى إيمانه ألا يعيش لنفسه وحدها، دون اهتمام بمشكلات الآخرين وهمومهم، وخصوصًا المؤمنين منهم، بحكم أُخوة الإيمان: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات:10) .

وفي الحديث: "مَن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم، ومَن لم يصبح ناصحًا لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم فليس منهم"(8)، "وأيما أهل عَرْصَة بات فيهم امرؤ جائع فقد برئت منهم ذمة الله وذمة رسوله"(9) . والقرآن كما يفرض على المسلم أن يُطعم المسكين، يفرض عليه أن يحضَّ الآخرين على إطعامه... ولا يكون كأهل الجاهلية الذين ذمَّهم القرآن بقوله: {كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} (الفجر:17،18)، ويجعل القرآن التفريط في هذا الأمر من دلائل التكذيب بالدِّين: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} (الماعون:1-3) .

وهذا في المجتمعات الرأسمالية والإقطاعية المضيعة لحقوق المساكين والضعفاء تحريضٌ على الثورة، وحضٌّ على الوقوف مع الفقراء في مواجهة الأغنياء. وكما أن المسلم مطالَب بمقاومة الظلم الاجتماعي، فهو مطالَب أيضًا بمحاربة الظلم السياسي، وكل ظلم أيًّا كان اسمه ونوعه، والسكوت عن الظلم والتهاون فيه يوجب العذاب على الأمة كلها؛ الظالم والساكت عنه، كما قال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} (الأنفال:25) .

وقد ذمَّ القرآن الأقوام الذين أطاعوا الجبابرة الطغاة وساروا في ركابهم كقوله عن قوم نوح: {وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا} (نوح:21) . بل جعل القرآن مُجرَّد الركون والميل النفسي إلى الظالمين موجبًا لعذاب الله: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} (هود:113) . ويُحمِّل الإسلام كل مسلم مسئولية سياسية: أن يعيش في دولة يقودها إمام مسلم يحكم بكتاب الله، ويبايعه الناس على ذلك، وإلا التحق بأهل الجاهلية، ففي الحديث الصحيح: "من مات وليس في عنقه بيعة لإمام مات ميتة جاهلية"(10) .

الصلاة والسياسة

وكما ذكرنا من قبل أن المسلم قد يكون في قلب الصلاة، ومع هذا يخوض في بحر السياسة حين يتلو من كتاب الله الكريم آيات تتعلق بأمور تدخل في صُلب ما يسميه الناس (سياسة). فمن يقرأ في سورة المائدة الآيات التي تأمر بالحُكم بما أنزل الله، وتدمغ من لم يحكم بما أنزل الله سبحانه بالكفر والظلم والفسوق: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47]، يكون قد دخل في السياسة، وربما اعتُبر من المعارضة المُتطرفة؛ لأنه بتلاوة هذه الآيات يُوجه الاتِّهام إلى النظام الحاكم، ويُحرض عليه؛ لأنه موصوف بالكفر أو الظلم أو الفسق أو بها كلها.

ومثل ذلك من يقرأ الآيات التي تُحذر من موالاة غير المؤمنين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} (النساء:144). ومن قَنَتَ (قنوت النوازل) المُقرَّر في الفقه، وهو الدعاء الذي يُدعى به في الصلوات بعد الرفع من الركعة الأخيرة، وخصوصًا في الصلاة الجهرية، وهو مشروع عندما تنزل بالمسلمين نازلة؛ كغزو عدو، أو وقوع زلزال، أو فيضان، أو مجاعة عامة، أو نحو ذلك، كما نفعل كثيرا عندما يقع عدوان صهيوني كبير على فلسطين، أو على لبنان، وكما حدث كثيرا في حرب السوفييت لأفغانستان، وحرب الصرب للبوسنة والهرسك وغيرها.

وهكذا كنا ندخل في مُعترك السياسة، ونخوض غِماره، ونحن في محراب الصلاة متبتلون خاشعون، فهذه هي طبيعة الإسلام، لا ينعزل فيه دين عن دنيا، ولا تنفصل فيه دنيا عن دين، ولا يعرف قرآنه ولا سنته ولا تاريخه دينًا بلا دولة، ولا دولة بلا دين.

الساسة يُدخلون الدِّين في السياسة متى أرادوا!

الذين زعموا أن الدِّين لا علاقة له بالسياسة من قبلُ، والذين اخترعوا أكذوبة (لا دين في السياسة، ولا سياسة في الدِّين) من بعدُ، هم أول من كذَّبوها بأقوالهم وأفعالهم. فطالما لجأ هؤلاء إلى الدِّين ليتخذوا منه أداة في خدمة سياستهم، والتنكيل بخصومهم، وطالما استخدموا بعض الضعفاء والمهازيل من المنسوبين إلى علم الدِّين، ليستصدروا منهم فتاوى ضدَّ من يُعارض سياستهم الباطلة دينا، والعاطلة دنيا.

ما زلت أذكر كيف صدرت الفتاوى ونحن في معتقل الطور سنة 1948- 1949 بأننا نحن الدعاة إلى تحكيم القرآن وتطبيق الإسلام نحارب الله ورسوله، ونسعى في الأرض فسادًا، فحقنا أن نُقتّل أو نُصلّب، أو تُقطَّع أيدينا وأرجلنا من خِلاف، أو ننفى من الأرض!. وتكرَّر هذا في أكثر من عهد، تتكرَّر المسرحية وإن تغيرت الوجوه!.

وما زلت أذكر -ويذكر الناس- كيف طُلِب من أهل الفتوى أن يصدروا فتواهم بمشروعية الصلح مع إسرائيل؛ تأييدًا لسياستهم الانهزامية، بعد أن أُصدرت الفتوى من قبلُ بتحريم الصلح معها، واعتبار ذلك خيانة لله ولرسوله وللمؤمنين! وما زال الحكام يلجئون إلى علماء الدِّين؛ ليفرضوا عليهم فتاوى تخدم أغراضهم السياسية، وآخرها محاولات تحليل فوائد البنوك وشهادات الاستثمار، فيستجيب لهم كل رخو العود ممن قلَّ فقههم، أو قلَّ دينهم، ويأبى عليهم العلماء الراسخون: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} (الأحزاب:39) .

وسوم: العدد 701