الثورة على الأزهر لعب بالنار

من أرض الكنانة خرجت هاجر فأنجبت إسماعيل أبا العرب.. ومنها خرجت مارية فأنجبت إبراهيم لِسيّد البشر.. وإليها عادت الوصية النبوية (إذا افتتحتم مصر فاستوصوا بالقبط خيرا فإن لهم ذمة ورحما).

وعبْر مئات السنين كانت الوصية محفوظة، وعاش المسلم والمسيحي شركاء الوطن المصري، ينعم الجميع بسماحة وعدل الإسلام.

بيْد أن بعض مَن حادوا عن النهج القويم، أرادوا نيْل الفردوس بإراقة الدماء المعصومة، ووضعوا الإسلام في مرمى التهم وهو منهم براء، وإنها لجريمةٌ بشعة بكل المقاييس، ولا أظن مسلما في مصر يعرف حقيقة الإسلام، إلا وقد استنكر هذه الجريمة.

تداعيات حادث استهداف كنيستين مصريتين بالتفجير، كثيرة ومتداخلة لا تنفكّ عن الواقع السياسي والأمني في مصر، كان أبرز ما أثار اهتمامي منها: تلك الحملة المحمومة على الأزهر الشريف، وتحميل تلك المؤسسة الدينية العريقة مسؤولية الإرهاب والتطرف، والضغط عليه بتلك الورقة ليتماهى مع الوجهة السياسية لتطوير الخطاب الديني.

تولى كِبَر هذه الحملة إعلاميون وسياسيون، وشخصيات محسوبة على الفكر الإسلامي، منهم من تطاول على شيخ الأزهر متسائلا عما بذل من أجل القضاء على التطرف، ومنهم من طالب بتغيير المناهج الدراسية الأزهرية، بدعوى أنها تنتج الفكر الداعشي، ومنهم من نادى بضرورة أن يتخطى الأزهر مسائل الإجماع في إطار تجديد الخطاب الديني.

لا ريب أن اتهام الأزهر بإنتاج الأفكار المتطرفة، أمر يثير السخرية، ذلك لأنه لا يتفق مع نظرة من يحملون الفكر التكفيري المتطرف تجاه الأزهر، إذ أنهم يُكفِّرون القائمين على تلك المؤسسة الرسمية، ويسمونهم علماء السلطان، ويرون فيهم الوجه الجماهيري للسلطة، والمعبر عن آرائها باسم الدين.

قبل العمليات الإرهابية التي طالت الكنيستين، كانت هناك رغبة رسمية مؤكَّدة لأن يتولى الأزهر مهمة تجديد الخطاب الديني وفق الرؤية السياسية، إلا أن شيخ الأزهر وكبار العلماء، يرون أن الخطاب الديني للمؤسسة ومناهجها الدراسية لا تحتمل اللعب فيها، لأنها تعبر بالفعل عن وسطية الإسلام، وبعيدة كل البعد عن التكريس للتطرف الفكري. وكل من يتابع الشأن المصري يدرك أن هناك نزاعا صامتا بين الأزهر والسلطة على خلفية قضية تجديد الخطاب الديني، ظهرت أماراتها في الفتوى التي أصدرها كبار العلماء بصحة الطلاق الشفهي، بخلاف الرغبة السياسية في منْعه التي أيدها البرلمان.

كما ظهرت في الصراع بين الأزهر ووزارة الأوقاف (الموالية للسلطة) حول إقرار الخطبة الموحدة، واستطاع الأزهر أن يفرض رأيه بإطلاق الحريات لخطباء المنابر في إعداد الخطب مع ما يتفق والخطاب الديني المعتدل. وكان منها رفض شيخ الأزهر تكفير تنظيم «داعش» على شدّة ضلاله، والحقيقة أن شيخ الأزهر مِن أشد المحاربين للفكر الداعشي، إلا أنه التزم في حكمه عليهم بالأُطر الشرعية، استنادا إلى أن هؤلاء من الخوارج الفاسقين عن شرع الله، الذين واجههم الإمام علي، إلا أنه لم يحكم عليهم بالكفر، فلم يكن رأي شيخ الأزهر بِدعا من القول.وتم بالفعل استثمار العمليات الإرهابية الأخيرة ضد الكنائس، في الضغط على شيخ الأزهر لخفض الجناح في هذه القضية والانصياع وراء الرؤية السياسية، والثورة على النصوص.

