يجب أن يكون للعرب مفهومهم الخاص للإرهاب

هل يقاتلُ العربُ عدوّهم الحقيقي أم أنهم يقاتلون في حروب ليست حروبهم ؟ بعبارة أخرى هل هناك دولٌ تقمّصت أدوار "المرتزقة"، وراحت تقاتلُ بالنيابة عن الدول الكبرى ؟ مع فرق جوهري أنّ المرتزقَ العاديّ يقاتلُ من أجل الحصول على المال الذي لا يمكنه الحصول عليه من وظيفة أخرى؛ لعدة أسبابٍ منها :

-أن مهمته محفوفة بالأخطار الجسيمة، وأن قتاله سيكون خروجاً على قواعد الاشتباك التي تجيزها القوانين الدولية في حال نشوب نزاعات مسلحة بين جيوش نظامية، أي أنه يقتل باسم القتال، وتتسع دائرة القتال إلى مناطق مدنية لا صلة لها بالنزاع، وقد يؤدي ذلك إلى عمليات انتقام تطالُ أطرافاً غير معنية بالنزاع، فالمرتزق يقاتلُ خارج بلده أي أنه يقاتل من دون قضية مما يضعه أمامَ المسؤولية الجنائية الدولية.

أمّا الدول التي تتحول إلى مركز مرتزقة جماعي، بإرادتها أو نتيجة تعرضها لضغوط خارجية تزين لها أدوار البطولة وتغريها بمكانة سياسية إقليمية أو دولية، فإنها فضلاً عن أنها تتحمل تكاليف الحروب التي تخوضها هي بنفسها، وتدفع للدول الكبرى فواتير حروبها حيثما اتجهت بوصلتها الاستراتيجية، فإنها تتحرك على هذا النحو العبثي؛ لأنها وببساطة لا تمتلك رؤية سياسية ، وأمنية استراتيجية شاملة للظروف التي تحيط بها، وما يمكن أن يستجد من تطورات قد تعرض الوضعين الإقليمي والدولي لأخطار جدية وفادحة.

 إن تحرك الدول صغيرها وكبيرها من دون تحديد بوصلة استراتيجية للأمن القومي والعلاقات مع الإقليمية والدولية، لتأشير الأعداء المباشرين والمحتملين والذين يشكلون خطراً استراتيجياً على منظومة الأمن الوطني، وعلى استقرار المنطقة الإقليمية، يعدّ واحداً من أخطر التحديات التي تواجه الدول في عالم اليوم الذي يشهد تبدلات متسارعة على التحالفات والتوازنات الدولية والإقليمية مما قد ينعكس بآثاره التدميرية ليس على مستقبل الدول، وإنما على مصيرها، ووحدة أراضيها، وتغييراً في خارطة الجغرافيا السياسية القائمة، كما أن تشخيص الأصدقاء والحلفاء الاستراتيجيين الذين يمكن الاعتماد عليهم في الظروف المصيرية التي تواجه الدول الصغيرة والتي تقع في مناطق التحولات الكبرى مثل منطقة الشرق الأوسط، يعدّ من أولى المهمات التي على البلدان أن تضطلع بها، ولاسيما تلك التي لا تريد لنفسها أن تكون (بيدقاً ) على رقعة الشطرنج السياسية.

يتمّ بناء المواطن العربي، ومنذ قيام الدولة الحديثة في كثير من أجزاء الوطن العربي ومن مرحلة الدراسة الابتدائية وحتى الجامعية بناءً عقائدياً، يتلخص في أن الحركة الصهيونية وكيانها الغاصب لفلسطين، هما الخطرُ الوحيدُ الذي يهدّد الأمن القومي العربي، وكان العربي يرددُ منذُ الطفولة أنّ إسرائيل هي العدو رقم واحد للعرب، ولم يكن ذلك المنهاج التربوي خاطئاً على الإطلاق، بل كان ناقصاً ومعيباً إلى حدود مؤسفة؛ لأنه كان يؤشر لمرحلة وعي مبكر لطبيعة المشروع الصهيوني المتحالف مع الإمبريالية الأمريكية التي ورثت الاستعمار الغربي القديم الذي استند على فكرة الاحتلال المباشر لأراضي الغير، ومن بينها بل لعل في مقدمتها الوطن العربي بسبب ما كان الغرب المسيحي يختزنه من موروث الحروب الصليبية من أحقاد على العرب والمسلمين، وهو ما تجسده التجارب الميدانية الراهنة، وكان الجنرال الفرنسي (غورو) قد عبر عنه بصدق بعد احتلال دمشق، عندما وقف أمام قبر (صلاح الدين الأيوبي)، فركله، وقال : "انهض صلاح الدين فقد انتهت الحروب الصليبية".

