التاريخ الإسلامي في زمن الاهتراء الثقافي (1)

أحسن الأخ الكاتب عندما بدأ خاطرته واصفًا إياها بأنها "مهترئة"، فمع أنني أوافقه بأن إعادة كتابة التاريخ الإسلامي ليست الوصفة العجيبة أو الوحيدة للنهضة والعودة للريادة، إلا أنه تحامل في طياتها على التاريخ الإسلامي بشكلٍ عام، وعلى جهود ثلة مباركة من العلماء والمؤرخين والمفكرين، الذين تصيدوا الأخطاء ونذروا حياتهم ليعيدوا تقديم التاريخ بعينٍ ناقدة وروحٍ إسلاميّة متوثبة، وبنى كلامه على تجربة ضئيلة وغير نموذجية في الاطلاع على الكتابة التاريخيّة، وفي هذا الصدد بعض النقاط التي تناقش وترد على ما كتب الأخ الكريم في مقاله الآنف.

 أزعم بأني قرأت واطلعت على كتابات من ذكرهم الأخ في مقاله، بل لقد اطلعت وعاينت كل نتاجات المؤرخ الدكتور علي الصلابي وقضيت العشرات من الساعات في موقع قصة الإسلام ومقالات الدكتور راغب السرجاني، بل وقرأت لغيرهم الكثير... ولكن السؤال الملح كيف استخلص "الكاتب" بأن هؤلاء طرحوا بأن إظهار التاريخ "الناصع" هو وصفة سحريّة للنهضة، تصلح لإعادة المسلمين!!. فإن النهضة ومشروع إعادة الأمة لركب الريادة من جديد، هي نتاج عوامل وجهود إصلاحيّة وعلميّة وفكريّة وسياسيّة متتابعة... وفي هذا الصدد نجد مفكرين كبار تناولوا هذه الإشكالية بالعرض والتمحيص وطرح الحلول، من أمثال الأمير شكيب أرسلان والمفكر مالك بن نبي والعلامة أبو الحسن الندوي رحمهم الله وجاسم سلطان والكثير غيرهم... ونستطيع القول بأن إعادة كتابة التاريخ الإسلامي جزءٌ بالغ الأهمية في هذا الصدد، وفي سياق مشروع النهضة المتكامل. حيث تشكل هذه الكتابة وما يعتريها من بحث وتمحيص ومقابلة روايات ودحض شبهات وأفكار دخيلة، تصب جميعها في إعادة تكوين الفهم لتاريخنا، وليعود المسلم مرتبطًا بتاريخه وماضيه بعلاقةً قوية، ويشتد ترابط الشاب مع عظماء أمتهم الذين شادوا صرحها وأقاموا عزها. ولا يمكن بحالٍ من الأحوال اجتزاء هذه المحاولة التي بدأت مع بداية القرن العشرين وبُعيد سقوط الخلافة العثمانية، بأنها أتت في سياق الردّ على ما تم تشويهه وتسويقه من قبل الاستشراق وأذنابه في بلادنا، وانعكس في المناهج الدراسيّة والجامعيّة، إضافةً للدراما والسينما ووسائل الإعلام. بنى الكاتب رأيه "المتحامل" على عينة صغيرة جدًا ممن كتب التاريخ أو تناوله في برامجه (بعيدًا عن موقفنا الشخصي ممن ذكرهم)، فهو لم يورد نتاجات علميّة (أو ربما لم يطلع) لمجموعةٍ من أهم المؤرخين والعلماء في هذه المرحلة، ونذكر منهم: د. عبد الرحمن علي الحجي. د. عماد الدين خليل. البروفيسور فؤاد سزكين. د. شوقي أبو خليل رحمه الله. د. محمد حرب. د. سعيد أوزتوك. المؤرخ محمود شاكر رحمه الله. د. عبد الله عنان رحمه الله. حسين مؤنس رحمه الله. د. خليل إينالجك رحمه الله. أورخان محمد علي رحمه الله. د. عمر تدمري. د. محمد موسى الشريف. يلماز أوزتونا رحمه الله. العلامة محمود شاكر رحمه الله (المصري). د. جمال عبد الهادي. د. أكرم ضياء العمري. اللواء ركن محمود شيت خطاب رحمه الله. د. محمد أمحزون.

أو من كان لهم مساهمات محددة كالأديب الفقيه علي الطنطاوي رحمه الله، والشيخ د. مصطفى السباعي رحمه الله، وغيرهم .... هذه الثلة المباركة وغيرهم الكثير ممن عمل على تقديم التاريخ الإسلامي بشكلٍ علميّ عميق، وقد عُرفت نتاجاتهم برصانتها العلميّة ومراعاتها الشروط الأكاديميّة والبحثيّة، والعديد منهم شغل مناصب أكاديميّة رفيعة ودرَّس سنوات طويلة في العديد من الجامعات العربيّة والإسلاميّة. وفي هذا الإطار لم يعمل أيٌّ منهم على "تجميل" الواقع، بل انصب عملهم على إظهاره كما هو، بشكله الموضوعي، فنجد أنهم يوردون مكامن الضعف والخطأ، ويقرون بأخطاء تاريخيّة ارتكبت من غير تدليس ولا تصحيف، فالكتابة التاريخيّة ليس كتابة الهوى بل عرض الواقع وربط الأسباب بالمسببات، وإيضاح مسارات التغيير والتغيُّر.

