الجوال وواقع الحال

مصطفى محمد رشدي مفتي

الأحبة الكرام وبعد طلب من عديد من الإخوة الأفاضل لأكتب في بعض القضايا المتعلقة بالجوال كانت الاستجابة بهذا البحث المتواضع، أتمنى أن أكون قد حققت الحد الأدنى من المطلوب.

1. في البداية ما حكم اقتناء الجوال واستخدامه؟

الهاتف جهاز يمكننا تسخيره في الخير أو في الشر، ولا يخفى علينا جميعا الفوائد الكثيرة والمتعددة للجوال، فهو وسيلة للتواصل بين المغتربين وذويهم، ولقضاء الحاجات، وعقد الاجتماعات عن طريق المنصات الإلكترونية المتاحة مثل: WebEx   أو go to meeting   أو  Skype   وغيرها، وهو وسيلة هامة للتعليم ولحضور البرامج والدورات من خلال المنصات التعليمية العديدة، بالإضافة للكثير من المنافع المعتبرة.

وبالمقابل هناك من حول هذه النعمة إلى نقمة، حيث استخدام هذا الجهاز استخداماً سلبياً وسيئاً في المعاكسة وبناء علاقات غير شرعية، وإضاعة الأوقات فيما لا طائل منه، مما يجعل هذا الاستخدام مكروهاً أو محرماً.

ولا ننسى انشغال صغارنا وشبابنا وبناتنا وشيوخنا أحياناً بالدردشات على الواتس والتليجرام وغيرهما من برامج التواصل الاجتماعي المعروفة، لساعات طويلة تضيع خلالها الحقوق والواجبات ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وأما إن كان المقصود حكم الجوال من ناحية ضرره الصحي والإصابة بالسرطانات والأمراض بسبب الترددات والإشعاعات المنبعثة من الجوال، فكل ذلك في طور الأبحاث ولم يصل إلى درجة اليقين، فهو غير ثابت ولا ينبني عليه حكم شرعي. 2.             ما حكم استخدام الأذان والآيات القرآنية بديلاً عن النغمة أو التنبيه في الجوال؟

بالنسبة للقرآن فنحن متعبدون بتلاوته وتدبره، ووضعه كمنبه أو نغمة لا يخدم هذا المقصد العظيم، بل قد يعرضه للامتهان وعدم التقدير، وقد يجعله كلاماً مبهماً لا معنى له، لأنه قد تقطع كلماته للرد على الهاتف فيكون المعنى مبتوراً وغير صحيح، وكذلك عندما نُسكت المنبه في موضع لا يصح الوقوف عليه، وقد يتم الوقوف عند بعض كلمة منه، فهذا كله يتنافى مع احترام كتاب الله وتوقيره.

وأما الأذان فهو شعيرة عظيمة، لها أوقاتها فلا ينبغي استخدامها في غير وقتها ولغير ما شرعت له، وإلا لكانت صلاة الاستسقاء والعيدين والجنازة أولى بأن يكون التجهز لها بأذان ولكن الشارع لم يشأ ذلك ولم يشرع ذلك، بالإضافة لما قد يحصل من لبس للآخرين من صوت الأذان في الجوال، فقد يكون سبباً في إمساك البعض أو إفطاره، وقد وقع مثل ذلك كما نقل لي، وكما وقع لابنتي الصغيرة عندما همت بالإفطار على صوت جوال أخيها قبل الأذان بدقائق، أو صلاته قبل دخول الوقت والله أعلم.

3.             ما حكم إدخال الهاتف المحمول إلى الخلاء وفيه نسخة كاملة من القرآن؟

إذا كان الكلام ظاهراً مكتوباً على الشاشة يكره إدخاله والحال كذلك، وأما إن لم يكن هناك صفحة مفتوحة وكان البرنامج أو الجهاز مقفلا فلا حرج في ذلك.

فلا يأخذ الجوال حكم المصحف ولو احتوى عليه، فكل ما في الجوال من معلومات عبارة عن رموز تقوم وحدة المعالجة بقراءتها وترجمتها بالشكل الكتابي الذي نراه.