ومع الوقت وبقدر ما كانت تتجسد القناعة العربية بأن إسرائيل ككيان ديني يستند على الكراهية لكل ما هو عربي وإسلامي، فقد اكتشف طليعيون عاشوا الهمّ العربي بكل أبعاده والأخطار المحدقة به، أن "نظرية الأرض المحتلة" تحتل المرتبة الأولى في الدفاع بدرجة واحدة عن كل أرض عربية مغتصبة "حتى بفرض إعطاء أرجحية للقضية الفلسطينية ؛ لأنها قضية تبقى ساخنة مهما تقادم عليها الوقت؛ ولأنها مسرى الرسول الكريم محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-؛ ولأنها تبقى خياراً استراتيجياً كان على العرب بالدرجة الأولى التمسك به.

بالمقابل كانت هناك قوى إقليمية وخاصة إيران وربما هي الدولة الوحيدة بحكم ما لديها من امتدادات طائفية في الوطن العربي تزعم تمثيلها، لا تقلُّ خطراً عن الصهيونية ومشروعها، ظلت تستغل انشغال العرب بمواجهة إسرائيل لتقضم المزيد من الأراضي العربية، وتقيم لنفسها قواعد سياسية واجتماعية هي في واقع الحال أكثر خطراً من القواعد العسكرية أو احتلال الأراضي، مرتكزة على أنها استمالت قوى وأحزاباً سياسية دينية مختلفة التوجهات الفكرية، وخاصة الحركات الشعوبية وذات النزعة القطرية أو الأممية بل وحتى أطرافاً كانت تتبنى في الماضي شعارات قومية تأكد زيفها في أول اختبار ميداني، ستقف إلى جانبها بوجه أية دعوة عربية تنطلق من موقف قومي يتميّز بوعيه، ويرى في أي استهداف خارجي عملاً عدوانياً بامتياز ولا يجوز وضع فواصل بين صفحاته، أو النظر إليه من زوايا دينية أو عرقية، فالاحتلال واحدٌ، ومن ينفّذ الاحتلال على درجة واحدة من العداء للأمة بصرف النظر عن اللافتات التي يقف تحتها والشعارات التي يرفعها، أو يأتي بها.

ظلّ العراقُ يعيشُ أزمةَ عدم فهم عربي، أو لنقل من النظام الرسمي العربي لتحسسه العالي من خطورة (المشروع الإيراني) الذي وقف العراقيون بوجهه منذ أن ارتدى قبعة الشاه، وأخذ قوة دفع كبيرة بعد أن أرتدى عمامة الخميني، وواجه العراقيون بسبب موقفهم هذا تصنيفات ساذجة للاصطفافات السائدة في المنطقة، وخاصةً ما يتعلق بموضوع "قوى الممانعة" حتى بدا، وكأنّ المطلوب من العرب السكوت عن المشروع الإيراني المتمثل بفكرة "تصدير الثورة" المعتمد على قوى محلية مثل: النظام السوري، وحزب الله اللبناني، وحركة الحوثيين اليمنية، والأحزاب والمليشيات الشيعية في العراق التي رهنتْ إرادتها للقرار السياسي والديني الإيراني، لمجرد أنّ إيران ترفع شعاراً لا جدية له على أرض الواقع يتعلق بفلسطين وطريق القدس الذي لا يمر إلا بمدن عربية مثل كربلاء تارةً، وبغداد ثانية، وحلب ثالثة ، وصنعاء رابعة، وكأنها تريد بذلك مقايضة موقفها الدعائي الخالي من أية تضحية، بقبول العرب بها كوصية عليهم وطرفاً يحتلّ أرضهم، ويمارسُ أسوأ ما عرفته الدول من جرائم المحتلين وانتهاكاتهم للحقوق السياسية المتكافئة، وربما أسوأ مما يمارسه الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين المحتلة، لكن إيران في لحظة الزهو بانتصارها في السيطرة على عقول كثيرٍ من العرب المخدوعين بشعاراتها وجندتهم كأصوات ومنابر لها في المنتديات والمؤتمرات والفضائيات، أغفلت أمراً في غاية الأهمية، وهو أن الأمة العربية التي كرمها الله، وأنزل القران الكريم  بلغتها، لا يمكن أن تتحول من متبوع في دينها ظل كذلك عدة قرون إلى تابع ذليل مسلوب الإرادة، ما عليه إلا أن يخضع لإرادة الأعاجم الذين عبثوا طويلاً بمقدراتها، وأنتجوا كلّ الحركات الباطنية وجربوا معهم كل الشرّور القادمة من الشرق، غرباء سخّروا ملفات المنطقة ومواردها وقدرات أبنائها في خدمة مشروع فارسي يسعى لبناء دولة حديثة تسخر آخر الحلقات العلمية والتكنولوجية لأغراضها السياسية والعسكرية وخاصة الطاقة النووية في ابتزاز القوى الإقليمية وخاصة العرب والدولية ، وطرح نفسها كمركز استقطاب يقود المنطقة في خطوة أولى على طريق تحولها إلى نواة لقوة دولية توظف الإمكانات الخارجية أكثر من اعتمادها على مواردها الاقتصادية والبشرية الذاتية، أي أنها تريد أن تقاتل العالم حتى آخر عربي وبتكاليف توفرها لها الأطراف التابعة لها من دون أن تتحمل دولاراً واحداً، أو قطرة دم واحدة في معاركها الخاصة التي تضفي عليه طابعاً إسلاميا باسم فلسطين.

