كمائن دي ميستورا في "جنيف 4"

من الصفر، ومن دون أية شروط مسبقة، شاركت الهيئة العليا للمفاوضات في "جنيف 4"، كي لا تُتهم، كما حدث في "جنيف 3" أنها تعرقل العملية السياسية. وهكذا انطلقت المفاوضات في ظل رجحان التأثير الروسي الذي طاول التدخل، حتى في إعادة تشكيل وفد المعارضة، والأهم تمرير منطق الفصل بين المسارين السياسي والإنساني، وهو ما لم يعارضه المبعوث الأممي، ستيفان دي ميستورا، بقدر ما سعى بوضوح إلى تجاهل عملية التوازي بين المسارين، الإنساني والسياسي، بدلالة انطلاق مفاوضات "جنيف 4"، في ظل استمرار انتهاك النظام وحلفائه اتفاق وقف إطلاق النار، الذي أبرم في 30 ديسمبر/ كانون الأول 2016، ومواصلة نكث روسيا الوعود التي أطلقتها في مفاوضات "أستانة 1و2" بهذا الشأن. لم يشذ عن الإفشال المتعمد للمسار الإنساني ما يتعلق أيضاً بإجراءات بناء الثقة التي بقيت حبراً على ورق منذ "جنيف 1"، وما جاء في كل القرارات الدولية التي نصت عليها، لكن بدلاً من إعادة الاعتبار لضرورة إيجاد مناخ يشجع على نجاح العملية السياسية، يُحيل دي ميستورا في، وثيقته المقدمة لطرفي التفاوض، البحث في القضايا الإنسانية، إلى مرجعية منفصلة عن "جنيف 4" هي "مرجعية أستانة". بمعنى أشد خطورة، إبقاء رأس الثورة والمعارضة تحت ضغط الواقع الميداني، بكل تداعياته المأساوية المفتوحة، وإغراقها في ملفات العملية السياسية، تحت عنوان يتداخل فيه الفشل التام مع النجاح الكامل، حين تقول وثيقة دي ميستورا: "لن يتم الاتفاق على شيء قبل الاتفاق على كل شيء"، وهي عبارة تحمل الشيء ونقيضه، لأنها تعتبر فشل أي مسار كافياً لقطع الطريق على أي تقدم في المسارات الأخرى، وهي سابقةٌ تخرج عن فلسفة التفاوض التي تقوم على نزع العوائق، وتجاوز الكمائن أمام إمكانات تقدم العملية التفاوضية.

