محطات مصيرية

نكتشف ، ربما ، في نهاية  كل عقد من الزمن ، أننا نحتاج أن نعيد قراءة أبجديتنا ، وأن نجدد فهمنا لذات الكلمات التي قرأناها يوما ، أو سمعناها ، أو تلك الأحداث التي تعرضنا لها ، فإذ هي ذات وقع جديد مخالف لما ألفناه ، وإذ بالوقائع تملك أفقا آخر غير ذاك الذي كنا نقبع أمامه منتظرين بلهفة بزوغ الشمس .

في حياتنا دائما (محطات مصيرية ) لمتابعة مسيرتنا ، أو للنكوص عما بدأناه  .

  والقضية دوما تكمن في فهمنا ورؤيتنا واسترتيجيتنا  من أحداث الحياة .وحل القضية  يعود لنا نحن . " قالا ربنا ظلمنا أنفسنا" إنه التوجيه الالهي الأول عندما هبط آدم وزوجه الأرض . ( محاسبة الذات مفتاح المعجزات) .

وفي الذكر الحكيم كان  سحرة فرعون  جلَ مبتغاهم  ،  نيل رضا فرعون ، حتى كان ذلك الصباح الذي أصبحت فيه عصيهم ، مصدر عيشهم ، لقمة سهلة  في جوف ( عصا موسى ) .  فانقلبت المفاهيم عندهم رأسا على عقب ، وتبدلت الرؤى ، واختلفت مقاييس السعادة والفلاح .و أصبح الصلب على جذوع الأشجار، و بأوصال مقطعة ، هو غاية الرضا  ، وآخر الحلم ، ومنتهى الأمل.

وبلقيس وقومها رأوا في ذلك النجم البهي الساطع ، إلها يستحق أن يعبد ،  حتى كان ذلك اليوم الذي وقفت فيه على أعتاب الصرح الممرد مع نبي الله سليمان ، فعزمت في تلك المحطة المصيرية على العدول عن رحلة التيه الماضية ، واعترفت بخطيئتها دون تردد :

 "رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان  لله رب العالمين"

ورحلة الانبهار والافتتان لمعجبي "ملياردير " عصره ،(قارون) لم يطل أمدها .  ولما ابتلعته الأرض  " لقمة يسيرة أخرى" مع أمواله وكنوزه ومخابئها الدفينة ومفاتيحها الثقيلة   ... إذ بمعجبي الأمس  يقفون في تلك المحطة مبلسين معلنين ضلال رؤيتهم  "ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر  " ، معترفين بذنبهم   " لولا أن من الله علينا لخسف بنا ويكأنه لايفلح الكافرون".

ولعل المؤمنين الواثقين بخطاهم على درب الحق ،  لهم  شأن آخر ، وهاهو الشيخ الطاعن في السن ، نبي الله يعقوب عليه السلام ، رغم ذهاب بصره ، لم تلتبس عليه الرؤيا في تلك المحطة الموحشة ،  وبينما هو بانتظار محموم لعودة فلذة الكبد ،إذ به يفقد ولده الثاني . ومن غياهب فقدان  البصر والولد ، ووجع الانتظار ،  نراه  يفاجئنا  بثقة عجيبة ، ويقين فريد ، " قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله و أعلم من الله مالاتعلمون" ؟!.

فهل المؤمنون حقا بمفازة من الضياع في محطات الحياة وصراعاتها ومفاجآتها وابتلاآتها؟

 في الآية 136من" النساء " دعوة   للمؤمنين كي يؤمنوا !.

 "يا أيها الذين آمنوا آمنوابالله ورسوله..." وهي  دعوة  لفتح الأبصار وتجديد العهد مع الله ، بل لعلها ناقوس تنبيه وإرشاد ، كي يوقظ  بعضا من أصحاب الإيمان من غفلتهم لتحذرهم من الضياع في هذه المحطات والانزلاق في متاهات الفتن .

و في المحطات  يحتشد دوما الآباء والأبناء والإخوان والأزواج  والعشيرة ، والأموال المقترفة  أوالتجارة التي نخشى كسادها ،  أو المساكن التي رضيناها ... ، وازدحام هذه العناصرالدنيوية في محطات الحياة ،  تجعل قلوبنا وعقولنا تشغل  بها ، فنغفل عن التحذير الإلهي  بأن الأموال و الأولاد والأزواج هم الأعداء أحيانا إن هم أضلونا عن الصراط الذي ارتضاه الله لنا.

بعض المحطات تلتبس فيها الرؤيا أيضا  ، فنتوه عن الطريق ، لما نحمل في قلوبنا من مشاعر  حب وكره ، تجعلنا نفقد القدرة عن التمييز بين الخير والشر وفي التوجيه الالهي " وعسى ان تكرهوا شيئا وهو خيرلكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لاتعلمون".