لكن هذه ليست هي صورة المشهد الوحيدة، إذ أن هناك أعداء آخرين يراد للنظام الرسمي العربي شنّ حروب غير نظامية عليهم تحت لافتة الحرب على الإرهاب الذي أساء للعرب والمسلمين، ولكن هؤلاء الأعداء لا يشكلون تهديداً فورياً للأمة فلماذا لا يتحمل العالم مسؤوليته في التعامل مع هذه القوى، ولكن أن يتحرك العرب في حالة دفاع خجول عن النفس أمام المجتمع الدولي فهذا أمر لم يعد قائماً في قاموس العلاقات الدولية.

صحيح أن بعضاً من العناصر التي تنفذ عمليات إرهابية هنا، وهناك هي من العرب أو أن ما حصل في عملية 11 سبتمبر/ أيلول 2001م، من حملة الجنسية العربية، والتي هزت الوجدان الأمريكي، وأكدت للمخطط الاستراتيجي الأمريكي أن ما تمّ رسمه من نظريات أمنية سابقة عن أن الولايات المتحدة لا يمكن أن تعيش حالة الحرب فوق أراضيها، أصبح جزء من الماضي، لكن الصحيح أيضاً أن هذه عقدة الشعور بالذنب لدى العرب ليست في محلها أبداً؛ لأن الدولة ليست مسؤولة عن سلوك كل من يحمل جنسيتها، وإلا لكانت الدول وكذلك عوائل القتلة واللصوص مسؤولين مسؤولية متكافئة من سلوك أبنائهم في الجرائم الجنائية الداخلية، وكذلك لكانت روسيا مثلاً مسؤولة عن فعل كل من يحمل جنسيتها في كل مكان سواء درت أم لم تدر بنواياهم أو كان هؤلاء من اللصوص العاديين أو من الإرهابيين ولكانت فرنسا مثلاً مسؤولة عن كل ما يرتكبه حملة جنسيتها من أعمال في سوريا أو في العراق أو داخل أراضيها أو في بلدان أوربية أخرى، هذا التفسير القانوني خاطئ من أساسه؛ لأنه يحمّل البلد الذي ينتمي إليه القتلة لمجرد انتمائهم لهذا البلد بالجنسية، ويتجاهل البلد الذي خطط بوعي وإرادة كاملين لتلك العمليات، هنا يبرز اسم إيران كطرف يتحمل مسؤولية أخلاقية وجنائية عن كل ما يرتكبه حملّة الجنسية العراقية واللبنانية والأفغانية من جرائم إرهابية في أي مكان في العالم بما فيها البلدان التي يحملون جنسيتها، وإلا فإن الجاني الحقيقي سيفلت من العقاب والملاحقة، ويقع تحت طائلة القانون البلد الذي لا جريرة له إلا أن الجناة يحملون جنسيته.