4.             ما حكم السرف والمبالغة في شراء الجوالات وتغييرها كل فترة بسيطة مراعاة للموديل ومواكبة لكل جديد؟

لا بد للمسلم من أن يكون معتدلاً متوازناً في جميع شؤونه، فقد نهانا الشارع عن السرف عموماً وعن التبذير فقال: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا)، وقال: (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ۖ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا).

وللأسف أصبح الكثير من الشباب همّه الأول وشغله الشاغل أن يقتني الموديل الجديد لماركة الجوال الذي يفضله، وهذا من السفه والإنفاقِ المذموم -وإن كان الأصل جواز شراء الجوال- ولكن ذلك قد يخرجه من زمرة الاعتدال ويضعه في زمرة المسرفين، وخصوصاً أن الأمة في كل مكان تعيش ظروفاً صعبة وقاسية وتحتاج إلى عون أبنائها ومساعدتهم، هدانا الله جميعاً إلى سواء السبيل.

5.             ما حكم التشويش بالجوال على المصلين في المسجد؟ سواء كان ذلك صادراً عن نغمة الجوال أو الرد على اتصال أو السماعِ من الجوال لدرس أو قرآن أو نشيد أو ما شابه ذلك، فإن كان يشوش على المصلين ويلهيهم أو يشغلهم عن عبادتهم، فإن ذلك مما يجب الابتعاد عنه وتجنبه حيث نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه وهم معتكفون في المسجد عن الجهر بقراءة القرآن فقال: (ألا إن كلكم مناجٍ ربه، فلا يؤذين بعضُكم بعضاً، ولا يرفع بعضُكم على بعضٍ في القراءة – أو قال في الصلاة) أبو داود فإذا كان النهي عن رفع الصوت بالتلاوة وقراءة القرآن فمن باب أولى أن يكون ذلك في حق من يشوش بجواله على المصلين. 6.             ما هو أثر الجوال على حياتنا الاجتماعية؟ سبب أساس للتباعد وقطيعة الرحم: حيث قل التزاور بين الأقرباء والأصدقاء واكتفى الناس بالتواصل الإلكتروني، بل قل التواصل داخل الأسرة نفسها وأصبح الأفراد يتواصلون فيما بينهما بالرسائل كل من غرفته وقد يتم التواصل أحياناً داخل الغرفة الواحدة عبر الجوال، والأدهى والأمرّ بأنه قلَّ التواصل حتى داخل المجلس الواحد فيجتمع الأهل بأجسادهم وقلوبُهم وعقولُهم وأصابعُهم متعلقة بهواتفهم وأجهزتهم وبعالم بعيد عن مجلسهم ومجاليسيهم. عزلة الأبناء وانزوائهم والبعد عن العلاقات الاجتماعية السليمة، والتأثير على التركيبة النفسية لهم، وعدم قدرتهم على بناء علاقات اجتماعية سوية، بعد العيش لفترات طويلة في عالم افتراضي مختلف وبعيد عن الواقع، فتصيب بعض الأبناء حالة من الذهول والخمول والبله و ما يشبه التوحد والإعاقة الفكرية والعقلية. اكتساب مفاهيم وقيم غريبة عن عاداتنا وديننا، حيث يصبح العالم الافتراضي مرجعية لأبنائنا وشبابنا، ويصبح الصديق الافتراضي المجهول الجنس والهوية والفكر أقرب من الصديق الحقيقي بل أقرب أحياناً من الإخوة والآباء، وتصبح اللغة والألفاظ المتداولة على الشبكة العنكبوتية هي لغة الخطاب بين الأبناء بما فيها من دخل ودخن. إضاعة الأوقات الطويلة مما يُدخل الأبناءَ في حالة من الكسل والخمول وعدم الشعور بالمسؤولية والاستهانة بالوقت والشعور بالذنب بسبب التقصير في الكثير من الواجبات. انشغال الأمهات وإدمانهن على استخدام الهاتف جعلها أماً بعيدةً عن أبنائها مقصرةً في مسؤولياتها الأسرية، مما يؤدي إلى مشاكل عائلية حتمية قد تنتهي بتفكك الأسرة وضياعها، فالأم تقضي من الوقت على مجموعات الواتس والتليجرام والانستجرام وغيرها مع صاحباتها ومجموعاتها المشكوك في فائدتها أكثر مما تقضيه مع أسرتها وأبنائها، وتهدر الوقت الطويل ودون الشعور بالزمان والمكان سابحة في عالمِ المحادثاتِ مهملةً لبيتها وواجباتها، فتكون النتيجة فساد الأبناء وفشلهم وانحرافهم. الإدمان على الهاتف سبب مباشر لحوادث السير في الطرقات سواء كان ذلك من قبل السائقين أو من قِبل المارة المنشغلين بهواتفهم وهم يسيرون، وقد يكون ذلك سبباً لفقدان الأسرة لعائلها أو إعاقته. أثر الجوال على العلاقات الزوجية، حيث أصبحت مواقعُ التواصل، ومجموعاتُ الأهلِ والأقارب والأصحاب، ثم مجموعات المراكز والشركات والمجموعات المتنوعة، الشاغلَ الأولَ لكلٍ من الزوجين فبذلك يبقى أحدهما أو كليهما متواصلاً على مدار الساعة، وينتج عن ذلك فقدان الإحساسِ بوجود الآخر، بل نجد أن بعضهم يصحب جواله إلى غرفة نومه وإلى سريره وقد ينام وهو يعانق جواله وهو يحلم بشبكة أداؤها أسرع وأفضل. 7.             هل الاتصال بمثابة طرق الباب والاستئذان في الدخول؟