وفي هذه المحطات المضللة المزدحمة  بالأهواء والمشاعر، بالفتن والصراعات ، بروابط الدم والقربى ، بمغنطيسية  المصالح والمكاسب  لابد من منقذ يأخذ بيدنا ويهدينا سبيل الرشاد .

و الفرج يفاجئنا أحيانا عندما يبزغ في أفق غير ذاك الذي كنا نتوقعه .

"ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون".

أحيانا يكون العذاب هو المنقذ ، و تلك القبضة القاسية أحيانا هي الدليل الذي سيعود بنا إلى جادة الصواب في محطات الضياع  ، قبل فوات الأوان .

 في هذه المحطة  وقف السوريون سبع سنين ، لبسوا فيها لباس الخوف والجوع والدم والسجن والقهر والظلم والتشرد والذل واللجوء

محطة  مروعة تلك التي وقف على أعتابها السوريون .

 في تلك المحطة  شهد السوريون والعالم بأسره ، آلافا من صور(القيصر) ، وعايشوا آلافا من براميل الموت المدمرة  ، ورأوا مئات الآلاف من صرعى الغرق والحرق والجوع والتشرد والاغتصاب والاعتقال ، وغصت الشوارع بمقطعي الأوصال والمعاقين والمشوهين ، تلك الوقائع لم تكن أقل برهانا من عصى موسى ، أوعرش بلقيس ، أوزلزال قارون،  ورغم ذلك بقي الكثيرون على ولائهم لفرعون .

والقابعون في تلك المحطة  ليسوا كلهم سواء ،  فمنهم الشبيحة سحرة فرعون ، ومنهم عبيدالمال والثروة والمصالح ، ومنهم  و ياللعجب ، المؤمنون الذين  شهدوا جرائم فرعون ، ولم توقظهم من غفلتهم آلاف الزلازل الفسفورية والكيماوية والفراغية ....

لازلنا نقف في هذه المحطة من( العذاب الأدنى) ننتظر أن يعود فيها المؤمنون إلى إيمانهم الذي يرتضيه الله ، إيمانا معافى من الظلم .

 "الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك  لهم الأمن وهم مهتدون".

لازلنا نقف في هذه المحطة ننتظر أن  يتحرر تجار الأزمة من جشعهم واستغلالهم بؤس إخوانهم في الأرض.

لازلنا ننتظر أن يشفى أصحاب العمائم واللحى وأئمة المنابر من نفاقهم وطاعتهم لأولي الأمر" الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد".

لازلنا ننتظر أن يفقه المتسابقون على صفحات الانترنت معنى رسائلهم المتخمة بالأدعية المشروعة واللامشروعة ، والصلوات النارية والإحتياجية والإستغاثية ، وصيغ الدعاء والابتهال والنداء والرجاء لإنقاذ البلاد وهم (يسبحون بحمد فرعون)  لأنهم بظله  ،

(كانوا عايشين)!.

لازلنا ننتظر من هؤلاء المؤمنين القائمين الصائمين الداعين للاستغفار بالأسحار، لكشف الغمة وصلاح الأمة ، أن يفقهوا معنى استغفارهم ، فالإستغفار ليس تكرارا أجوف لكلمات لانعيها ،  بل هو كشف عن الدفاتر القديمة المنسية التي سجلنا فيها ظلمنا أو غدرنا أو خيانتنا أو كذبنا ، لنتوقف ، و لنواجه أخطاءنا بقوة وشجاعة " قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين".

لازلنا ننتظر أن يُكشف عن هؤلاء (المؤمنين) عمى البصر، لما شاهدوا من  الجرائم ، وعمى البصيرة عندما يتخذ المرء إلهه هواه.

لازلنا ننتظر الصحوة الجادة من غيبوبة التقوى الزائف .

لازلنا ننتظر ممن بنوا (للمقهورين ) مدنا فاضلة على كثبان من الرمال المتحركة ،أن يتخلوا عن مواقعهم القيادية في الفنادق المترفة ، للقوي الأمين الذي هو كفؤ للقيادة بالقوة والحكمة والنزاهة .... "لاتحسبن الذين يفرحون بما آتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ".

العذاب في هذه المحطة كان ولازال مروعا ، ولكنه أدنى من العذاب الأكبر، عندما يود المجرم أن يفتدي عذاب يومئذ ببنيه وصاحبته وأخيه وفصيلته ... وكل من كان معه يوما منتظرا في محطات الحياة المؤقتة ، فأخلاء الأمس هم أعداء الغد .

لقد تضافرت قوى الشر العظمى ضد سوريا  فكانت  فعلا هي الفئة الأكثر والأقوى ..ولكن "كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين".

إنه قانون العلي القدير في معجزاته التي لاتتحقق إلا بتطبيق سنته "إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص".

وسوم: العدد 729