لماذا تضطرب المعايير في السّياسات الخارجية الأوروبية؟

يرتكز خطاب السياسات الخارجية الأوروبية على مقولات أساسيّة، من بينها الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات الأساسية، لكنّ الشعارات وحدها لا تضمن امتثال الممارسات السياسية للأدبيات المعتمدة.

فالشؤون الخارجية تخضع تقليدياً لمنطق "مصالح الأمّة وأمنها القوميّ"، وهو ما يوحي بأنّ الأولوية في إدارة العلاقات الخارجية تبقى متعلقة بالاهتمامات النفعية والدفاعية والأمنية مع مراعاة بعض الالتزامات المبدئية والأخلاقية. كما تختزن المصالح الاقتصادية قدرةً تفسيرية لاتجاهات السياسة الخارجية أحياناً، مِمّا لا يدع مجالاً للشك في تأثيره على الالتزام المُعلَن بدعم الديمقراطية أو حماية حقوق الإنسان وصون الحريات الأساسية؛ لدى التأمّل في حالات يتصادم فيها منطق المصلحة مع منطق القيم، من نحو ما جسّدته - على سبيل الذكر لا الحصر- مواقف الديمقراطيات الأوروبية مع الصين بعد سحق الطلاب المعتصمين في ميدان "تيان آن مين" (1989).

يتعزّز الاستنتاج من خلال التجارب القائمة، حيث التزام السياسات الخارجية الأوروبية بمراعاة الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات الأساسية، يبقى خياراً معتمداً؛ شرط موافقته تقديرات المصالح والاختيارات الاستراتيجية، فيبقى العمل بمقتضياته انتقائيّاً. وتعبِّر بعض الأصوات بوضوح عن هذه الأزمة، مثل استنتاجات "الشبكة الأوروبية المتوسطية لحقوق الإنسان" بقولها: "يُصعَق المراقب من الفجوة المتنامية التي تفصل بين الأهداف السياسية للاتحاد الأوروبي والتزاماته القانونية من جهة؛ وغياب الإجراءات الفعلية التي من شأنها ضمان تحقيق مثل هذه الأهداف واحترام هذه الالتزامات" من جهة أخرى.(تقرير بخصوص عدوان 2008/2009 على غزة صدر في أيار/ مايو 2009).

ورغم أنّ مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات الأساسية حاضرة بوضوح في الخطاب السياسي الخارجي؛ فإنّ استراتيجيات المصالح وتقديرات الأمن القومي لها الكلمة الفصل في اتجاهات المواقف. وبالتالي ينبغي في هذا المقام التفريق بين وجهات السياسات الخارجية من جانب، وتسجيل انتقادات لفظية أو اعتراضات وتحفظات عابرة إزاء مزاعم بارتكاب انتهاكات أو تجاوزات بحق حقوق الإنسان والحريات الأساسية من جانب آخر. تمثل الحالة في مصر تعبيراً ظاهراً عن هذه المعضلة، فقد أعربتْ عدد من الخارجيات الأوروبية، ومعها هيئات الاتحاد الأوروبي عن انتقادات متكررة للسلطات المصرية منذ الإطاحة بالعهد الديمقراطي في صيف 2013. لكنّ العلاقات الفعلية مع القاهرة لم تتراجع، بل توطّدت نسبياً. وفي ظلال هذا التحسّن في العلاقات تتردّد إشارات إلى صفقات كبرى، من قبيل صفقة طائرات "رافال" الفرنسية وصفقة ضخمة مع "سيمينس" الألمانية.. وإن كانت الصفقات لا تفسِّر وحدها مدى التحسّن في العلاقات المتبادلة.

منطق "الداخل" ومنطق "الخارج":

تمثل الديمقراطية خطاً فاصلاً بين منطق "الداخل" ومنطق "الخارج"، بوصفها إحدى ركائز خطاب السياسات الخارجية الأوروبية، إلاّ أنّ هذا "الشعار" يفتقر إلى كيفيات محددة، مُتوافَق عليها في التنزيل.

يعود الأمر في جانب منه إلى تقاليد النظام الدولي وبنيته، فهي ترهن "سياسة العالم الداخلية" لتوازنات القوى الخارجية. ومن بين الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن، تظهر دولتان أوروبيتان غربيتان، ديمقراطيتان في "الداخل" لكنهما ليستا كذلك في مجلس الأمن الذي يقوم على امتيازات طبقية، فرضتها توازنات المنتصرين بعد الحرب العالمية الثانية؛ ممّا يشي بحقيقة "الديمقراطية" كونها تنتهي عند "حدود الدولة"، ففضائلها ليست مصمّمة للسياسة الدولية التي هي في الواقع "سياسة العالم الداخلية".

أمّا القول بدعم الديمقراطية فيبقى "شعاراً" قابلاً للتطبيق إنْ توافق مع المصالح واعتبارات الأمن القومي، فهذه الأخيرة هي التي تحظى بالأولوية في واقع الممارسة. إنّ مبدأ "دعم الديمقراطية" الذي تؤكّده أدبيات السياسات الخارجية للاتحاد الأوروبي ودوله الأعضاء، حاضر بوضوح في الأدبيات الرسمية الأوروبية وفي البلاغات والتصريحات وبرامج دعم المجتمع المدني، إلا أنّ ذلك لا يحُول دون توطيد علاقات وُثقى مع أنظمة مشهود لها دولياً بالاستبداد، وقهر إرادة شعوبها واقتراف الفظائع. أي: بوسع الممارسة السياسية الخارجية أن تتذرّع في هذا المقام بالمبدأ التقليدي القائل بعدم التدخّل في الشؤون الداخلية لدول أخرى، لكنّ التحليل المنصف كفيلٌ بأن يلحظ ما تحظى به تقديرات المصالح في علاقاتها مع السياسية الخارجية.

مساحات التقاطع بين "الداخل" و"الخارج":

انطلاقاً من "طبيعة" بعض الملفات؛ حيث تقاطع السياسات الخارجية والداخلية؛ تبرز "أزمة المعايير" شاخصة للناظرين.