ما يُفهم منه، استخلاصاً، إما الانصياع لما تفرضه موازين القوى على الأرض، وتأطيرها في تفسيراتٍ تخرج عن محدّدات القرار 2254، أو التلويح بالوصول إلى حائط مسدود، في حال إصرار وفد المعارضة على التمسك بمسائل موضوعية أساسية، من أهمها التزامن بين المسارين، الإنساني والسياسي، ووحدة المرجعية التفاوضية، وجدول زمني مؤكّد نحو تحقيق عملية الانتقال السياسي، كما ورد في الفقرة ب المادة 7 من القرار 2118، إذ تحمل وثيقة دي ميستورا بدلاً من تحديد وتوضيح تلك المسائل بما يتسق مع "بيان جنيف1" تحملُ، في بنودها المقترحة، رؤية تتسم بكثير من المراوغة والتضليل، لأنها، من جهة أولى، تتحدّث عن فصل المسارين، الإنساني والسياسي، وإحالة كل منهما إلى مرجعيةٍ تفاوضيةٍ، لا وضوح في آليات (وإجراءات) الربط بينهما. ومن جهة ثانية، تمييع تمثيل وفد المعارضة بهدف تشتيت التمثيل، وصولاً إلى وفد موحد غير متجانس، وقابل للانقسام والتفكك من داخله في كل لحظةٍ يكون ذلك غُبّ الطلب. ومن جهة ثالثة، القفز عن الفترة التي حددها القرار 2254، لجهة "إقامة حكم ذي مصداقية، يشمل الجميع، ولا يقوم على الطائفية في غضون فترة مستهدفة مدتها ستة أشهر"، وفق ما جاء في القرار المشار إليه. حيث تتحدث الوثيقة عن أسابيع للتفاوض، وربما أشهر.. وتضعنا أمام سلّات ثلاث: الحكم والدستور والانتخابات، ثم أضيفت سلة رابعة، تتعلق بمكافحة الإرهاب. ليس من السهل التنبؤ بما تضمره من تباين حاد، بين رؤية وفد النظام لأولويتها وانتقائية تطبيقها، ورؤية وفد المعارضة ضرورة تطبيقها بصورة متزامنةٍ مع المسارات الأخرى، وشمولها كل مليشيات إيران المنتشرة بكثافة في سورية. يُضاعف من حدة التباين حولها أيضاً، جموح المقاربة الدولية الراهنة للإرهاب، لا سيما مع الادارة الأميركية الجديدة، لفرض معايير استنسابية حول الإرهاب، تقطع مع مصادره وأسبابه الحقيقية، ولا ترى ضيراً أن يكون النظام الذي بذرت جرائمه المروّعة، التربة الخصبة أمام انتشار قوى التطرّف، هو الشريك المقترح لمحاربة القوى الإرهابية. جرياً على هذا التوليف البعيد عن متطلبات الإنصاف، يتم زج السلل الثلاث الأخرى في لعبةٍ تتيح التناظر فيما بينها، حين يستعصي التوافق على جدولة كلٍ منها حسب الأولوية، إذ يُخشى أن يؤدي الفشل في التوافق على صيغة الحكم الانتقالي، إلى الضغط على المعارضة، لإصدار إعلان ما فوق دستوري، علماً أنه لا يستوي، في المنطق القانوني، البحث في صياغة دستور وإجراء انتخابات، من دون الاتفاق أولاً على الهيئة الحاكمة الانتقالية التي من جوهر مهامها الدعوة إلى عقد مؤتمر وطني، أو جمعية تأسيسية تضع الدستور، والذي يحدّد النظام الانتخابي الجديد. كان هناك من يريد بخصوص الدستور، أن يضع العربة أمام الحصان منذ "أستانة1"، وكان مشروع الدستور الذي اقترحه الروس على وفد الفصائل العسكرية، وقتذاك، من ضمن تلك المحاولة التي تضمر تدخلاً سافراً في شأنٍ وطنيٍّ سيادي، لا يحق لأي دولةٍ أن تتدخل فيه. ولذلك كان التصريح الصادر عن وفد المعارضة في جنيف بقبولها اعتماد دستور 1950 رسالةً خاطئةً، لأنها تعطي انطباعا باستعداد المعارضة تجاوز التسلسل المنطقي في مراحل العملية السياسية، من الناحيتين، الموضوعية والزمنية. 

لعلّ معرفة دي ميستورا الذي يفضّل تسميته بميسّر أو مسّهل، بأوجه الالتباس بين صيغة هيئة الحكم الانتقالية في (بيان جنيف وقرار مجلس الأمن 2118) وصيغتها في القرار 2254 التي تتحدث عن حكم غير طائفي، من دون تعيين هوية الجسم الذي ستتشكل منه ووظيفته، فيما إذا كان كامل الصلاحيات التنفيذية، أو حكومة وحدة وطنية تكرس مشاركة النظام، وليس إطاحته. ما يمنح الدول المتمسكة ببقاء الأسد وتلك التي تضع أولوية مواجهة الإرهاب على إسقاط نظامه، هامشاً واسعاً للمناورة، وشراء الوقت الكافي لجدولة عملية الانتقال السياسي، وفق التسويات النهائية للاعبين الأساسيين في الساحة السورية، وليس وفق موجبات المرجعية القانونية الدولية التي قامت عليها محطات العملية التفاوضية. لذا لم يعد خافياً أن دور دي ميستورا "منسقا" بين مواقف تلك الدول ومصالحها، أدق من أي تسمية أخرى له. 

