السلطة الفلسطينية وبيع إقطاع الصحابي تميم الداري

تميم الداري صحابي جليل أسلم في العام التاسع للهجرة، وكان من وجوه نصارى الشام قبل إسلامه، فلما أسلم أضحى من وجوه الصحابة رضوان الله عليهم. وهو الذي اقترح على الرسول عليه الصلاة والسلام المنبر ليخطب عليه، بعد أن كان يخطب إلى جذع شجرة منصوب في المسجد. وقد عاش في المدينة فترة حتى إذا وقعت فتنة عثمان رضي الله عنه، انتقل إلى بلاد الشام. وكان رضي الله عنه، شديد التقوى عظيم العبادة حتى عُرِف بعابد أهل فلسطين، يُذكر أنّه قام ليلة يركع ويسجد بآية واحدة هي قوله تعالى: (أمْ حَسِبَ الذينَ اجترحوا السيئات أنْ يسبقونا) ويبكي!!

ومن ميزاته - رضي الله عنه عِلاوةً على أنه أول من اقترح المنبر على الرسول – أنه أول من أسرج السراج في المسجد والصحابي الوحيد الذي روى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم حديثاً وهو حديث الجسّاسة عن الدجّال، وقد جمع الرسولُ إليه الصحابة ليسمعوه منه، وهو الذي كان قد حدّثهم عن مثله أحاديث عديدة. وقد كان تميم ذا هيبة وشارة. وهو تميم بن أوس بن حارثة الداري نسبة إلى الدار بن هاني بن لخم القحطانيين. وكُنيته أبو رقية وهي ابنته. وقد روى له الشيخان ثمانية عشرَ حديثاً وكتب عنه المقريزي كتاباً بعنوان: (الضوء الساري في معرفة تميم الداري).

تميم هذا رضي الله عنه، أقطعه الرسول عليه الصلاة والسلام بعد إسلامه

- إكراماً لشخصه وتأكيداً على منزلته - أرضاً في فلسطين قبل فتحها بسنواتٍ، إشعاراً بانتشار الإسلام واكتساحه ممالك الشرك، وتبشيراً بفتح الأرض المقدّسة، الشام عامّة وسُرّتها فلسطين خاصة. وقد كتب له بهذا الإقطاع كتاباً عظيماً اشترك في حيثياته الخلفاءُ الراشدون الأربعة، إذ كاتبه علي بن أبي طالب وشهوده أبو بكر وعمر وعثمان رضوان الله عليهم أجمعين. وهو عبارة عن منحه قطعة أرض من أقدس البقاع، وكما قال الأول: (إنّ الهدايا على مقدار مهديها) وأقول: وعلى مقدار مُهداها كذلك. وفي الكتاب خصٌّ لتميم وأهله بهذا الإقطاع خالصاً لهم إلى يوم القيامة، كما أن فيه تغليظاً لعقوبة مَنْ يُنازعهم فيه.

أما الكتاب فقد جاء منه في صيغة قوله – صلى الله عليه وسلّم -: (بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما أعطى محمد رسول الله لتميم الداريّ وإخوانه: حبرون والمرطون وبيت عينون وبيت إبراهيم وما فيهنّ، عطيَّةَ بَتٍّ بذمتهم ونفذت وسلمت ذلك لهم ولأعقابهم، فمَنْ آذاهم آذاه الله ومَنْ آذاهم لعنه الله) وكتب الرسالة الإمام علي بن أبي طالب وشهد عليها عمر وعثمان وعتيق بن أبي قحافة. وفي أخرى - قوله بعد البسملة -: (هذا كتاب من محمد رسول الله لتميم بن أوس الداري، أنه له قرية حبرون وبيت عينون قريتهما كلها وسهلها وجبلها وماءها وحرثها وأنباطها وبقرها ولعقبه من بعده، ولا يُحاقُّه فيها أحدٌ، ولا يلجها عليهم أحدٌ بظلم. فمن ظلم واحداً منهم شيئاً فإن عليه لعنة الله).

وقد جاء في الوثائق كذلك أنه لما وَلِي أبو بكر إمارة المسلمين خليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، جدّد الإقرار بهذا الإقطاع، وكتب فيه كتاباً نصُّه – بعد البسملة – كذلك: (هذا كتاب من أبي بكر أمين رسول الله الذي استُخْلِف في الأرض بعده، كتب للداريين أنْ لا يُفسد عليهم سبدهم ولبدهم من قرية حبرون وعينون. فمن كان يسمع ويطيع الله، فلا يفسد منهما شيئاً، وليقم عمرو بن العاص عليهما ويمنعمها من المسلمين). ومعلوم أن هذه المناطق التي ذُكِرت: حبرون وعينون والمرطون، هي من قرى بيت المقدس ومدينة الخليل.