  على سبيل المثال (مسألة طالبي اللجوء) فالذين يفرّون إلى أوروبا هم قادمون من "الخارج" الذي تنشغل بأمره السياسات الخارجية، لكنها لا تلتزم عملياً بالقدر ذاته بالمعايير المخصصة لـ "الداخل".. صحيح أنّ اللاجئين ولجوا الداخل الأوربي الذي تتعهّده السياسات الداخلية، إلا أنّ دخول الحيِّز المكاني لا ينتزع اعترافاً مباشراً بالانضمام إلى المجتمع الذي لا يشعر بالإضافات البشرية إلاّ بعد حين، بل قد يتطلّب الإحساس الوجداني شروطاً من قبيل "الاندماج" وهو مصطلح فضفاض يحتمل تأويلات شتى وتطبيقات عدة يشوبها الاعتدال أو التعسِّف. 

تتيح هذه الخلفية فِهم جانب من الاستجابات المضطربة التي تبديها أوروبا في وضع المعاييروتطبيق الالتزامات خلال تعاملها مع تدفق اللاجئين. فممارسات الحكومات وسلطاتها في النطاق الخارجي للدول، أظهرت استعداداً نسبياً للّجوء إلى صُنوف من القسوة مع التلويح "تحذيراً" بقصف قوارب المهربين رغم ما يعنيه ذلك من مخاطرة جسيمة بالأرواح. لا يمكن تصوّر إجراء كهذا على أي حال داخل المياه الإقليمية، ولكنّه "الخارج" الذي يسري عليه منطق الأمن والدفاع والاشتباك العسكري، خلافاً للداخل المُوكل إلى منطق مدني حيث تبقى مساحة احتكار العنف موكلة إلى جهاز الشرطة أساساً.

أزمة بنيوية متجذِّرة:

ليس اضطراب المعايير بين السياسات الداخلية والخارجية حالةً عارضة، بل من تجلِّيات الأزمة البنيوية الراسخة والمتجذِّرة في عزل "الخارج" عن "الداخل"، ولا تكفي "الصحوة الأخلاقية" وحدها لإصلاح الأزمة لأنّ الحكومات تبقى قادرة على تسويق سياساتها الخارجية في فضائها الداخلي ببراعة، حتى في زمن الصورة والبثّ المباشر وتفاعلات الجماهير وتطورات المجتمع المدني.

لا يمكن والحال هذه التسليم بامتلاك الشعوب الأوروبية آليات ديمقراطية فعّالة بوسعها التأثير الفاعل والمُستدام على السياسات الخارجية. وما يفاقم المعضلة أنّ الأغلبية البرلمانية تبقى موالية للحكومة عادةً، ومعنيّة بالتالي بتمرير سياساتها، بما لا يتيح مواصفات مثلى لقيام البرلمانات المنتخبة بإعادة توجيه السياسات الخارجية رغم ما يدور تحت سقفها من استجوابات عاصفة وخطابات ملتهبة أحياناً.

تمنح المراجعة التاريخية فرصة لإدراك التقاليد التي تراكمت في الفصل بين "الداخلي" و"الخارجي" لدى وضع القيم والمبادئ والشعارات. لقد توسّعت فرنسا في تجربتها الاستعمارية التي استحوذت على معظم القارة الأفريقية تقريباً، وباشرت اقتطاع حصّتها من حقبة النهب الأعظم في تاريخ البشرية. لكنّ ذلك جرى تحت ظلال شعارات الثورة الفرنسية تحديداً، ويبدو أنّ النخب والجماهير لم تجد مشكلة في هذا لأنّ مبادئ (الحرية، المساواة، الإخاء) هي ببساطة مخصّصة للداخل وليس للخارج. 

ثم واجه النظام الاستعماري البائد معضلته عندما بدأت بعض مظاهر "الخارج" تتماهى مع "الداخل" من خلال الحضورالجزائري في فرنسا على سبيل المثال، فاتجه السلوك الأوّلي إلى تصنيف مستويات متفاوتة من التعامل في النسق المجتمعي الداخلي حسب السمات الإثنية. وقد أنشأت السلطات الفرنسية نظاماً فعلياً من التفرقة المؤسسية، تجسّدت تعبيراته المتعددة على الأرض في السكن والصحة.. وتبدو مجزرة باريس يوم 17 تشرين الأول/أكتوبر 1961 لحظة زمنية كاشفة لهذه المعضلة، فقد قمعت أجهزة "الداخل" بأمر من رئيس شرطة باريس (موريس بابون) مظاهرة الجزائريين بمنطق "الخارج" فكانت مقتلة عظيمة. ورغم الإصلاحات والتطوّرات اللاحقة التي طرأت على النظام الفرنسي بعد إنهاء حقبة الاستعمار، ورفع شعار "الاندماج" ومنطق الحقوق؛ إلاّ أنّ فرنسا التي يعيش فيها اليوم أكبر عدد من المسلمين في القارة الموحّدة، عبّرت عن أزمة كامنة في استيعاب التنوّع في أحشائها، حتى تصدّرت دول أوروبا الغربية في استحضار ثقافة الحظر والتقييد، حيث وضعت على سبيل المثال، حمولة ثقافية شديدة الوطأة على قطعة قماش ترتديها الفتاة على رأسها.

لا يصحّ التهوين من تجارب الماضي في اضطراب المعايير لما لها من دور كبير أفرزت من خلاله تقاليد يتفاعل منطقها في الحاضر وإن لم تُذكر نصّاً. والمهم في هذا السياق أنّ تجربة الماضي لم تخضع لمراجعات جادّة، كما لم يُراجَع تاريخ الاستعمار بصفة مُتوافق عليها أو تُفتح ملفّاته رسمياً عبر عمل لجان تحقيق تاريخية وطنية أو أُممية تتولّى القيام بهذه المهمة أسوة بما جرى مع ملفات أخرى متعددة.

