الحكومة التونسية بين السخافة التشريعية والسماجة السياسية

الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..

كأنَّ هؤلاء القوم لم يمارسوا السياسة ولم يسمعوا عنها في حياتهم قَطّ! وكأنَّهم إذْ يقحمون العمل الدبلوماسيّ في نفق التدافعات الفكرية والكلامية يفتحون للعلاقات الدولية (أزِقَّة) جانبية تنحشر فيها بمنأى عن الطرق الرحيبة والآفاق الواسعة!

   لم أكن أتخيل أن تصل السماجة السياسية و(التناحة) الدبلوماسية إلى هذا المستوى المنحدر؛ فتتقدم وزارة الشؤون الخارجية التونسية إلى السفير التركي لديها بمذكرة احتجاج (تعرب!) فيها عن «استنكارها الشديد للتصريحات الصادرة عن وجدي غنيم، واستغرابها من استغلاله لإقامته في تركيا للتهجّم على الدولة التونسية ورموزها» ثم تبلغ السفير التركي بطلب الحكومة التونسية أن: «تتبنى السلطات التركية رد فعل سريع على هذه التصريحات المشينة، وأن تتخذ كل الإجراءات اللازمة ضد هذا الشخص» !!

   ما هذه الدولة التي تنشغل - وتريد أن تشغل الدول - بشأن رجل مطارد لم يزد على أن عبر عن رأيه في مسألة هي التي ابتدعتها وشغلت بها الرأي العام في طول بلاد الإسلام وعرضها؟! وما هؤلاء الساسة الذين يلقون ما في أيديهم من ملفات اقتصادية وسياسية واجتماعية وتعليمية؛ ليلهثوا في الأزقة خلف كل صارخ عليهم ؟!

   لسنا بحاجة إلى عرض محتوى ما قاله الشيخ وجدي غنيم  في تعليقه على السبسي وحكومته وبرلمانه؛ لأنَّنا لسنا بصدد مناقشة رأيه وتقييمه، إنَّما نحن في معرض تقييم الموقف السياسيّ لدولة يفترض أنَّها جاءت بعد ثورة كانت الحرية غايتها الأولى، ومن ثَمَّ نقول: لو أنَّ وجدي غنيم هذا كان مسئولاً سياسياً في الدولة التركية أو موظفاً في منصب ديني رسميّ يُعَدُّ خطابه ممثلاً لموقف الدولة ورأيها لساغ عندئذ للسبسي أن يقدم مذكرات الاحتجاج للسفير التركي؛ لأَنَّ التصريحات عندئذ ستكون معبرة عن موقف الدولة الصديقة، هذا ما تقوله السياسة إن كان لهم بها علم، وهذا هو منطق الدبلوماسية إن كان لهم بها سابق خبرة.

   فإذا أضيف إلى السماجة السياسية و(التناحة) الدبلوماسية سخافة تشريعية؛ وجدنا أنفسنا أمام كومة قميئة من الإجراءات التي تثير الاشمئزاز، وتبعث (القرف) من تحت أنقاض الأفكار البالية والتصورات المشوهة الدميمة، وإنني - بمناسبة (المشاريع التشريعية!) المتعلقة ببعض أحكام الأسرة في تونس - أخاطب كل من بقي في جمجمته مسكة عقل، وأستحلفه بكل مقدس هو صائن لحرمته أن يجيب على هذا التساؤل البريء براءة أم المؤمنين عائشة مما نسبه إليها ابن

سلول: أهذه هي القضايا التي تلح على الشارع التونسيّ ؟ أهذه هي المشكلات التي من أجلها قام الشعب التونسيّ بثورته ؟ أهذه هي المشاريع التي ينتظرها الناس من الحكومة الجديدة ؟!

   إنَّ ما يقوم به السبسي (بالموحدة التحتانية) هو عين ما يقوم به السيسي (بالمثناة التحتانية): فشل في جميع النواحي السياسية والاقتصادية والأمنية، يقابله نجاح في هدم ثوابت الأمَّة وتشويه دينها، فلست أرى فرقاً بينهما سوى (النقطة) ولا أحسب أن نقطة حائرة يمكن أن تفرق بين منقلب ومنقلب، لمجرد أن أحدهما جاء على ظهر دبابة والآخر جاء ظهر ثورة مضادة.

   أمَّا الدولة التركية - فبرغم قناعتي بضرورة أن نحترمها ونقدر مواقفها - أربأ بها أن تنزلق إلى ذلك الدرك الهابط الذي يريده لها هؤلاء الهابطون؛ لأَنَّها دولة مؤسسات تحترم الحريات وتعظم حق الإنسان في أن يعبر عن رأيه دون أن يكون مهدداً مروعاً، وهذا المسلك - الذي صارت تمتاز به على كثير من الدول التي ترفع شعارات حقوق الإنسان - مكتسب حضاريّ كبير سمت به الأمَّة التركية سمواً يواكب سموها ورقيها في ميادين السياسة والاقتصاد والعلاقات الدولية.

   ولا أحسب السلطات التركية إلا مستمسكة بمبادئها، ولا أظنُّها إلا معتصمة بقيمها، ولا أشك لحظة في أنَّها لا يمكن أن تضحي بمكتسبات حضارية كبرى رعاية لخواطر حفنة من (الساسة!) لا يدركون من فنِّ قيادة الشعوب إلا بقدر ما يدركه الرضيع من فنِّ قيادة سيارة طائشة وسط الزحام، لذلك جاء الردّ الطبيعيّ أن السلطات التركية سوف تقاضي الشيخ وجدي غنيم، وهذا - لعمر الحق - جواب طبيعيّ لا وجه للاعتراض عليه من أحد؛ لأنَّ ردَّ الأمر إلى القضاء احترام للإنسان وليس امتهاناً له، وليس من الحكمة أن نبادر إلى توقع من التوقعات عن الحكم الذي سيتمخض عنه القضاء، وإن كانت النفس تميل بطبيعتها إلى تمني الانتصار لحرية الرأي والتعبير.

   أمَّا عن أهل البيان فإنَّهم لن يسكتوا عن بيان الحقِّ، ولن يثنيهم عن ذلك شيء؛ لأنَّهم إنَّما ينطلقون من منصة قرآنية: "لتبيِّنُنَّهُ للناس ولا تَكْتُمُونه" والله وليهم وناصرهم ومعينهم، ومهما اتفقت مع بعضهم في بعض ما يقولون أو اختلفت؛ فإنَّه لا يسوغ لي أن أتخلى عنهم، ولا أن أقصر في أن أشفع النُّصْحَ بالنَّصر، وأقرن التسديد بالتعضيد.

 والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل 

وسوم: العدد 735