متى يقرر القائد الاعتراف بالفشل ؟ ومتى يرحل ؟

في بدايات ظهور السيسي وتحمله المسئولية كان التفاؤل يملأ العبارات "بكره تشوفوا مصر" ، مصر قد الدنيا وها تبقى قد الدنيا ، وخلال ثلاثة أعوام فقط وصلنا إلى مستوى الاعتراف : احنا فقرا قوي قوي ، وما عنديش ، أجيب منين ، ولازم نستحمل ، واصبروا سنتين ، طيب اصبروا كمان ستة أشهر ، وهكذا ، وبالتوازي مع هذا الفشل الاقتصادي والمعاناة تقلصت مساحة الحرية وعادت وحشية الجهاز الأمني ، وتوالت عمليات قتل وموت المواطن العادي بسهولة ، في أقسام الشرطة أو في أي احتكاك بالطريق ، ودمرت أحزاب ، وصفيت أخرى ، وانهارت العدالة ، وتقلصت مساحة استقلال السلطات وتوازنها لتسيطر مؤسسة واحدة على كل شيء في البلد تقريبا ، واتسع نطاق الاعتقالات وتكميم الأفواه ومصادرة الرأي الآخر وشراء القنوات المتمردة وغلق المواقع الإخبارية المعارضة ، ثم ظهرت موجة جديدة في إعلام السلطة الذي يتم توجيهه مركزيا من أجل التبرير للفشل والإحباط مفادها أن مسئولية الدولة في هذا الوقت هي "الأمن" وسحق الإرهاب ، وهذا هدف أهم يستحق الصبر من الشعب ، ويستحق أن يضحي بالديمقراطية وبالحياة الكريمة وبالعدالة نفسها ، واحمدوا ربنا على كده ، ثم في النهاية ، وبعد ثبوت الفشل حتى في ملف الأمن ، وصلنا إلى "محطة" أن الأمن نفسه مسئولية الشعب أيضا وليس فقط مسئولية أجهزة الدولة وسلاحها وتدريباتها التي تنفق عليها مليارات الدولارات سنويا .

عندما تعترف بأنك فشلت اقتصاديا ، وفشلت سياسيا ، وفشلت أمنيا ، فإن التساؤل عن مبررات البقاء يصبح منطقيا ، وعلى أي قيادة وطنية ومخلصة لهذا البلد أن تخلي المكان لطاقات جديدة وقيادات جديدة تملك ما هو أفضل ، وتستطيع أن تنقذ البلد من هذا التخبط الاقتصادي والسياسي والأمني ، فالأغاني والإعلام المستأجر والنفاق السياسي لن ينقذ الوطن ، ولن يمثل حتى خشبة يتعلق بها الغريق ، والمزيد من الوقت هو مزيد من الهرب ، وهو أيضا مزيد من التعقيد والخسائر والتخبط والتكاليف الباهظة التي ستتحملها الأجيال المقبلة ، سياسيا واقتصاديا وأمنيا ، تلك بديهيات سياسية أبعد حتى من المعارضة السياسية ، هي نصيحة لوجه الله ثم لوجه هذا الوطن ، فما يحدث الآن هو محض عناد سياسي لا منطق له ولا معقولية .

الزخم الشعبي الإيجابي الذي فجرته ثورة يناير ، وبدأ يغير وجه الحياة في مصر ، ويفجر طاقات المشاركة والتفاني لخدمة الوطن ، واستفاد السيسي شخصيا من بعض موجاته ومليونياته بعد ذلك ، تم تهميشه ، وقمعه ، وسجن رموزه أو ملاحقتهم أو تهديدهم بالقضايا والاتهامات المتوالية ، ثم اتهام يناير بأنه كان فوضى وتخريبا وليس ثورة ، واليوم لا يستطيع السيسي نفسه أن يفتح الميادين لهذا الشعب الذي يطالبونه بمشاركة الشرطة في التصدي للإرهاب ، لأنه يروعه بالشرطة نفسها ، وسلاح الشرطة ، وسجون الشرطة ، لقد تم تخريب العلاقة بين الشعب والشرطة من جديد ، بفعل سياسات رسمية خاطئة وشهوة متعجلة لإحكام القبضة على السلطة وحماية كرسيها دوسا على رقاب الجميع ، ثم يقولون للشعب المجرد من كل شيء الآن تعاون مع الشرطة ، أي مزاح ثقيل هذا ؟ وأي تهريج سياسي هذا ؟ .

  الشعب الذي يبادر ويشارك ويملك الجرأة والجسارة هو الشعب الذي يملك قراره ، ويملك كرامته ، ويملك حقه الدستوري والقانوني في المشاركة السياسية الحقيقية التي يصنع هو نفسه بها واقعه ومستقبله ، ويثق في أن السلطة تمثله لا تمثل عليه ، وليس هو الشعب المهمش والمطارد والملاحق والمهدد والمتهم دائما بالجهل وسوء الفهم والطمع ، والذي يعيش في ظلام سياسي تعبث به الأجهزة بدون حسيب ولا رقيب ، الشعب الذي يوقن أن إرادته فوق السلاح ، لا الذي تهدده بالسلاح ، أو تسحق إرادته بفوهة السلاح والمدرعات على مداخل الميادين .

والجميع يتذكر أنه في أعقاب ثورة يناير اختفى الإرهاب من مصر بصورة شبه تامة ، باستثناء حدث واحد ، فملايين الشباب ، من كل الاتجاهات السياسية والدينية ، كانوا متجهين نحو المشاركة وتكوين أحزاب والانضمام لائتلافات سياسية والجدل الإعلامي والمشاركة في صحف وفضائيات والترشح للانتخابات أو الاحتشاد السياسي خلف مرشحين ، كانت حياة سياسية حية وصحية وقوية وعفية بما يكفي لذوبان الإرهاب وخلاياه وتلاشيها ، وصعوبة أن يجد ثغرة ينفذ منها للعقول والمشاعر .

الإرهاب الذي يتمدد اليوم ليست دوافعه الجريمة العادية ، ليسوا تجار مخدرات مثلا ، وإنما دوافعه أفكار ومشاعر ، تحول من تسكنه إلى طاقة للتدمير والانفجار ، ومواجهة هذا الإرهاب بداهة تكون بتفكيك الأفكار وتنفيس المشاعر وتصحيح الوعي ، ولكن الذي يحدث الآن ، مع الأسف ، أن السياسات القائمة التي تقتل السياسة وتغلق فضاءها وتهمش الشباب وتقمع المعارض وتحبس الأصوات وتغلق المكتبات لتفتح السجون وتوسع الاتهامات والإعدامات وتضع فوهة السلاح في وجه الكلمة والهتاف ، هي التي تغذي الإرهاب وتهيئ له الأجواء ، وتدعم أفكاره السوداوية المحبطة وهي التي تغذي مشاعر الكراهية والأحقاد وتصنع مساحات هائلة من الفراغ السياسي الشعبي المترع كآبة وإحباطا خاصة عند الشباب ، فالتنظيمات المتشددة والإرهابية لم تعد تعاني الآن في تجنيد العناصر الجديدة وتكوين الكوادر ، لقد مهدت السياسات الخاطئة المناخ أمامها للتمدد والانتشار ، وسهلت مهمتها ، وهذا ما لا نملك ـ رسميا ـ شجاعة الاعتراف به .

وسوم: العدد 729