لا خوف على تركيا الجديدة

في كل مرة تقدّم تركيا دروساً عملية للعالم في فنون الديمقراطية وإرادة الشعوب، وهذا بلا شك صار يزعج أطرافاً كثيرة وعلى رأسها أولئك الذين يُنصّبون أنفسهم رسل الديمقراطية إلى البشرية.

كان من المفروض أن الغرب يحتفي بنجاح تجربة ديمقراطية في العالم الإسلامي، والتي هي دائماً في نظره مجرد دول تصنع الاستبداد وترسخ للمستبدين، وأنها لو حاولت خوض تجارب ديمقراطية فستكون مزيفة بل في أكثر الأحوال ديكتاتورية بقناع ديمقراطي مشبوه، مثلما يجري في عدد من الدول العربية التي تدّعي أنها جمهورية وممارساتها غير ذلك بكثير.

إن الغرب الليبرالي ينادي بالديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات العامة في العالم الإسلامي، لكن إن نجحت أيّ تجربة فهو أول من يتواطأ ضدها ويعمل على تخريبها سواء بدعم انقلابات عسكرية أو بثورات مضادة ناعمة أو بالضغط الدبلوماسي، وهذا ليس بكلام للاستهلاك بل هناك تجارب ماثلة أمامنا ولا زالت الشعوب تعيش تداعياتها الدامية والحامية.

السؤال الذي سيتبادر للذهن مباشرة:

لماذا الغرب الديمقراطي لا يريد نجاح الديمقراطية في العالم الإسلامي؟

بلا أدنى شكّ أن الأسباب كثيرة جدا ومتراكمة ولا يمكن أن نحتويها في مقال عابر، لكن ملخصها من خلال تجارب حدثت أن نجاح الديمقراطية عند العرب والمسلمين دائماً تفضي إلى نجاح ما يسمون بـ "الإسلاميين" وأن الشعوب الإسلامية لما تقرّر مصيرها وفق آليات ديمقراطية حقيقية وغير مزيفة، سيتم اختيار من ينادون بالحفاظ على الهوية الإسلامية ويعملون على ترسيخها في أنظمة الحكم.

طبعاً أن هذا الأمر سيؤدي إلى التطور من خلال إرساء دعائم الاستقرار والأمن الذي يحافظ على سيادة الدول مما يفقد الغربيين الكثير من مصالحهم، وخاصة مافيا السلاح ومافيا الدواء ومافيا النفط وغيره والتي تستغل الصراعات على السلطة والحروب الأهلية في العالم الإسلامي للربح السريع ونهب الثروات وتجريب العتاد والمعدات..

كل التجارب الديمقراطية في العالم العربي يجري النجاح في إجهاضها سواء من الداخل أو الخارج كما سبق وذكرنا، لكن توجد في العالم الإسلامي تجربة تركيا التي ظلت رائدة ومستعصية على اختراقها رغم كل الأعاصير الداخلية والخارجية التي واجهتها ومازالت تواجهها، وطبعا هذا يعود إلى وعي الأتراك شعباً وحكومة أولا وقبل كل شيء.

لقد أفشل الأتراك محاولة انقلابية في 15 يوليو/تموز 2016 وهي سابقة في العالم الإسلامي أن يقف الشعب في وجه دبابات ويفضل سحق عظامه بدل تحطيم المكاسب الديمقراطية التي بلغت درجة أشاد بها المنصفون منذ وصول حزب العدالة والتنمية لسدة الحكم.

المعطيات المتوفرة أكّدت أن أطرافاً خارجية من بينها دول غربية تورّطت في تلك المحاولة الانقلابية الفاشلة ضد الرئيس رجب طيب أردوغان الذي لا يشكّ أحد في وصوله للحكم بديمقراطية ناضجة وصافية لا تشوبها شائبة.

الدرس الأخير الذي قدّمته تركيا للعالم يتمثّل في استفتاء التعديل الدستوري، الذي أثار ضجّة وحرّك ما تبقى من المياه الراكدة، حتى أن الغرب مارس الكثير من الضغوطات الدبلوماسية والإعلامية من أجل إجهاض هذه التحوّل الكبير والمنعطف الحاسم للدولة التركية التي كانت تشكل نموذجاً لعلمانية متوحشة ترعاها المؤسسة العسكرية وتدعّمها حكومات لا يمكن أن تقبل بثمنها في دولها.

لقد حاول الكثيرون الطعن في النظام الرئاسي الذي ذهب إليه أردوغان رغم أنه نظام تحكم به ما يقارب أربعين دولة في العالم بينها ثلاث دول تتمتع بحق النقض "الفيتو" في مجلس الأمن وهي الولايات المتحدة الأمريكية والصين وفرنسا.

