فوائض الصبر وخزانات الغضب!

من المفارقات أن السادة الناصريين وأشباههم من اليساريين إلا قليلا يصرون على العيش في حياة فصامية بائسة وتناقض مريع بين تأييدهم للانقلاب العسكري الدموي الفاشي، وصراخهم الذي يبدو مفتعلا من سوء الأحوال التي يعيشها المصريون في ظل الانقلاب والديكتاتورية والاستبداد وجمهورية الرعب ودولة الخوف.

في نموذجين صارخين نجد هذا التناقض الفج والفصام القبيح، الأول للدكتور محمد أبو الغار الطبيب المعروف، والآخر للصحفي عبد الحليم قنديل وكلاهما ينتسب إلى ما كان يسمى جبهة الإنقاذ التي كان يقودها الدكتور محمد البرادعي. الرجلان أيّدا العسكر، ورفضا الديمقراطية كراهية في الإسلام والحركة الإسلامية، ووقعا على بياض للجنرال الدكر، وردّدا الأكاذيب التي صنعها الهالك محمد حسنين هيكل ابتداء من مقولة الشعب الذي لم يجد من يحنو عليه أو يرفق به، حتى مقولة الزعيم الضرورة! فهيكل عرّاب الانقلاب- كما تردّد- هو الذي وضع بمنزله في يوم 27 فبراير  2013 عندما التقي بالجنرال على مدى خمس ساعات ترتيبات الانقلاب:  الحملات الاعلامية الوحشية لتشويه الرئيس مرسى، وترويج الأكاذيب والاشاعات ضده، وتحريك المرتزقة بإغداق الأموال الحرام لتكوين حركات مثل تمرد وغيرها .. وليكون الخروج بعدها بالآلاف في الشوارع والميادين تحت رعاية الجيش والشرطة والكنيسة، وخطف الرئيس المنتخب، وشطب ثورة الشعب..

يستدعي أبو الغار قصة إخناتون الفرعون الذي دعا إلى التوحيد، وبناء عاصمة أخرى  في تل العمارنة (غير العاصمة القديمة طيبة) ويتهمه بالسفه في إنفاق الأموال ليقارنه بالجنرال الذي بني عاصمة إدارية جديدة دون استشارة المصريين أو الفنيين أو أهل الاقتصاد. الاستدعاء غير موفق لأسباب كثيرة، لأن إخناتون كانوا يدعو إلى عبادة الله الواحد الأحد وليس آمون والكهنة. وإني أدعو أبا الغار ليقرأ رواية نجيب محفوظ التي عنوانها " العائش في الحقيقة " لعله يفهم طبيعة إخناتون، وليرى أن الدولة العميقة انتقمت منه لحساب الكهنة واللصوص الكبار، وهم الذين يكرهون التوحيد ويكرهون الحقيقة مثل بعض اليساريين المصريين الذين لا يؤمنون إلا بالمادة الخشنة، ولا يفقهون إلا الولاء للدبابة والمدفع والرصاصة. 

على كل حال يخبرنا أبو الغار أنه في عصر الجنرال لم يدرس أحد ما هي الأولويات في المشروعات الكبرى، ومن غير المعقول أن المشروعات الكبرى كلها غير مدروسة اقتصادياً، وبدون حوار مجتمعي، مع أنه القائل: إننا دولة فقيرة جداً جداً، والدولة الفقيرة جداً جداً يجب أن تدرس جيداً أين تستثمر الأموال القليلة جداً، وتفكر جيداً في أي قرض خارجي أو داخلي للتأكد من أن عائد المشروع المستثمر فيه القرض سوف يغطى قيمته وفوائده. وبهذه المناسبة أذكّر أبا الغار بأنه في  أواخر مارس عام 2013 تردّد كلام عن اعتزام حكومة الدكتور هشام قنديل اقتراض أربعة  مليارات دولار من صندوق النقد، فانتفض اليسار وجبهة الإنقاذ وأصحاب اللحى الخائنة، وتظاهروا مهدّدين الرئيس الأسير محمد مرسى رفضا للقرض ونتائجه، ولكنهم خرسوا عندما وقع الجنرال اتفاقا باقتراض اثني عشر مليار دولار، صحبه زلزال التعويم الذي قلب حياة المصريين وجعل الجنيه لا يشتري بصلة واحدة!