أقول هذا الكلام اليوم، وقد سمعتُ في الأخبار قبل أيّام أن السلطة الفلسطينية لا تمانع في بيع هذا الإقطاع وهو بمساحات واسعة للكنيسة الروسية لتبني عليها بِيَعاً لها، وأنّ هذه الأملاك التي تُعدُّ وقفاً إسلامياً لا يجوز التصرّف فيه، شالتْ قيمتها وخفّ وزنها عند هذه السلطة، إذ ليس الأمر عندها مما يهم تأجيراً للإقطاع أو بَيْعاً، وأنها تمارس مثل هذه التصرفات منذ زمان دون أن تأبه لاعتراضات ورثة التميميين الداريين الذين ما زالوا يتوارثون هذا الإقطاع كابراً عن كابر منذ عصر النبوّة، كما لا تقيم وزناً لاجتماعات الرافضين لهذا التصرّف بالإقطاع ممثلين لعشائر الخليل من داريين وغيرهم ولا لما ورد في الحديث مِنْ لَعْنِ مَنْ يتصرّف بظلمٍ في هذا الإقطاع بهذه الصفقات الخؤونة، بل إن السلطة ليست مستعدة للإجابة على هذه الاعتراضات أو حتى الاستفسارات عمّا يحدث من هذه التصرفات المُستنْكَرة التي يُعتدى فيها على تراث الأمة وعقيدتها وتاريخها وجغرافيتها، بل على رسولها وصحابته الأجلاّء.

وإنني لأتساءل تساؤل الاستهجان: كيف تجرؤ السلطة على الاستهانة بكل الوثائق والعهود التي ما جَرُؤَ حاكمٌ مسلم على التفريط بشبر واحد منها منذ أنْ كان الإسلام، احتراماً لعهد الرسول العظيم وإكراماً لجناب صاحبه الجليل، وحذراً من الوقوع في غضب الله ولعنته على مَنْ يخالف عهد رسوله وذمّة أصحابه إلى يوم الدين ليُوصم بالعقوق على أقل تقدير، بل بالخيانة وهو ينحاز لأعداء الله وإخراج نفسه من دائرة هذه الأمة، مع أنّه يحكم شعباً ما زال وسيبقى يُقدّس ديار الإسلام ويحبُّ رسوله ويوقّر صحابته ويحفظ حرمات المسلمين كما فعل الأسلاف من الخلفاء والسلاطين.

ومعلوم أن هذا التصرف مُستَنْكَرٌ بَيْعاً أو إيجاراً حتى نقلاً من عهدة هؤلاء الداريين إلى غيرهم من المسلمين، لأن هذه الأراضي حُدِّدت بالذات للداريين التميميين يملكون رقبتها وحدهم. أما غيرهم من المسلمين، فلا يملكون – إنْ حُقَّ لهم ذلك – إلاّ منفعتها، فكيف إذا تعدّت المسألة الانتفاع إلى البَيْع ومن المسلمين – واحزناه – إلى غيرهم من أعداء الله وأعداء رسوله وأعداء العروبة والإسلام ليُقام عليها بيوت عبادة لهؤلاء وهي في حقيقتها قِلاع تآمر علينا يرمينا منها أعداؤنا من غرب صليبيين وروس ملحدين ويهود مغتصبين تُجيَّر لصالحهم كل القوى العالمية لنهب أرض المسلمين.

إننا نربأ بالسلطة أن تكون ممن يُخالف عن أمر الله وأمر رسوله وأمر الصالحين من سلف هذه الأمة، وأن تكون ممن يقع في دائرة سخط الله، بل – واهيبتاه وارتهاباه – في لعنته، وبالتالي لعنة التاريخ ولعنة الأجيال. إنه لا يهون لنا فيها أنْ تُقدِم على هذا الأمر الفظيع وأهلها أهلنا وديارهم ديارنا، فنطالبها بكل وضوح وصراحة أن تكفَّ عن هذه التصرفات الرعناء وتلك السياسات الخرقاء، ولا تكسر خواطر المسلمين عامة وأبناء فلسطين خاصة وأبناء الداريين بشكل أخص، بهذه الترصفات غير المحسوبة أو الموزونة.

والعجب الذي يتملّك الإنسان وهو يسمع هذه الأخبار عن السلطة أنْ تنحدر هذا الانحدار الوبيل، وهو مما لم يحصل مثله في تاريخ الإسلام، بل في عهد الاستعمار الإنجليزي الغاشم، إذ لم يُكتف أن تُسلب فلسطين أمام نواظرنا حتى راح بعض أبنائنا اليوم يتطوعون من أنفسهم لبيع أقدس أراضيها هكذا عمالة أو سقوط همم، مع أن الأصل مطلوب منهم ليس فقط الحفاظ على الحمى، بل الاضافة إليه أقطاراً جديدة بالدعوة والفتح كما كان يفعل الرجال الرجال من عظماء الأسلاف.

وإنني من هنا من شرقي الأردن أخت فلسطين ومن مدينة إربد عرين الشمال أوجّه نداء شديد النبرة إلى إخوتنا المسؤولين في السلطة الفلسطينية أن يتوقفوا عن اللعب بالنار والتلاعب بمقدرات المسلمين وأرض الصحابة الكرام، وإلا فهم واقعون تحت مغبة مَنْ يُفرّط بإرث المسلمين ويعتدي على مَن أوصى به الرسول خيراً.

وسوم: العدد 707