خارج حدود الديمقراطية:

لأنّ السياسة الخارجية منفلتة تقريباً خارج حدود الديمقراطية، فإنها لا تخضع بالتالي لمراجعات أو مساءلات شعبية فعلية. وهي حالة تتأسّس على خبرات راسخة في التجارب السياسية الأوروبية، فالجمهور المحلي لا يكترث بما يجري "وراء البحار"، ويفتقر في كثير من الملفات إلى المعرفة الوافية والشفّافة بملابسات الواقع القائم في أرجاء العالم حتى في ظل شعارات "القرية الكونية". يباشر هذا الجمهور في مواسم الاقتراع انتخاب حكومة ستقرِّر السياسة الخارجية على نحو ما يطيب لها، باستثناء محطّات حرجة، تعجز السياسة الدولية وملفّاتها المؤرقة عن إشغال عموم الجماهير في الديمقراطيات الأوروبية، حتى عندما تُحرِّك هذه الشؤون نخباً من الناشطين أو قطاعات من المتضامنين مع قضايا وتطوّرات معيّنة، فإنّ لامبالاة المواطنين والمواطنات تجود على راسمي الاستراتيجيات وصانعي القرار بهامش واسع للمناورة في صياغة السياسة الخارجية؛ مع اطمئنان صفوة الحكم إلى أنّ الجمهور لن يعترض ولن يكترث بمدى التزام الممارسة بالمعايير المرفوعة في الآفاق.

أمّا لو حصل الاكتراث الشعبي فجأة.. فللحكومات مناوراتها في تسويق سياساتها الخارجية، من قبيل: إظهار لفتات إنسانية في مواجهة الكاميرا، أو امتصاص التحفظات الجماهيرية بمواقف مُنتزعة من سياقها بما لا يمثل تعديلاً جذرياً في النهج المرسوم للسياسة الخارجية في هذه القضية أو تلك. وقد تلجأ السلطات أو الهيئات البرلمانية إلى تشكيل "لجان تحقيق" لتنتهي في أفضل الحالات إلى إنزال عقوبات بحقّ مسؤولين لا بحقّ نظام يخدمونه. 

ورغم الضعف النسبي في اهتمام الساحات الجماهيرية الأوروبية بالسياسات الخارجيّة، فمن شأن الاهتمام الشعبي أن يتنامى في مواسم التطوّرات والأزمات التي تعصف بالسياسة الدولية، لاسيّما إذا استشعر الجمهور انعكاسها المباشر أو غير المباشر على واقعه الداخلي. وما يقتضي التمحيص هو دور الإرادة السياسية في إثارة الاهتمام الجماهيري بملفات معيّنة تقع في السياسات الخارجية أحياناً، وهي إثارة استعمالية تسعى لصرف النظر صوب وجهات مقصودة، أو لحشد التأييد لخطوات استثنائية من نحو قرارات شنّ الحرب مثلاً.

ثم إنّ قسطاً وافراً من الاهتمامات الجماهيرية بالخارج مرتبطة بالمخاوف أكثر من انبثاقها من القيم، وطبقاً لهذا المنحى تصدّر ملف "داعش" التداول السياسي والإعلامي على جانبي الأطلسي بدءاً من سنة 2014، وهو لا يبتعـد عـن مشـاعر التهـديد المغموسة بوفرة من الصور النمطية المتناغمة مع مقولات "الخطر الإسلامي" و"صراع الحضارات". وما يلفت الانتباه في هذا الملف تحديداً أنّ تناولـه يقـع في نطاقات السياسات الخارجية والداخلية في الوقت ذاته، لاسيّما مع الإشارات المتواترة في التنــاول السياسي والإعلامي عـن مؤيدين لـ"تنظيم الدولة" في الفناء الداخلي للمجتمعات الأوروبية والغربية.

من القسط القول أنّ السياسات الخارجية للديمقراطيات الأوروبية لا تُصاغ من قبل الشعوب، ولا تُستشار بشأنها إلاّ نادراً وإن كانت هذه الشعوب تساهم في دفع ثمنها واحتمال أعبائها. فالواقع هو أنّ موجِّهي السياسات وراسمي الاستراتيجيات وصانعي القرار هم من يستأثرون بالسياسات الخارجية دون اعتراضات شعبية تُذكر، لأنّ الجمهور راضٍ غالباً بالرواية الرسمية التي تفترش العناوين العريضة بشأن ما يجري خارج الحدود. فالنظام السياسي يميل إلى محاولة عزل "الخارج" عن "الداخل" ليحرِّر الأداء الخارجي الخاضع لمنطق الأمن القومي وتقديرات المصالح وضغوط القوى النافذة من المساءلة الأخلاقية والمبدئية. ولا تؤثر على هذا المسار العام بعض التطوّرات المعاكسة أو الاستدراكات التي تجري أحياناً. 

الأحزاب السياسية في صميم المعضلة:

الأصل في الحالات الأوروبية أنّ المبادئ الأساسية للأحزاب السياسية لا تتطرّق إلى السياسة الخارجية إلاّ في حالات نادرة. فقد تشكّلت الأحزاب السياسية القائمة من بواعث داخلية أو محلية أساساً، كما أنّ الجمهور عندما يُسأل عن النقاط المثيرة للجدل السياسي في بلاده.. نادراً ما يذكر من بين ذلك شواغل السياسة الخارجية. وتبقى الأحزاب المتنافسة على أصوات الناخبين مَعنيّة بمخاطبة الجمهور بما يُراعي اهتماماته التي تغيب عنها السياسة الخارجية مطلقاً، أو تأتي في مواقع ثانوية من رصيده لصالح الشواغل التقليدية، المتعلِّقة عادة بمنسوب الرفاه الاقتصادي والمستوى المعيشي، والاهتمامات المتّصلة بسوق العمل والتشغيل والبطالة، ومكتسبات دولة الرعاية الاجتماعية، والعناية الصحية، والشؤون التعليمية، ومكافحة الجريمة، وحماية البيئة، علاوة على الاكتراث المتزايد بملف الهجرة والأجانب واللاجئين والأقليات.