ينقل أبو الغار رأي خبير التخطيط العالمي، دافيد سيمز وفحواه أن القاهرة محاطة بثماني مدن جديدة، بها أخطاء في التخطيط والعلاقة مع القاهرة، ويعتقد أن الخطأ نفسه يُرتكب في العاصمة الإدارية، فالمدينة قريبة جداً من الأحياء الجديدة في شرق القاهرة، وهذا مخالف تماماً لقواعد بناء العواصم الجديدة. وينتهي أبو الغار إلى أن مصر لن تستطيع تسديد الديون، وأن الأحوال الاقتصادية السيئة للفقراء والطبقة الوسطى في مصر سببها الأساس هو القرارات الاقتصادية العشوائية غير المدروسة.

أما عبد الحليم قنديل فقد كان لا يكفّ عن سبّ الرئيس الأسير محمد مرسي والتطاول عليه، مطمئنا إلى أنه لن يؤذيه ولن يكمم فمه، مهما بلغت الوقاحة والسفالة وقلة الأدب التي تشهد عليها الجريدة التي يعمل فيها، وهو الآن يتكلم بأدب جم ولغة مهذبة جدا عن غضب المصريين المكتوم، فيتكلم عن العدالة المفقودة وتوحش الظلم الاجتماعي الذي صيّر الغالبية الساحقة من المصريين تحت خط الفقر المدقع والنسبي، وجعل الطبقات الوسطى تنزلق بسرعة مجنونة إلى قاع البؤس، أمام طبقة الواحد بالمائة التي تحتكر نصف إجمالي الثروة العامة بالتمام والكمال.

ويبدي عبد الحليم قنديل في لغته المؤدبة المهذبة عدم تصديقه لما يقال عن انفراج   المحنة، وتحسن أحوال الاقتصاد المأزوم، وعودة سعر صرف الدولار  إلى معدلات السوق السوداء قبل قرار التعويم، واجتذاب البنوك مليارات الدولارات، وزيادة احتياطي النقد الأجنبي لدى البنك المركزي، وقدرة البلد على سداد أقساط الديون الخارجية وفوائدها المتزايدة بصورة فلكية، وابتعاد اقتصاد الحكومة عن شفا الإفلاس كما يقول، فعجز الموازنة يتفاقم ويتضاعف باطراد، مع أن إجراءات خفض الدعم  ألهبت ظهور الفقراء والطبقات الوسطى، وجعلت بطولة البقاء على قيد الحياة مستحيلة أكثر فأكثر، وأحرقت غالبية الناس في أفران الغلاء، والجنيه المصري أصبح لا يساوي «بصلة» بالمعنى الحرفي، والذين يعملون تجمدت أجورهم، ونزلت قيمتها السوقية إلى النصف، ولا تلوح انفراجة في الأفق المرئي، وهو ما يؤدي إلى احتقان اجتماعي متصاعد، تفيض به خزانات الغضب في نفوس الناس، وتنكمش معه فوائض الصبر، الذي تحسبه الحكومة صمت الرضا بأقدار التعاسة.

الأخ عبد الحليم يتحسس كلماته مع الجنرال، وينسى لغته القديمة مع الرئيس الأسير؛ الذي سمح لطوب الأرض أن يقول ما يريد، ويعبر عما شاء، وينشر من الكراهية ما يحب. عبد الحليم الناصري تلميذ هيكل عرّاب الانقلاب العسكري، يتحدث عن مزاج الجنرال الذي يؤثر بشدة في سياسة الدولة، ويجعله فاقد الثقة في الجهاز الإداري والحكومة على رأسه، ويستريح إلى ما يسميه حكومة الجيش والاعتماد على هيئاتها والمجموعة العسكرية التي تدير وتنفذ مشروعات في إدارة الانجازات ومشروعات البنية الأساسية الكبرى، وبأولويات يحددها بنفسه، والأهم من ذلك السياسات، والجنرال هو المسؤول عنها قطعا وحصرا، وبغير شريك يعتد به، مما يجعل تغيير الحكومة أو تعديلها لا يعني شيئا للناس سوى سطور عابرة في نشرات الأخبار!

أين الحرية ؟ أين الديمقراطية؟ أين السياسة ؟ لماذا أهنتم الرئيس المسلم المنتخب أيها الناصريون واليساريون ورجال كل العصور؟ لماذا أيّدتم قتل المصريين وذبحهم وتصفيتهم واعتقالهم ومطاردتهم ومصادرة أموالهم وإغلاق وسائطهم ومستشفياتهم ومدارسهم والتشهير بهم؟ لو كان ما تقولونه بلغة ناعمة نوعا من وخز الضمير فالناس ترحب به وتتمني أن تستيقظ ضمائركم لينتقل الوطن إلى مربع الحرية والأمان وتوديع جمهورية الرعب ودولة الخوف.. لعل الله يغفر لكم والشعب يسامحكم!

الله مولانا. اللهم فرّج كرْب المظلومين. اللهم عليك بالظّالمين وأعوانهم!  

وسوم: العدد 718