لقد كان الأزهر ولا يزال، مُعبّرا في خطابه ومناهجه عن وسطية الإسلام، وأضاف علماؤه ودعاته الكثير للأمة، ما جعله جامعة إسلامية كبيرة، يفد إليها الطلاب والدارسون من كل بقعة، وما من دولة إسلامية إلا وتجد للأزهر بصمة في واقعها. وقد حافظ عبر جهوده المستمرة على الهوية المصرية، وعلى حفظ النظام والأمن وروح التسامح في المجتمع المصري، وإبّان الفترة التي قضيتها في مصر، عاينتُ آثار تلك الجهود التي بذلها الأزهر، ورأيت بوضوح سمة التسامح بين مسلمي مصري ومسيحييها، ولم تكن النزاعات – التي تنشب أحيانا – تحمل روح العداء الديني، وإنما لا تتجاوز في شكلها تلك النزاعات التي يكون طرفاها من ديانة واحدة، فالتسامح الديني إذن في الشعب المصري كان غرسا غرسه الأزهر عبر مئات السنين باعتباره المرجعية العلمية.

الأزهر الذي يُمثّل قوة مصر الناعمة التي تستند إليها في الخارج، وأثّرت عن طريقها في دول العالم الإسلامي قاطبة، يتم تحميله اليوم مسؤولية ما فشلت فيه الأجهزة الأمنية، وتسارعت وتيرة المطالبة بإخضاعه بالكامل للمنظومة السياسية، بما يعني فقْد استقلاليته بالكامل، أو إسقاطه بمعنى أدق.

الثورة على الأزهر إنما هي لعب بالنار، لأن هذه المؤسسة العريقة قدّمت أقصى ما يمكنها من الخطاب المعتدل، الذي وصفه الكثيرون بالبراغماتية، وأي تغيير في مواقفها سيعني الخوض في القطعيات والثوابت، أما الفروع والمناطق الخضراء التي يمكن النظر فيها والتحرك بأريحية في مساحتها، فقد تعمّق فيها الأزهر بالفعل وفق ما تسمح به قواعد الشريعة، وحتى في الاختيارات الفقهية، فهو يتبنى أكثر الآراء الفقهية اعتدالا وتيسيرا على الناس، ويراعي في فتاواه واقعهم.

الثورة على الأزهر تعني أن يبقى الشعب المصري بلا مرجعية علمية، وذلك سيترتب عليه ترك هذا الشعب لتنازع الأهواء والاجتهادات الفردية، ومن ثم سيُطلق عنان الإرهاب والتطرف. ليس هناك اعتراض على تجديد الخطاب الديني في الأمة بأسرها، إذا ما تمثل في تجديد الشكل والطرح وطريقة العرض، لا تغيير المضمون والجوهر، وتلك هي القضية التي يجادل حولها الأزهر، ويكفي أن يعرف القارئ لكي يفهم ما يراد من التجديد، أن الكاتب فهمي هويدي تناول على صفحات «الأهرام» المصرية عام 2003 إعلان باريس حول سبل تجديد الخطاب الديني، مبديا دهشته تجاه المشاركين في اللقاء، حيث كان منهم من ألقى محاضرة في جامعة برلين الحرة بألمانيا، وشكك فيها أن الوحي مصدر القرآن.

كان الأولى أن يتم دعم الأزهر الذي يُمثل وسطية الإسلام في حربه على الإرهاب، لا اعتباره جزءًا من ذلك الإرهاب، والفكر لا يواجه إلا بالفكر، والظلامية لا تواجه إلا بالتنوير الصحيح.

ورغم اختلافي مع الأزهر الذي أبديته في أعمالي السابقة، حيث أنتجت فيلما ينتقد انحيازه للسلطة منذ عام 1952، إلا أنه لا يسعني – كمسلمة سخرت قلمها للدفاع عن قضايا الأمة، وتدين بالولاء والحب للشعب المصري – إلا التنبيه على تلك الحملة الشرسة التي يواجهها الأزهر كمرجعية علمية للمصريين، وهو أمر يمثل خطورة بالغة تقتضي التغافل عن مواطن الخلاف.

وسوم: العدد 716