خاطرة مهترئة

خلال فترة الجامعة استمعت لكامل سلسة "تاريخ فلسطين والحملات الصليبية" و"تاريخ الأندلس" للدكتور طارق السويدان، واستمعت لكل ما وقع تحت يدي من شرائط وسلاسل ودروس في التاريخ الإسلامي (سيرة، أندلس، حروب صليبية الخ) للدكتور راغب السرجاني، حتى أن موقعه "قصة الإسلام" كان قبلتي الدائمة على الإنترنت، وكنت أقبل على جميع ما فيه من مقالات وقصص بلذة ونهم عجيبين، كما أنني اشتريت نسخة غالية من كتاب "الدولة الأموية" لعلي الصلابي (مجلدين) وقرأتها كاملة ...

بعد كل هذا الاستماع والقراءات كان يجتاحني فعلا شعور طاغ بتقدير ما يفعله هؤلاء ... تنقية وتحلية التاريخ الإسلامي بهدف إعادة ثقة الأمة بنفسها لإخراجها من حلقة تخلفها المفرغة مرة واحدة وإلى الأبد ... (أو كما كانوا يزعمون!).

امتدت بي السنون والأحداث، وتقلبت بي النفس، وتغيرت علي البلاد، وتنوعت مشارب قراءاتي "ذات طابع الهواية ما زالت"، واختلفت الطريقة التي أصبحت أقبل بها على الكاتب والكتاب ... وبالمحصلة، لم أعد ذلك المتحمس للغاية لما يسمى بمشروع "إعادة كتابة التاريخ الإسلامي" .

- لم أعد أؤمن بأن الخروج بتاريخ نقي ملائكي وعرضه على الناس يشكل تعويذة سحرية للنهوض من وسط الركام ... الناس (كل الناس في كل البلاد) لا ينقصها استحضار تاريخ لإعلاء شأنها أمام نفسها وأمام الآخرين، وإن لم يكن ذاك التاريخ حاضرا فخلقه وتزويره حرفة سهلة للغاية، ويمكن التواطؤ والسكوت عليه بشكل جماعي جمعي مخيف!

- لم أعد أؤمن بأن من استمعت لهم وقرأت لهم سابقا يتصفون بمنتهى "الأمانة العلمية" ... هم كانوا يسوقون لي الأحداث والتواريخ بالروايات التي أشتهيها ويشتهيها جمهورهم العاجز مثلي، ومعظمهم كانوا يرفعون شعار "حسن الظن" بالأوائل عند الاختيار من روايات متناقضة ... وللأسف، حسن الظن لا يغني من الحق والعلم شيئا!

- تسليم مهمة رواية التاريخ على الملأ للدعاة الدينيين وشيوخ الفضائيات هي أكبر جريمة علمية تاريخية ارتكبتها هذه الأمة في حق نفسها في عالمنا المعاصر ... الناتج لم يكن سوى توسيع دائرة المقدس والمنزه والمحظور نقده إلى أبعد حد، حتى شملت جميع الملوك والسلاطين والخلفاء ورجال الماضي، فصار الناقد لأي رمز سابق أو معركة أثرية مطاردا بصفات خيانة الجماعة المسلمة والاقتراب من الكفر الديني حتى ... بينما لم يحقق هذا الفيضان التاريخي المعرفي المنهمر على الناس من كل حدب وصوب أي من مقاصده المعلنة من تقدم أو تحرر ...

- استكمالا على النقطة السابقة، فإن رواية التاريخ (واجتراره أحيانا) بات تجارة رابحة تدر الذهب والفضة والشهرة والنجومية على أصحابها ... حتى أنني في معرض عمان للكتاب قبل أشهر قليلة تعجبت من "تلال" الكتب المنتشرة في المعرض لكاتب يسمى "جهاد الترباني" كنت قد استمعت سابقا لجزء من محاضرة له على اليوتيوب عند زيارتي لإحدى الأصدقاء في ألمانيا، ولم أستطع إكمال المحاضرة لشدة تقليديتها ومشابهتها لخطب الجمع المملة والطافحة بالمبالغات ... وكأن الأمة كان ينقصها نجم جديد على هذه الشاكلة!!!

- كثرة التذكير بالماضي والتغني به هي حيلة العاجزين، ووسيلتهم المحببة للهروب من تبعات الحاضر الثقيلة المليئة بالدماء والحروب والانقسامات والتبعية والتخلف المجتمعي، والاستبداد السياسي، والضحالة الفكرية، وتواضع الإمكانات الصحية والتعليمية ... هي وصفة مثالية للنجاة من ضيق الإخفاق إلى سعة الأحلام الوردية اللذيذة الناعسة ...

- لا أظن أن النجاح والشهرة سيكونان حليفين لمن يقصد الدقة العلمية في تنقية التاريخ الإسلامي وتصفيته ... فعلى الجانب الأول جماهير عريضة متعطشة لتبرئة نفسها وأسلافها بالكامل من كل نقيصة أو مثلبة ... وعلى الجانب الآخر منظمات وجماعات متخصصة في شيطنة التاريخ نفسه وإخراجه بمظهر قاتم بامتياز يتناسب مع صورة منتج العصر الأبرز: "داعش" ... وما أسست أصلا لإثباته!

نحن أسرى قناعاتنا الإيدلوجية الثابتة إلى يوم الدين ...

وسوم: العدد 702