في خضمّ الانكباب الشعبي على هموم "الداخل"، يغيب الاكتراث اللائق بالتأثيرات المتفاوتة التي تعود بها السياسات الخارجية على الواقع الداخلي ذاته. لكنّ بعض المكوِّنات المجتمعية التي تحمل خلفية في الهجرة تبقى الأقدر على ملامسة الفجوة الماثلة في منطق السياسات الأوروبية بين "الداخل" و"الخارج"، ويتأتّى ذلك من واقع اهتمام هذه الفئات ببعض ملفات السياسة الخارجية بما يفوق المنسوب السائد في الواقع المحلي الأوروبي. ويتطوّر الأمر إلى حال من الانفصام أو التنازع الداخلي عندما تخوض دولة أحدهم حرباً على بلد المنشأ، أو يمثل تجمعها به رابطة معنوية. فكما حدث في جولات حربية كثيرة لم يكن يسيراً على ذوي الأصول الأرجنتينية في بريطانيا احتمال التبعات المعنوية المترتبة على حرب جزر الفوكلاند/ المالفيناس بين المملكة المتحدة والأرجنتين سنة 1982. ويثير هذا الانفصام والتنازع تساؤلات عن انعكاسات ما وقع على كاهل بعض مكوِّنات المجتمعات الأوروبية من وطأة ثقيلة، ألقت بها الحملات الحربية في أفغانستان والعراق تزامناً مع الدعم المتواصل الذي يحظى به الاحتلال الإسرائيلي. 

ولمّا كانت الأزمة البنيوية وثيقة الارتباط بانشغالات الجمهور المحلي (الشعب) الذي نادراً ما يكترث بالسياسات الخارجية؛ انعكس ذلك ضعفاً في السياسة والبرامج الانتخابية؛ إذ تدرك الأحزاب والقوى السياسية الفاعلة أنّ أولوياتها في مخاطبة الجمهور ينبغي أن تتركز على اهتمامات "الداخل" بما يحاصر شؤون السياسة الخارجية في هوامش البرامج الحزبية وذيول الحملات الانتخابية وليس في عناوينها المتقدِّمة، باستثناء محطّات بعينها كمواسم الحروب والأزمات الدولية التي تفرض استحقاقاتها على "الداخل"، وتطرح أسئلة المشاركة أو الحياد مثلاً. لا يتوقف الأمر عند هذا الحدّ.. فحتى ضمن هذا الحيِّز الضيِّق الذي يجري فيه التطرّق إلى الشؤون الخارجية في البرامج الحزبية والشعارات الانتخابية؛ من المألوف أن يأتي التناول سطحياً، توافقاً مع لغة الخطاب المحلية واهتمامات الجمهور المحدودة في هذا الشأن، وقد يجري وضع السّياسة الخارجية في سياق متّصل بانعكاساتها على الشأن المحلي.

صحيح أنّ البرامج والشعارات الخاصّة بأقصى اليسار والشيوعيين تتناول الشأنَ السياسي الخارجي بتوسّع نسبي مقارنة مع غيرها إلا أنها قوى تقف على أطراف الساحة السياسية لا في مركزها، علاوة على أنّ خطابها المنبثق من نزعة أيديولوجية واضحة، يميل إلى مقاربات جدِّية في التعامل مع المعضلات القائمة بما لا يشجع على حشد التأييد الجماهيري لها فضلاً عن إمكانية استجابة راسمي السياسات لمطالبها.

السياسات الخارجية وضغوط الجماهير:

ما يجدر تأكيده أنّ السياسات الخارجية الأوروبية لا تُبدي استجابات ملحوظة تتوافق مع مطالب التحرّكات الجماهيرية الضاغطة؛ إلاّ في حالات محدودة. فتلك السياسات تميل إلى الثبات وتفتقر إلى سمات التحوّل في العادة، وهي محكومة بمنظور استراتيجيات المصالح والأمن القومي في الأساس بما يجعل الامتثال للالتزامات المقرّرة في مجال حقوق الإنسان والحريات العامة ودعم الشعوب المضطهدة مثلاً خاضعاً لاعتبارات فرعية وثانوية لا تتقدّم على التقديرات الاستراتيجية المعتمدة. وبهذا فلا يُنتظر من التفاعل الجماهيري الضّاغط أن يعود بتأثيرات سياسية مباشرة أو بتحوّلات جوهرية في المستوى السياسي، دون أن ينقص ذلك من أهمية مواقف الجماهير وضغوطها في التأثير على مجالات متعددة بصفة مباشرة أو نسبية.

لقد برهنت الخبرات المتراكمة على أنّ التفاعل الجماهيري العارم في أوروبا مع تطوّرات معيّنة لا يضمن وحده إحداث تحوّل في المواقف السياسية الخارجية، حتى أنّ المظاهرات المليونية التي تحركت في لندن ضد غزو العراق لم تثن حكومة طوني بلير عن قرار خوض الحرب سنة 2003. 

ما يلفت الانتباه في تلك التجربة البريطانية أنّ القوى المناهضة للحرب اتجهت بعدها مباشرة إلى تشكيل حزب سياسي باسم "الاحترام" (Respect) سعياً لتكتل إرادة الجماهير العريضة ضد الحرب بعيداً عن الأحزاب الجماهيرية القائمة، لكنّ الحزب لم يحقق نجاحاً عبر الجولات الانتخابية المتعاقبة رغم أنه تشكّل بإسناد مباشر من قواعد شعبية نجحت بشكل لافت في تحريك المظاهرات الحاشدة في لندن وغيرها من المدن. والمغزى من هذا أنّ تفاعل قطاعات من الجمهور مع الشأن السياسي الخارجي في منعطفٍ ما؛ لا يقطع بنشوء تحوّل عميق في اهتمامات عموم الناخبين في مجمل المواسم السياسية والانتخابية. كما لا تتأهل السياسات الخارجية لأن تكون الانشغال الجوهري للقوائم الانتخابية، فليس من فراغ أنْ واجه حزب "الاحترام" انتقادات بأنه "حزب القضية الواحدة".