إن التحرك السياسي لأية دولة من الدول انطلاقاً من عقدة الشعور بالذنب لفعل لم يُرتكب أو ارتكبه عدد من أبنائها أو ممن يحمل جنسيتها أو ممن ينتمون إلى الديانة التي تعتبرها تلك الدولة دينها الرسمي، هو إضعاف خطير للموقف التفاوضي لا يصح في العلاقات المتكافئة بين الدول وإلا فلماذا تعتبر إيران نفسها وبموجب شعاراتها ودستورها ممثلة لكل مسلمي العالم عندما تريد الوجاهة لنفسها في علاقاتها الدولية، وإذا حصل فعل ما لا تريد أن ينسب إليها بسبب طابعه الجنائي الدولي تتبرأ منه بأقصى سرعة ، وتؤكد أن جنسية المنفذين ليست إيرانية أو أنهم ليسوا من الشيعة، فهل يصح ذلك من قبل دولة تريد اختزال دور جميع الدول على رعاياها أو تبدأ بالبحث عن طائفة المنفذ، وتتبرأ منه في حال عدم انتمائه للمذهب الجعفري الاثني عشري.

 هذه أمور يجب ألا تغيب عن نظر خبراء القانون الجنائي الدولي، وندعوهم إلى وضع تفسيرات جديدة لسلوك الأفراد وعلاقة ذلك بدولهم أو الدول المحرضة لهم، فالأصل في النصوص القانونية للمعاني التي يرمز إليها المشرّع الدولي لا للمباني التي وضعت في ظرف لم يعد قائماً في العلاقات بين الدول وفي عالم أصبح بناية صغيرة تصل أخبار الطابق الأسفل إلى الطابق الأعلى في غضون ثوانٍ بحكم ثورة الاتصالات التي لم تعد حكراً على الدول التي أنتجتها بل وصلت إلى أبعد نقطة قصية في العالم، ولذا فإن التكافؤ بين الدول في الحقوق والواجبات بموجب ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي يستلزم عدم فرض الآراء والمواقف من جانب الدول الكبرى على الدول الصغيرة لأي سبب كان.

إن العرب يواجهون أخطاراً متعددة المناشئ والأهداف، وإذا ظلوا يرسمون أمنهم القومي استناداً إلى إملاءات الدول الأخرى أو مصالحها، فإن ذلك سيؤدي بهم إلى كوارث كبرى، عليهم أن ينظروا إلى مصالحهم وبما لديهم من قدرات معروفة وخفية لإجبار العالم على الاعتراف بهم كقوة كبرى في عالم اليوم، وغالب الظن أن الاتفاق على حد أدنى من التنسيق من خلال فهم مشترك لمفهوم الأمن القومي ومحاوره ومنظوماته يشكل البيان الأول لإطلالة العرب على عالم اليوم الذي هو عالم التكتلات والقوى الكبرى، حتى لو بقيت النظم القطرية سائدة أو تعيش فيما بينها خلافات جزئية، سيجعل منهم يتحدثون بلغة سياسة استراتيجية واحدة يفهمها العالم أكثر من أية لغة أخرى، فضلا عن لغتهم العربية الواحدة، واللغة السياسية تتفوق اليوم على اللغة القومية في التخاطب بين الأمم.

إن العرب مطالبون أن يطرحوا رؤيتهم للأمن القومي العربي وتفسيرهم لمفهوم الإرهاب، ولا يبقوا أسرى تعريفات مررتها القوى الدولية أو القوى التي تريد إضعافهم ، وجعلهم يدفعون أثماناً لأخطاء لم يكن لهم دور في ارتكابها، ولا شك أن الانتقال من حالة الدفاع الخجول عن النفس إلى حالة الفعل المؤثر في رسم السياسات الدولية هو الخطوة الأولى على طريق استرداد الحقوق العربية الضائعة لانعدام وحدة الموقف العربي الذي يجعل منهم قوة فاعلة لا منفعلة في العلاقات الدولية.

وكما مطلوب من العرب التعامل مع أية قوة أو منظمة كحركة إرهابية، فعلى العالم أن ينظر إلى الحركات المدعومة من إيران كحركات إرهابية لا يتوقف خطرها عن حدود الأمة العربية، ويهدد العراق، وسوريا، واليمن، ولبنان فقط، بل هو إرهاب عابر للقارات وقطعاً لا يقل خطراً عن (داعش أو القاعدة)، أو ما تفرع عنهما من تنظيمات بل هو أخطر منهما بكثير؛ لأنه مدعوم من دولة إقليمية كبيرة هي إيران، وبذلك يكون التفاعل في العلاقات الدولية، والتكامل في التعاطي مع كل الظواهر التي تهدد الأمن، والاستقرار، هو المعيار الوحيد الذي يعطي الدول حقوقها من دون فرض، أو قسر، أو إرهاب سلبي أي (الإرهاب السياسي).

د. نزار السامرائي        

مركز أمية للبحوث و الدراسات الإستراتيجية

وسوم: العدد 719