وفي هذا السياق ما هو هدف من أنصف تاريخنا من المستشرقين الغربيين، أو من غير المسلمين العرب، وأشادوا بالرقي والتقدم والحضارة، كأمثال هونكه وغوستاف لوبون وغيرهم، فهل كانوا أداةً لتثبيط الجماهير الراقدة التي تآكلت بالوهم وهدها الوهن؟!!.

ليس هناك تاريخ ملائكي البتة، ولكن الأمر كما وصفه الأستاذ محمد قطب رحمه الله، حيث شبه التاريخ الإسلامي بالصفحة البيضاء وفيها بعض نقاط أو خطوط سود متباعدة، هذا البياض الواسع ومساحات العمل فيه لا يشبع فضولنا، ولا يطيب لنا عيشٌ إلا أن نضع المكبر على هذه النقاط القاتمة المعدودة، ونصورها للنشء الجديد على أنها صفحات من السواد الكالح، فتتحول نظرتهم للتاريخ وندفعهم لبناء موقف سلبي عنه. وكما ختمت النقطة السابقة فقد أظهر المؤرخون المنصفون الخلل والمثالب ولكنهم لم يجعلوها أساس كتابتهم للتاريخ، بل أظهروا معها مكامن المجد والعدل والسؤدد والحضارة.

إذًا علينا أن نطرح سؤالًا أساسيًا، من أي منظورٍ نريد أن نكتب به التاريخ عامةً، والتاريخ الإسلامي بشكلٍ خاص. والإشكاليّة الأخرى، بأننا نركز دائمًا على التاريخ السياسي وهو يختزن الحروب والقلاقل والفتن، ونترك جوانب أخرى لا تحمل الإشكاليات ذاتها بلا معالجة وتدقيق وعرض، كالتاريخ "الاجتماعي والعلمي والفكري والحضاري والمعماري...."

 خروج البعض وتكلمهم في التاريخ على التلفاز والفضائيات، وتصدرهم وسائل الإعلام، ليس عبرةً في محاكمة التاريخ واتخاذ مواقف سابقة منه، فكيف على سبيل المثال لعمرو خالد أن ينشر وعيًا تاريخيًّا، أو لجهاد الترباني وهو "قاصّ" بالمعنى الحديث منها، أن يساهم في تقديم رواية متزنة وواعية للتاريخ، وهو قد نشر كتابه عبر وسائل التواصل و "اليوتيوب" ليحشد جماهيريّة من غير تقديم أي قيمة علمية متمايزة في كتابه، وهو أمر أجاب عنه متخصصون عندما سُألوا عن الكتاب.

فالأمر إذًا يعتمد على مسألتين:

أصحاب الفكر والتخصص والدراية والعمق، بعيدون عن الإعلام، وجلّهم بعيدٌ عن وسائل التواصل الأكثر انتشارًا وتأثيرًا في هذه المرحلة. وسائل الإعلام تريد الأسماء اللامعة الشهيرة، التي تجذب المشاهد، وتحقق مشاهدات عالية وما يرتبط بها من إعلانٍ وأرباح، فيكون لهؤلاء الأولويّة، كمثال السويدان وعمرو خالد -في مرحلة ما-، وهو أمر يتعذر مع المؤرخين فهم مغمورون عند العامة، ولا يمتلكونم أحيانًأ أدوات الظهور والعرض بشكل شائق يجذب المشاهد، مع ما تحتاجه من أدوات عرض فنية.

لذلك تحتاج هذه المعضلة لمشروع كبير جدًا، وتضافر جهود مؤسسات عديدة لمعالجة ما سبق.

من الكوارث الكبرى جعل الماضي تسليةً عن الواقع، وهو ما لا أراه في كتب المؤرخين المرموقين، بل تراهم يدعون للعمل والجدّ وأخذ العبر وعدم تكرار التجارب ذاتها، والإسقاطات الماضية. وأظن ومن واقع تجربةٍ شخصيّة بأن الانغماس في التاريخ لا يشكل تسليةً أو "تخديًرا" بل يدفع بشكل كبير للعمل ووضع الأهداف، ولا أجد من يهتم بتاريخنا، ويقرأ عن الفتوحات والعظماء، وعن الحضارة والرقي، وهو ناسٍ لهموم أمته، لاهٍ عن أوجاعها وما تعانيه، ومن "يُسكره" التاريخ فقد سَكِر بألف أمرٍ آخر.  من الواجب علينا أن نعرف عمن نأخذ التاريخ، خصوصًا مع الانفتاح الكبير في وسائل التواصل الاجتماعي، وكثرة النقل من غير تدقيقٍ وتمحيص، إضافةً لتصدر أشخاص هم أشبه بالقصاص، هدفهم حشد الجماهيرية كيف ما اتفق، أو لبثّ أفكارٍ وهدم شخصيات، والتركيز على روايات غريبة وتحليلات سمجة قد ردها أصحاب العلم وقاموا بتقييمها بميزان السند والمتن بصنعة أهل الحديث المحكمة.

 ختامًا  نحن في خضم معركةٍ خطيرة، لا تقل خطورة وأهمية عن المعارك التي تخوضها أمتنا في أشتات الأرض، فعلينا أن نكون قائمين في معركة الوعي وحضور الفكر والفهم، ومعرفة غايات الفاسدين وإرادة المشوهين، وهي معركةٌ خسرنا جولتها مع بداية القرن المنصرم. وأسأل الله أن لا نخسرها أيضًا مع كل من يريد "الاهتراء" في هذا الزمن.

وسوم: العدد 702