حالة الاحتلال في فلسطين مثالاً:

تبقى حالة الاحتلال الإسرائيلي تجسيداً عميقاً ومتواصلاً لاضطراب المعايير في السياسات الخارجية الأوروبية. فلا يمكن التصوّر أنّ هذا الاحتلال الاستيطاني يتمكّن من الاستمرار والتوسّع بمعزل عن دعم متعدّد الأشكال، يحظى به من أوروبا وغيرها؛ سياسياً وعسكرياً وأمنياً واقتصادياً وتجارياً وعلمياً. من الممكن الافتراض أنّ أوروبا قادرة على إجراءات عملية محددة على سدّ قصبة التنفس عن نظام الاحتلال، ولكنّ التحفظات والانتقادات والاعتراضات التي تصدر من بعض عواصم القارة وهيئات الوحدة الأوروبية تبقى لفظية مع التلويح أحياناً بإجراءات غير فعّالة في كبح الاحتلال، مثل التوجّه إلى وضع إشارات على منتجات المستوطنات مثلاً.

يجدرالتأمّل في السلوك السياسي الرسمي الذي تتخذه كثيراً من الدول الأوروبية ومعها الهيئات القيادية للاتحاد خلال جولات العدوان الحربي على قطاع غزة؛ إذ تُعدّ تجربة صيف 2014، مثالاً جديراً بالفحص لأنّ العدوان الذي استغرق (51) يوماً كان الأطول مقارنة مع ما سبقه، بما يتيح المجال لرصد تطوّرات المواقف وتفاعلاتها عبر هذا المدى الزمني. فقد عبّرت المواقف الرسمية الأوروبية قبيل العدوان وخلال أيّامه الأولى عن انحياز نسبي إلى الجانب الإسرائيلي، كما عبّر عن ذلك مجلس وزراء الخارجية الأوروبيين الذي انعقد يوم 23 تموز/ يوليو في بروكسيل. لكنّ المواقف الأوروبية المتفرقة والمشتركة، أخذت تشهد تحوّلاً نسبياً وجزئياً في الأسابيع اللاحقة تحت ضغط التطورات الميدانية والتفاعلات الجماهيرية في أوروبا ذاتها، وقد تمثّل التحوّل النسبي في ما يلي:

الاقتصاد في التصريحات المتكررة عن "حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها" وفي الإعراب عن التضامن والتعاطف مع الجانب الإسرائيلي؛ خلافاً لما عبّرت عنه بعض الدول الأوروبية في الأيّام والأسابيع الأولى من العدوان. إصدار انتقادات محددة، تعقيباً على بعض الاعتداءات التي مارستها القوّات الإسرائيلية، ويمكن اعتبار مجزرة الأطفال الأربعة من آل بكر على شاطئ بحر غزة، نقطة تحوّل واضحة في هذا الصدد، ثمّ قصف مدارس تابعة للأمم المتحدة لاحقاً. وقد ظلّت تلك الانتقادات موضعية في نطاق وقائع بعينها ولم تتجاوزها في الغالب إلى العدوان الإسرائيلي عامّة. الإفصاح عن مساعٍ تهدف إلى وقف إطلاق النار ووضع حدّ للمعركة، أو الإعراب عن الدعم لجهود ومبادرات في هذا الاتجاه لاسيما المبادرة المصرية. إبداء استجابات ذات طابع إنساني وإغاثي في ما يتعلّق بالأوضاع المأساوية التي تسبّب بها العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، لاسيما في المجال الصحي ورعاية الجرحى وإعادة الإعمار، ومن ذلك مبادرة النرويج في عقد مؤتمر لإعادة إعمار غزة تنسيقاً مع القاهرة. ولم تتطرّق هذه الاستجابات إلى تحميل الجيش الإسرائيلي أو حكومته المسؤولية عن الضحايا والدمار، وهو تعبير عن منحى التغافل عن الفاعل. إحياء الحديث عن إمكانية استئناف بعثة المراقبة الأوروبية في معبر رفح ضمن اشتراطات وترتيبات محددة.

وهكذا ظلّت المواقف الرسمية الأوروبية بعيدة عن مطالب التفاعل الجماهيري في العواصم والمدن الأوروبية، لكنها أبدت تخفيفاً من حدّة الانحياز الذي اتخذته في الأسابيع الأولى من العدوان، ثمّ عبّرت عن استجابات ذات طابع إنساني وإغاثي في الأساس بعد ما أحدثه العدوان من أضرار جسيمة بحقّ السكان في قطاع غزة. 

بدا واضحاً مدى الافتراق بين استجابة صانعي القرار الأوروبي وحزمة المطالب التي حملتها الجماهير الغفيرة التي تظاهرت بقوة في عشرات العواصم والمدن الأوروبية بلا هوادة. فقد توجّه المتظاهرون والمعتصمون بمطالبهم إلى صانعي القرار في المستويات التنفيذية والتشريعية ضمن كلّ دولة وكذلك في النطاق الأوروبي الموحّد مطالبين ابتداء بوقف العدوان ورفع الحصار، ثم نضجت مطالب جماهيرية أكثر تحديداً، منها على سبيل المثال، المناداة بوقف تصدير السلاح إلى الجانب الإسرائيلي، وتجريم الجنديّة في جيش الاحتلال من مواطني دول العالم، وفتح خطوط بحرية مع ميناء غزة، علاوة عن المطالبة بالمقاطعة ونزع الاستثمارات وفرض العقوبات، وصولاً إلى مطالبات رفعها متظاهرون في بعض الدول بطرد السفراء الإسرائيليين. 

يتضح من خلال ما تقدّم.. كم يبدو البون شاسعاً بين "التفاعل الجماهيري" في محطات ساخنة من جهة، و"المواقف السياسية الرسمية" على أرض الواقع من جهة أخرى. لكن الاهتمام السياسي والإعلامي في أوروبا انصرف تقريباً عن هذه المطالب إثر الإعلان عن وقف إطلاق النار بعد واحد وخمسين يوماً من العدوان الإسرائيلي.. فما استأثر بالاهتمام لاحقاً هو تطوّرات العراق وصعود تنظيم "الدولة الإسلامية"، متصدراً الأولويات السياسية والإعلامية في أوروبا، مُطفئاً في الآن ذاته جذوة المطالبات الجماهيرية المتعلقة بفلسطين التي توجّهت إلى المستويات السياسية في أوروبا.