لا يغير من هذا المشهد كثيراً، اعتقاد بعضهم، حتى في أوساط المعارضة، أن قبول وفد النظام مناقشة بند الانتقال السياسي قرينةً على تقدم في العملية السياسية، طالما أن مفهوم النظام لهذا الانتقال لا يندرج ضمنه تغيير القيادة بأي حال، كما صرح فيصل المقداد علناً في بداية الجولة التفاوضية، وختم بشار الجعفري في نهايتها، حين أكد أن لسلة الإرهاب الأولوية عند النظام. 

تفرض تلك الحقائق على وفد الهيئة العليا للمفاوضات، باعتباره الأكثر تمسكاً بتطبيق "بيان جنيف 1"، وتحقيق الانتقال السياسي المنشود، العمل وفق الآتي:

أولاً: رفض أية محاولة يتم فيها استدخال قضايا الدستور والانتخابات، قبل البت بتشكيل هيئة حكم انتقالية كاملة الصلاحيات التنفيذية، مع تثبيت جدول زمني للمفاوضات حولها. وضبط توجهات ممثلي المنصات المحتمل خرق بعضهم هذا الموقف الجذري، بوضع آلية لاتخاذ قرارات وفد المعارضة، تنص صراحةً على التزام الجميع بذلك الموقف، في كل الظروف، وعلى امتداد العملية التفاوضية المتعلقة بهيئة الحكم الانتقالي. 

ثانياً: بما أن ممثلي الفصائل العسكرية ضمن وفد الهيئة العليا للمفاوضات، التشاور والتوافق معهم على رفض الفصل بين مساري أستانة وجنيف 4، من خلال مطالبة ممثليهم عدم المشاركة في مفاوضات أستانة 3، المزمع عقدها في 14 مارس/ آذار الجاري، بدعوى أن النظام وحلفاءه لم يتقيدوا باتفاقية 30 ديسمبر/ كانون الأول 2016 من جوانبها كافة. وكي لا تتحول مشاركة وفد الفصائل العسكرية إلى غطاء لاستمرار انتهاك وقف إطلاق النار، والانتهاكات المشهودة التي تطاول المدنيين. والمطالبة تالياً بإحالة كل المسائل الإنسانية إلى مفاوضات "جنيف 4" لاستعادة عملية التزامن بين المسارين، السياسي والإنساني، وفق رؤية تفاوضية وعملياتية شاملة وموحدة.

ثالثاً: التمييز بين دور روسيا المؤثر في سورية، وكيفية التعامل مع حقائقه، وبين حدود التعويل على مصداقيتها، لا سيما أن حق النقض (الفيتو) الذي استخدمته، أخيرا، لمنع صدور قرار يعاقب مؤسسات النظام وأفراده، يشير مجدداً إلى تمسكها بالسياسة ذاتها الداعمة لبقاء النظام وعدم إضعافه، ما يوجب على وفد المعارضة الحذر في التعامل مع وعودها ورسائلها، سواء المعروضة من فوق الطاولة أو تحتها. يحتم ذلك الكف عن التصريحات التي أطلقها بعضهم "عن دور روسيا في الضغط على النظام أثمر قبوله مناقشة الحكم الانتقالي"، لأن مثل تلك التصريحات المجانية تُشيع تفاؤلاً ليس في مكانه، وتُجمّل الموقف الروسي الذي لم يتراجع عن دعم النظام، في ميادين القتال وضد المدنيين، وفي التغطية على جرائمه في مجلس الأمن. 

أخيراً، في قضية عادلةٍ، بحجم ثورة الشعب السوري، ليست موازين القوى العسكرية على الأرض هي الورقة التفاوضية الحاسمة في ميزان التفاوض، فلدى وفد المعارضة أوراق قوة كثيرة، من أهمها إرادة شعب عظيم رفض الاستسلام طوال السنوات الماضية، وتحمل ما لا طاقة للجبال على احتماله، لكي يؤكد للعالم أجمع أنه جدير بالحياة والحرية، وأن على من يفاوضون باسمه أن يتمسكوا بهذه الورقة، مهما واجهوا من الضغوط والصعوبات والتحديات.

وسوم: العدد 711