 ادعى آخرون أن الرئيس التركي يريد أن يصبح ديكتاتورا من خلال الصلاحيات الجديدة، رغم أن الديكتاتورية تأتي عبر الانقلابات العسكرية وليس صناديق الاقتراع، كما أن الدستور الجديد يمنحه الحكم لعهدتين فقط، ويحق للبرلمان محاسبته، والنظام المقترح لا يختلف عن أنظمة رئاسية في دول العالم ذات الحكم الرئاسي إلا في نقاط محدودة فيما يخصّ تعيين الوزراء ونواب الرئيس دون حاجة لموافقة البرلمان ومن حقه تعيين 4 من اللجنة العليا للقضاة التي يبلغ عدد أعضائها 11 في حين يُعيّن البرلمان بقية الأعضاء.

بل ذهب آخرون وبخلفية ايديولوجية سابقة وواضحة إلى اتهام أردوغان بأنه سينصّب نفسه سلطاناً عثمانياً على المنطقة، رغم أن الفكرة التوسعية لا وجود لها في الذهنية الرسمية في تركيا، وكل ما في الأمر أن العهد الجديد يريد أن يتحرّر من تبعات الحكم البرلماني الذي طالما زعزع الاستقرار وعطّل وتيرة التنمية بسبب صراعات حزبية وتكتلات مختلفة.

المؤلم أن المناوئين للرئيس التركي في العالم العربي راحوا يعزفون على وتر نسبة التأييد للتعديلات الدستورية، ويزعمون أن حوالي 52% غير كافية لإدخال تركيا في عهد جديد، وهذا غير صحيح تماماً بل أن ذلك يعدّ من قيم الديمقراطية العريقة ودليل قاطع على شفافية الاستفتاء.

إن المخيال العربي تعوّد على استفتاءات الأنظمة الحاكمة التي تأتي نتائجها من طينة التسعات الأربع (99.99%) وأحيانا ثلاث تسعات ومعها رقم آخر، وهذه نتيجة تحدّد في أقبية الأجهزة الأمنية وليس عبر صناديق الاقتراع التي تظل مناسبات شكلية لنهب المال العام في أغلبها، في حين أن الديمقراطيات الناضجة تجد فيها مثل هذه النسب ويكفي أن أمريكا في حدّ ذاتها فاز بعض رؤسائها ومنهم جورج بوش الابن بفارق 1% على منافسه جون كيري في 2004، ولا أحد هناك طعن وشكّك فيها، بل أكمل الرئيس عهدته الانتخابية بصفة عادية وجاء بعده أوباما ثم ترامب وبصلاحيات رئاسية يتمتع بها لو نظرنا إليها بمنظار الذين ينتقدون استفتاء تركيا لأصبحت أمريكا وحتى فرنسا والصين دول ديكتاتورية أيضا.

أمر آخر أنه يوجد من أتباع حزب العدالة والتنمية الحاكم من صوّت برفض التعديلات سواء لقناعات مضادة أو أنهم يرون ذلك ليس من أولوياتهم في المرحلة الراهنة.

 كما توجد نسبة كبيرة من الرافضين للتعديلات، نجح الإعلام المضاد والمواقف العدائية من أوروبا خاصة في تخويف هذه الشريحة من العهد الجديد، وطبعا هذه النسبة سينخرط الكثير منها في المسار الديمقراطي، لما يجدوا ما يعيد لهم الطمأنينة ويزيل من قلوبهم غشاوة الخوف.

إن التعديلات الدستورية في تركيا نجحت ودخلت البلاد في عهد جديد، وحتماً سيواجه أردوغان تحدّيات كبرى في الداخل والخارج، لكن تجربة الحكم على مدار سنوات طويلة نجح فيها حزب العدالة والتنمية في بناء الدولة التركية ستكون رصيده المساعد في تذليل هذه الصعاب.

لا يجب أن ننظر إلى الدستور التركي الجديد على أنه جاء على مقاس أردوغان كما يتوهّم البعض، بل أيضا على مقاس من سيخلفه في الحكم سواء كان من حزب العدالة والتنمية أو من حزب آخر، وبذلك سنجد أن تركيا تحررت بالفعل من مشاكل كثيرة كانت ستواجهها خاصة ما بعد 2023 والتي ستكون منعطفا مهما جدا في مسار بناء قوة إسلامية في العالم، تحتاج لنظام قوي معافى بدنه من العراقيل الإدارية والمشاكل الإيديولوجية التي طالما نخرت كيان الحكم في تركيا وغيرها.