هكذا اقتصر الموقف على استجابات رسمية متفرقة ذات طابع إنساني وإغاثي مع بقاء شروط الحصار الخانق على حالها، وتحركات لاحقة للاعتراف المشروط بدولة فلسطين وتجديد المساعي الأوروبية إحياءً للتسوية السياسية.

لقد اتضح بعد ذلك من تشتت أصوات الدول الأوروبية في مجلس الأمن (مثلاً التصويت على مشروع قرار عربي يدعو إلى إنهاء الاحتلال الإسرائيلي خلال سنتين، وعلى مشروع قرار آخر بشأن رفع العلم الفلسطيني) أنّ البيانات اللفظية التي تصدرها الحكومات ووزارات الخارجية في أوروبا بخصوص قضية فلسطين وما تتضمنه من المناداة المشروطة بإقامة دولة فلسطينية؛ لا تجد سبيلها إلى الترجمة العملية في ساعة الحقيقة. يغيب الإجماع الأوروبي على تسوية محددة لقضية فلسطين، رغم الشعارات المرفوعة، ولا يترتب على هذا التراخي سوى ارتياح الحكومة الإسرائيلية المتشددة التي تواصل سياساتها لفرض الأمر الواقع بالقوة. صحيح أنّ مزيداً من البرلمانات الأوروبية توصي حكوماتها بالاعتراف بدولة فلسطين، لكنّ الدولة ذاتها ليست قائمة على الأرض، وهي إن نهضت ضمن الشروط المتاحة، فلن تنعم بسيادة حقيقية أو تكونَ قادرةعلى حماية نفسها أو شعبها. والخلاصة التي يمكن استنتاجها: غياب الإرادة السياسية الجامعة في أوروبا لدعم استقلال فلسطين، فضلاً عن إنهاء الاحتلال..مِمّا يعني أنّ أوروبا عاجزة عن القيام بتحرّك حقيقي و/أو أنها لا تريد التحرّك على الحقيقة. 

حالة الهبّات الشعبية العربية مثالاً:

ضغطت بواكير عام 2011 على خطاب السياسات الخارجية الأوروبية. فعندما اندلعت الهبّات الجماهيرية العربية استغرق الأمر أسابيع عدّة، حتى صدرت مواقف أوروبية واضحة تُبدي تعاطفاً مع مطالب الحرية والكرامة والديمقراطية. 

بدأ ما سُمِّي "الربيع العربي" يلقى التكريم في أوروبا بعد أن غادر (ابن علي) تونس في منتصف كانون الثاني/ يناير2011. وبعد أن اهتزّ عرش (مبارك) في مصر؛ حيث تمّ لاحقاً توزيع جوائز وألقاب تكريمية أوروبية على بعض رموز تلك المرحلة، وقيل في معرض النقد الذاتي وقتها؛ إنّ السياسات الخارجية الأوروبية أخطأت بتفضيل "أنظمة حماية المصالح الغربية" على مراعاة معايير الديمقراطية وحقوق الإنسان. 

قبل ذلك بأسابيع كان بعض المسؤولين الأوروبيين يتحدثون بلغة مغايرة، فقد قال وزير الخارجية الإيطالي فرانكو فراتيني بعد سقوط ابن علي: "من الضروري أن ندعم بقوّة حكومات تلك البلدان، من المغرب إلى مصر (في عهد مبارك)، التي يقودها ملوك أو رؤساء دول شيّدوا أنظمة علمانية حَمَت من الأصوليّات". دافع فراتيني وقتها عن العقيد الليبي بقوله: "إنني أستشهد بمثال القذافي الذي حقّق في بلاده إصلاحاً أسماه بالمؤتمرات الشعبية الإقليمية (...) وبالنسبة لي تُعَدّ هذه مؤشرات إيجابية" (صحيفة "كورييري ديلّا سيرا"، 17 يناير 2011). لم يكن هذا تصريحاً نادراً على أي حال، فقد أظهرت الهبّات العربية في شهورها الأولى ارتباكَ أوروبا في التعامل مع الحدث الكبير. حتى أنّ وسائل الإعلام الأوروبية لم تأتِ مثلاً على نعت ابن علي بالطاغية طوال ربع قرن إلاّ لحظة سقوطه. 

لكنّ الحفاوة الأوروبية بهذا "الربيع" لم تَدُم طويلاً، فقد أظهرت سياسة أوروبا الخارجية تراخياً متفاوت الكيفية إزاء موجة الانقلاب على الديمقراطية في الجوار العربي وما تخللتها من انتهاكات جسيمة. وقد تعزّز هذا الفتور بفعل التفسيرات المُضلِّلة أو غير الدقيقة للأحداث التي لقيت رواجاً في وسائل الإعلام الأوروبية وفي أوساط النخب أيضاً؛ فقد ساد القول بأنّ ما يجري هو بمنزلة صراع إيديولوجي أو ثقافي، أو حالة عنف واضطرابات بين مكوِّنات الشعب، وهو تأويل استسلم لرواية المُنقلبين على الديمقراطية وتبنّاها إلى حدٍّ كبير.

في حالة مصر مثلاً؛ تجنّبت أوروبا السياسية "انتقاد" الانقلاب العسكري، بل امتنعت عن تسميته انقلاباً، معربة عن موقفها الرسمي؛ حيث "التطلّع إلى الانتقال السريع إلى حكم مدنيّ ديمقراطيّ يشمل جميع المكوِّنات". أثارت هذه المواقف التباساً كبيراً، لأنها تعني التسليم بخطوة الانقلاب العسكري وعدم الاعتراض الجوهري عليها، فتقرّ ضمناً بالتجاوز الحاصل بحق المؤسّسات والمناصب الشرعية المُنتخبة ديمقراطياً. أمّا أقصى ما طالبت به المواقف الأوروبية آنذاك؛ فلم يتجاوز الإفراج عن الرئيس المصري المُنتخب محمد مرسي؛ دون الحديث عن عودته إلى منصبه الشرعي.

