جناية الثقافة الدينية المغشوشة

ذكر ابن كثير في البداية والنهاية  أن " عبد الرحمن بن ملجم كان كثير العناية بالقرآن الكريم " ، دفعته " قرآنيته " إلى قتل الإمام علي رضي الله عنه تقربا إلى الله تعالى !!!   فهِمْتُم الاشارة ؟

هكذا تفعل الثقافة الدينية المغشوشة.

إنها عائق كبير أمام عملية إصلاح الأمة ونهضتها ، فهي تشتغل بالماضي على حساب الحاضر والمستقبل ، تهدم ولا تبني ، تفرّق صفّ المسلمين ولا تجمعه ، ترتاح للظلام وتلعن النور ، تجعل أصحابها بتميّزون بقسوة القلب و إغلاق العقل وسلبية السلوك .

أما إغلاق العقل المتمثل في التعصب الأعمى للرأي الواحد فهو مصيبة كبرى لأنه يجعل من التفكير تكفيرا ويُلغي المدارس الاسلامية جميعا عبر التاريخ ، فهؤلاء يلغون الفقه الحنفي والمالكي والشافعي  على أساس أن هذه المذاهب كلها تفتقد الدليل الصحيح ، فهل هذا هو الواقع ؟ كلّ من درس الفقه المقارن يعرف أن لأئمة المذاهب والمجتهدين فيها أدلتهم من القرآن والسنة في المسائل الجزئية ، لكن كيف يعرف ذلك من لم يقرأها بل لا يعترف بها أصلا ؟ لو درسوا لوجدوا أن أدلة الغير تدحض الآراء التي يتعصبون لها بالأدلة الأصولية التي لا يعلمها إلا الراسخون ، ولنا ان نطرح هذا السؤال البديهي : هل أتباع المذاهب الاسلامية – وهم الأغلبية الساحقة من المسلمين – على ضلالٍ لم ينجُ منه سوى أقلية تأخذ بالأقوال المتشددة والآراء الشاذة في الفقه الحنبلي ؟ فيا له من ظن سيء  بخير أمة أخرجت للناس.

وأما قسوة القلب فكيف يكون حال مَن حياته كلها تتبعٌ  للبدع والمنكرات والزيغ والضلال في العلماء والدعاة وعمار المساجد والجيران والزملاء وعامة المسلمين ؟  كيف يحبّ المؤمنين وهم في نظره قبوريون ، مبتدعة ، خوارج ، ضالون مضلون ؟

وأما السلبية في السلوك فبدأت بنبذهم لطلب العلم ، وأكثرهم – حتى من الرؤوس المتبوعة -  ممّن لفظتهم المدرسة  في الطور المتوسط ، وحتى الجامعيون منهم يعانون أمية فكرية صارخة ، أدى بهم هذا إلى اعتبار أنفسهم علماء محققين وفقهاء مدققين يستنكفون عن تنظيف مسجد أو حيّ فضلا عن شغل مناصب تخدم المجتمع ، تركوا العمل واشتغلوا بالجدل ، حرّموا الانخراط في الجيش والشرطة والعمل في التأمينات ومصالح الضرائب ومعظم المؤسسات المجتمعية ، اعتزلوا العمل العام والتطوعي الذي ينفع الناس ، فكيف يخدمون مجتمعهم وهم غرباء عنه ؟ وكيف ينصرون الاسلام وهو سلبيون يؤْثرون المناقشات العقيمة على العمل المثمر ؟ .

حياة هؤلاء كلها غلوّ وتطرف  ومراوحة بين الافراط والتفريط ، وهم يعدّون أنفسهم وحدهم أنصار السنة وحراس العقيدة ، تخرّج على أيديهم شباب أغرار لا يتلذذون بشيء تلذذهم بإيذاء المسلمين في آرائهم وأعراضهم ورموزهم العلمية وقاماتهم الدعوية ، لا يدركون أنهم يقدمون خدمات جليلة لخصوم الاسلام وأعدائه فكريا وسلوكيا حين ربطوه بالتطرف والعنف في حين أن الأغلبية الساحقة من المسلمين تلتزم الاعتدال والرفق في التعامل مع القرآن والسنة ومع الاخرين.

إن شيوخ هذا التيار يصوّرون المجتمع الاسلامي المنشود على شكل غريب : الرجال في المساجد ، النساء في الحريم ، اللحى تملأ الشوارع ، الوجوه عبوسة مقتضبة ، الجلاد منهمك في قطع الأيدي وجلد الظهور وقطع الرؤوس ، الحياة ساكنة ، لا إبداع فيها ولا  و رقيّ ولا بحث علمي ولا اكتشافات ولا اختراعات ...لأن فتاوى الشيوخ حسمت الأمور وأجابت عن كل الأسئلة وحلت جميع المشاكل. .وهذه الرؤية التسطيحية السوداء للحياة والدين والناس وارء العنف الذي يُمارس باسم الاسلام ، وجميعُ الفصائل التي تقتّل المسلمين – لأن يدَها لا تمتدّ بسوء الى اليهود الغاصبين ولا المحتلين الأمريكان والروس – تنسب نفسها للسلفية ، وأتباعها متخرّجون من هذه المدرسة ، يكفر بعضهم بعضا باسم السلفية ذاتها كما نرى كل يوم.

لعل ما سبق كله معروف ذكّرت به فحسب ، لكن الأهمّ في نظري أمران :

الأول خطورة تمادي المراجع العلمية والإصلاحية في السكوت عن هذه الثقافة واختيار موقف التجاهل رغم الخراب الفكري والنفسي الذي تسوّقه ، وهم يرونه بأعينهم ويلمسونه بأيديهم ، فمتى ينخرطون في حركية إنقاذ الشباب المسلم والإسلام نفسه ؟ وأول من تقع عليهم المسؤولية شيوخُ السلفية الأصيلة المعتدلة في كل مكان ، يجب أن يتركوا معالجة الوضعية الخطيرة بقفازات من حرير ويرفعوا أصواتهم عالية بالإنكار والنصح .

الثاني هو أني لا أطالب بالتنديد بهذه الثقافة ولا اتخاذ مواقف عدائية من أتباعها وإنما أريد من المراجع الدينية الأصيلة إنجاز مقاربة علمية منهجية للتصدي لها بمشروع علمي دعوي بديل ينقذ الشباب الذين استهواهم هذا الفكر ويردّهم إلى ثقافة الاجماع والوسطية والنظرة المعتدلة للحياة كما هو مبين في القرآن والسنة وكما درج عليه أصحاب المذاهب الفكرية والفقهية المتّبعة ، يجب إخلاء فضائنا من التعصب والأحادية والتطرف وفسح المجال امام تعدد الآراء والأقوال والتسامح بين المسلمين وإرساء دعائم المحبة بناء على آصرة العقيدة لا الانتماء لفرقة معينة... إنه عمل شاق ، وطريقه طويل وعْر ، لكنه الحلّ الوحيد لدرء التمزق والتنطع ومعالجة الأمية الفكرية التي شوّشت على المسلمين وخدشت جمال الاسلام.

وسوم: العدد 723