- لا بد للمسلم حتى ينعم الله عليه من أدوات العصر من استخدامها استخداماً صحيحاً لا يخالف فيه هدي نبيه وأوامر خالقه.

- فمن الأمور الشائكة التي تعرض لنا في عصرنا موضوع الاتصال الهاتفي، وهل هو بمثابة طرق الباب والاستئذان للدخول؟؟

- اهتم الإسلام اهتماما عظيماً بمسألة الاستئذان، وجعلها من قضايا الأخلاق التي ينبغي على الكبار تعلمها والالتزام بآدابها، وأمرهم بتعليمها لأبنائهم وبناتهم. يقول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون). ويقول رسولنا صلى الله عليه وسلم: " الاستئذان ثلاث فإن أُذن لك وإلا فارجِع". فالاتصال الهاتفي بمثابة الاستئذان وطرق الباب وطلب الإذن للدخول. فمن حق المطلوب هاتفياً عدم الإذن لك (بعدم الرد) لانشغاله ببعض شأنه، أو لأنه يأخذ قِسطاً من الراحة يحتاج إليه، وقد يكون في لقاءٍ يتحرجُ من الرد أثناءه، وقد يكون مشغولاً بقيادة سيارته، أو أنه في حالة نفسية ومزاجية وانشغالِ بالٍ، فهو في وضع لا يسمح له بالإجابة وتداول الحديث مع الآخرين. فلا تحزن أخي الحبيب ولا تغضب إذا لم يُرذُّ عليك من أحد أصدقائك أو أحبابك، ولا تلح بالاتصال مراتٍ عديدة وكثيرة متتالية إلى أن يضطرَ صاحبُك إلى إجابتك، أو تتحايل عليه فتتصل من أرقام مختلفة لتحرجَه وتقيمَ عليه الحجةَ فتضبطه بالجرم المشهود على حسب زعمك، فتكونُ بذلك قد دخلت دائرة الخطأ بالاعتداء وانتهاك الخصوصية، ومخالفة السنة في كثرة عدد مرات الاستئذان.

التمس لأخيك عذراً، واعلم أنه بعدم الرد عليك كأنه يقول لك: (معذرة أخي الكريم لعدم الرد فالوقت لا يناسبني الآن).

- بل لا بد أن نعود أنفسنا على قبول الأمر برحابة صدر، دون البحث والسؤال عن سبب عدم الرد فهو أزكى لنا. والله أعلم.

وسوم: العدد 727