إنّ المفهوم الواقعي لحثّ سلطة عسكرية غير دستورية على إقامة حكم مدنيّ؛ هو أن تُبادر السلطات العسكرية بإعادة إنتاج نظام سلطوي في غلاف ديمقراطي شكلاً.. إنّها في أفضل حالاتها مناداة بالعودة إلى نماذج الحكم التي سادت في جنوب المتوسط قبل التصفيق للربيع العربي.

فظائع رهيبة وقعت بعد سحق التجربة الديمقراطية الغضّة على النيل، كان أبرزها ما جرى في ميدان رابعة العدوية في القاهرة. تقول الفرضية: كان يمكن كبح مذابح "رابعة" بكلمة تحذير أوروبية واحدة، مثل: "لن نسمح!"، لكنّ المسؤولين الأوروبيين أعربوا عن تمنيّات رَخوَة، ولم يطلقوا أيّ تحذير حقيقي من مغبة سفك دماء المعتصمين في ميادين القاهرة، رغم أنّ الوفودَ الأوروبية كانت تُجري اتصالاتها في القاهرة قبيل المذابح، وتقود "وساطات" اللحظة الأخيرة بين "القاتل والقتيل".

 يدرك صانعو السياسة الخارجية أنّ أنظمة الاستبداد تفهم تراخي المجتمع الدولي، بوصفه "ضوءاً أخضرَ"، أُعطي انتهاكاً للحقوق أو رُخصة للقتل. وقد تمّ استيعاب الرسالة وترجمتها في فظائع "رابعة" وما بعدها.

لا ينفي ذلك وفرة الانتقادات التي أطلقتها أوروبا السياسية إزاء بعض الانتهاكات، غير أنها افتقرت إلى الجدية وغابت عنها الإشارات الرادعة، علاوة عن كونها تعقيبات على انتهاكات متفرقة، جرى عزلها عن صميم القضية المتمثلة بصعود الاستبداد العسكري. وفي تبريرهم لذلك قال السياسيون في بعض عواصم أوروبا: إنهم لا يرغبون "بالتدخّل في الشؤون المصرية"، وهو ما يمنح الانطباع بالتهرّب من الالتزام الرسمي الأوروبي دعم الديمقراطية وحقوق الإنسان. فهل الإطاحة بالديمقراطية، واندفاع الدبابات في المدن، وسفك دماء المتظاهرين السلميين، وفرض قيود مشدّدة على الرأي، واقتراف انتهاكات صارخة في مجالات عدّة بما في ذلك قتل المعتقلين؛ يمثّل شأناً داخلياً وحسب؟!.

لا يمكن لأطراف النفوذ الدولي وأوروبا أحدها أن تتهرّب من المسؤولية، توجيهاً وتأثيراً في بعض التطوّرات من حولها والعالم. ومن يستوقفه التعبير الذي أطلقه لوران فابيوس منذ تولِّيه في باريس وزارة الخارجية في ربيع 2011، بأنّ فرنسا تمثِّل "قوّة تأثير"؛ سيُدرك بالتالي أنّ على هذه القوّة مسؤوليّات والتزامات أيضاً؛ لاسيما عندما يتوجّب الاختيار بين الديمقراطية والاستبداد العسكري، أو بين الحرية ونقيضها، أو بين كرامة البشر والتنكيل بهم.

إرث "الدول العظمى" وتبعاته:

صحيح أنّه لا يمكن وضع السياسات الخارجية للديمقراطيات الأوروبية في كفّة واحدة، إلا أنّ من المؤكد أنّ اضطراب المعايير يتجلّى بوضوح أكبر لدى الدول ذات الثقل السياسي الخارجي، وبعضها يحمل إرث "دول عظمى" صاغت تقاليد السياسة الدولية، مقارنةً مع دول لم تضطلع بدور مركزي في المشهد الأممي تبعاً لخصوصياتها الجيوستراتيجية أو منسوب قدراتها أو نمط ثقافتها السياسية.. فلا ينسجم المنطق الذي تحتكم إليه السياسات الخارجية لدول الشمال الاسكندنافية مثلاً مع نظيرتها البريطانية التي تحمل خبرات امبراطورية لم تغب عنها الشمس ولم تزل فاعلاً أساسياً في السياسة الدولية إلى جانب الحضور الفرنسي أو الدور الألماني الصاعد.

ولا يعني ذلك أنّ تناول السياسات الخارجية في "الدول العظمى" السّابقة، يحظى بالعمق فمثلاً "لا تشهد فرنسا اليوم سوى النزر اليسير من التحليل والتأمّل في أحوال العالم والسياسة الخارجية والعلاقات الدولية وهذه مفارقة في زمن العولمة. والمثقفون القادِرون على الاضطلاع بدور مفيد هم الغائبون الكبار عن هذا النقاش، إلاّ إذا استثنينا بعضَ ردود الفعل المحددة. ذلك أنهم ينتمون الى عالم مُنطوٍ على ذاته"، كما يرى وزير الخارجية الفرنسي السابق أوبير فيدرين ("لوموند دبلوماتيك"، كانون الأول/ ديسمبر2000).

ثمّة معضلة ينطوي عليها اضطراب المعايير في السياسات الخارجية، وهي أنّ هذا الاضطراب من شأنه أن يعود بانعكاسات باهظة الكلفة على مصالح الدول الأوروبية، وأمنها القومي، وقد يترك تداعيات ظاهرة للعيان في مشهد السياسة الداخلية ذاته. 

يترافع بعضهم بالقول إنّ السّياسات الخارجية الأوروبية لا تعمل لنشر الديمقراطية؛ وإنما بمنطق المصالح والأمن القومي، وكأنّ الالتزام الأوروبي بدعم الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان لا قيمة له في الاختبارات الصّعبة.. ينبغي التذكير في هذا الصدد بأنّ أنظمة الاستبداد والفساد ضالعة في إنتاج القنابل الاجتماعية والاقتصادية الموقوتة، وهي تعجز عن توفير فرص العمل لملايين الشبان من مواطنيها سنويّاً، كما أنها نزعت الأمل من عيونهم وأوجدت البيئة الحاضنة لثقافة التطرّف والعنف، وسيبقى الغرقى على سواحل أوروبا إشارات ماثلة للعيان عن فقدان الأمل في جنوب المتوسط.

معضلة الأدوات غير المرئية في الفعل الخارجي:

تُدار بعض ملفات السياسة الخارجية بأدوات غير مرئية للجمهور، لاسيّما في نطاق عمل الاستخبارات التي تمثل ذراعاً من أذرع التصرّف المتاحة للدول في فضائها الخارجي. لا تعمل هذه الأجهزة بطبيعتها تحت ضوء الشمس، ولا يكاد المسؤولون الحكوميون أوبالأحرى نواب البرلمان أو أعضاء مجالس الشيوخ واللوردات، يحظون بفرصة الإطلالة الشفافة على عمل تلك الأجهزة التي تخترق الجدران. ولهذا فليس من فراغ سماع تعليقات من قبيل أنّ هذه الأجهزة مصمّمة في حقيقتها للتهرب من الالتزامات التي تفرضها الشعارات والأنظمة والقوانين إن تطلّب الأمر. 

وعلاوة على التكتم والقيود على النشر المتعلقة ببعض المسائل العسكرية والأمنية، فإنّ أجهزة الاستخبارات تلتزم تقديرات استراتيجية غير معلنة مطلقاً، دون ذلك يصعب على سبيل المثال فهم الجهود التي بذلها جهاز الاستخبارات الاتحادي الألماني "بي إن دي" دعماً للقوات الروسية في الشيشان وللقوات الأمريكية في العراق، حتى عندما كان موقف الحكومة الألمانية معارضاً لغزو العراق سنة 2003 ورافضاً للاشتراك بقوات ضمن التحالف الذي قادته الولايات المتحدة وبريطانيا آنذاك. ثمّة فرضيات قابلة للفحص في تفسير مواقف كهذه تبدو للوهلة الأولى متناقضة، لكنّ القراءة الاستراتيجية واضحة مثلاً في عمق العلاقة المترابطة بين الجمهورية الاتحادية والولايات المتحدة، ومفعول نسَق التحالفات الاستراتيجية الغربية، والالتزامات المترتبة على ثقافة حلف شمال الأطلسي "ناتو". أما في الحالة الشيشانية، فإنّ المنظور الاستراتيجي الألماني لروسيا يبقى راسخاً في عدم التهاون مع إمكانية تضعضع استقرار روسيا الاتحادية أو احتمالات تشظِّيها انطلاقاً من شمال القوقاز، بما سيدفع بتأثيرات وانعكاسات سلبية شتى على ألمانيا في المقام الأول، استراتيجياً وأمنياً واقتصادياً. 

تتحرّك أذرع الاستخبارات دون رفع لافتات، وهو ما يُعفيها من التزامات تسويق ممارساتها غير المعلنة أو تبريرها، رغم أنّ الأداء لا ينسجم أحياناً مع الالتزامات المعلنة لدولها في مجال السياسات الخارجية، علاوة على تعارضه مع منطوق السياسات والاتجاهات الملموسة من المواقف الرسمية ظاهراً.

لا يبقى عالم الاستخبارات السرِّي كامناً في الأعماق، بل تطفو بعض تفاصيله المذهلة إلى السطح بجهود الصحافة والتحقيقات، أو تسريبات تدفع بها أيادٍ وأجنحة من داخل الأجهزة، أو اعترافات يُدلي بها بعضهم في مذكّراته بعد التقاعد. لكنّ هذه الكشوف والتسريبات والإعلانات، إمّا أن تأتي متأخرة أو متناثرة بما لا يعين الجمهور العريض على إدراكها في حينها، أو وضعها في نسق متكامل، وهي في أفضل الأحوال قد تستثير انتقادات وموجة غضب من واقعة بعينها لا من مسار السياسات ومنهجياتها؛ فتبقى الاستراتيجيات والتقاليد على حالها دون المساس بها .

ستظلّ فضائح التجسّس الاستخباري الأمريكي على أروقة صناعة القرار الأوروبي، تجسيداً مباشراً لمروق تلك الأجهزة من القوانين والالتزامات والضوابط. ويمكن الافتراض بأنّ ما أثار الحرج لدى صانعي القرار الأوروبي هو مشاعر المهانة التي انتابت شعوبهم إزاء هذا التمادي في انتهاك السيادة، وهو ما دفع المستشارة الألمانية ميركل للإعراب عن امتعاضها الشديد بتصريحات وإيحاءات مقصودة بعد افتضاح التجسُّس الأمريكي على خطوط الهاتف ومقرّ المستشارية؛ أعلى مراتب صنع القرار في الجمهورية الاتحادية.

لكنّ زمن "ويكيليكس" يمثل فرصة غير مسبوقة للشعوب للإطلالة على مسالك السياسات الخارجية وأروقتها الموصدة بعناية. فالوثائق والتقديرات والمراسلات المشفوعة بعبارات، من قبيل: "خاص" و"سرِّي" ونحو ذلك، متحرِّرة من التغليف الذي تضفيه الحكومات وخارجياتها عندما تفصح للجمهور عن سياساتها وأدائها. لا شعارات جميلة في عالم "ويكيليكس"، ولا إشارات إلى مبادئ تتردّد على ألسن المتحدثين الرسميين كالمحفوظات المُستهلَكة. مع ذلك فإنّ ظاهرة "ويكيليكس" لم تتمكن هي الأخرى من الدفع بتصويب منهجي في السياسات الخارجية، ولم تستفزّ مراجعات أخلاقية جادّة، على الأقل حتى الآن.

_____________

د.حســـــام شـــــاكر: خبير في الشؤون الأوربية –النمسا

المبحث الثاني من كتاب: "ازدواجية معايير الغرب والأمم المتحدة تجاه القضايا العربية والإسلامية"

وسوم: العدد 709