سياسة النفس الطويل

الشيخ محمد الغزالي

« دار بينى وبين شاب من العاملين فى الميدان الإسلامى حوار قاس ، كنت فيه أطيل الاستماع ، وأقلُّ التعليق ، وفى نهاية المطاف ، قلت ما عندى كله ..

قال : إنكم تتهموننا بالتطرُّف فهلا شرحتم موقف الطرف الآخر منا ؟ وكشفتم عن مسلكه معنا ، أكان معتدلا أم متطرفا ؟ إن فلانا فعل بنا كذا وكذا ، مِنْ سفك وهتك ، و .. و ..

قلت : إن فلانا هذا مات من سنين طوال وأفضى إلى عمله ، رحمه الله !

فصاح : لا رحمه الله ولا غفر له !، لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استغفر له ما قبل منه ! ألم تقرأ قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم فى مثل هذا الشأن : (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ)

وحاولت الكلام .. ! ولكنه مضى يهدر : ماذا تقول فى رجل أذلَّ العرب ومكَّن لليهود ؟ ماذا تقول فى رجل ألغى المحاكم الشرعية ، والوقف الإسلامى ، وحل الجماعات الإسلامية ، أو وضع نشاطها تحت الحراسة ، وقتل مئات المؤمنين فى السجون أشنع قِتلة ، وعذاب الألوف عذابا تشيب له النواصى ، وأذل من أعز الله ، وأعز من أذل الله ، ولم يترك الدنيا إلا بعد أن صبغ وجوه المسلمين بالسواد والخزى !! ومكن لأعداء الله تمكيناً ما رأوا مثله من ألف عام !!

قلت له : لا تجترَّ آلام الماضى ، واشتغل بالبناء للإسلام ، وليكن ذلك أغلب على فكرك من الانتقام وطلب الثأر .. واستمعوا إلى من يعرفكم بحقائق الإسلام من كبار المربين ، وجهابذة العلماء ، بدل أن تكتفوا بقراءة مجردة لبعض الكتب..

فقال الشاب فى مرارة : كبار العلماء ؟ ! إن أمرا صدر إلى هؤلاء الكبار باستقبال " مكاريوس " جزار الإسلام فى قبرص ، فاستقبل بحفاوة فى الأزهر الشريف .. 

وإن أمرا آخر صدر بمنح " سوكارنو " وهو شيوعى متبذل ، معروف جيدا فى أندونيسيا ، شهادة الدكتوراه فى الفلسفة فاجتمع هؤلاء الكبار ومنحوه من الأزهر الشريف هذه الشهادة !

وأمرا ثالثا صدر بوضع الحجر الأساسى لكنيسة ، فسارع وكيل الأزهر إلى تلبية إشارة السادة الذين أمروه ، ولم يقع فى تاريخ الفاتيكان نفسه أن كُلِّفَ رجل دين كاثوليكى بوضع الأسس لكنيسة تخالف مذهبه !!

وقد سكت أولئك العلماء على مظالم أفقدت الجماهير نخوتها وكرامتها وشجاعتها ، ورضوا بمحاربة مظاهر التديُّن والتقوى مع أننا نواجه دولة دينية أقامت كيانها على أنقاضنا .!

قلت : يا بُنىَّ ليس كل العلماء كما تصف ، وإذا مضيت أنت وصحبك فى هذه السبيل فلن تعودوا .

إن الخوارج قبلكم ركبوا هذا الشطط ، فَدُفنوا فى تراب التاريخ على عجل .. والذين قادوا الرسالة الإسلامية ليسوا ولاة السوء ، ولا المعارضين الحمقى! إنما قادة الإسلام : العلماء المربون ، والفقهاء المخلصون . . !

هل أقول : إن اليهود أعقل منكم ؟

قال : كيف ؟

قلت : لما عقدوا أول مؤتمر عالمى لهم فى سويسرا كى يقيموا دولتهم ، ووصلوا إلى مخطط مدروس ، قال رئيسهم " هرتزل " : ستقوم " إسرائيل " بعد خمسين سنة ! وقامت بعد خمسين سنة . .!

إن الرجل لم يعمل لنفسه ولا لأولاده ، إنه يغرس لمدىً بعيد ، ربما لا يذوق جناه إلا الأحفاد ! ليس مهما أن يرى هو نتاج ما فعل ، المهم أن يصل إلى غايته ..

وإنما قدّر الرجل نصف قرن لأنه يريد الخلاص من مشكلات تراكمت خلال قرون طوال ، لا يمكن الخلاص منها بجرة قلم أو بصيحة حماس !

ومن الظلم أن أُحمِّل الجيل المعاصر أوزار الهزائم الهائلة التى لحقت بنا ، إنها حصاد خيانات اجتماعية وسياسية وقعت من زمان غير قصير ، فكيف تفكرون فى إزالتها بخطط مرتجلة وجهود قاصرة ؟

إن رسولنا صلى الله عليه وسلم يوم صَاح بعقيدة التوحيد كانت مئات الأصنام صفوفا داخل الكعبة وحولها ، وقد ظل ثلاثا وعشرين سنة يدعو ، تدرى متى هَدَمَ هذه الأصنام ؟ فى السنة الحادية والعشرين من بدء الدعوة !! .

إنه ما فكر حتى فى عمرة القضاء أن يمسَّ منها وثنا ـ أى قبل فتح مكة بسنة ـ أما أنتم فتريدون الدعوة إلى التوحيد فى الصباح ، وشنَّ حملة لتحطيم الأصنام فى الأصيل ! والنتيجة التى لا محيص عنها مصارع متتابعة ، ومتاعب متلاحقة ، ونزق يحمل الإسلام مغارمه دون جدوى !

وأريد أن أؤكد للشباب أن إقامة دين شىء ، واستيلاء جماعة من الناس على الحكم شىء آخر ، فإن إقامة دين تتطلب مقادير كبيرة من اليقين والإخلاص ونقاوة الصلة بالله ، كما تتطلب خبرة رحبة بالحياة ، والناس ، والأصدقاء ،

والخصوم ، ثم : حكمة ، تؤيدها العناية العليا فى الفعل والترك والسلم والحرب . .!

إن أناسا حكموا باسم الإسلام ، ففضحوا أنفسهم ، وفضحوا الإسلام معهم !! 

فكم من طالب حكم يؤزه إلى نشدان السلطة حب الذات ، وطلب الثناء ، وجنون العظمة !!

وكم من طالب حكم لا يدرى شيئا عن العلاقات الدولية ، والتيارات العالمية والمؤامرات السرية والجهرية !!

وكم من طالب حكم باسم الإسلام وهو لا يعرف مذاهب الإسلاميين فى الفروع والأصول ، فلو حكم لكان وبالا على إخوانه فى المعتقد ، يفضلون عليه حكم كافر عادل !

ولقد رأيت ناسا يتحدثون عن إقامة الدولة الإسلامية لا يعرفون إلا أن الشورى لا تلزم حاكما ، وأن الزكاة لا تجب إلا فى أربعة أنواع من الزروع والثمار ، وأن وجود هيئات معارضة حرام ، وأن الكلام فى حقوق الإنسان بدعة . . إلخ ، فهل يصلح هؤلاء لشىء ؟!

إننى أقوم بالعمل أحيانا ، ثم أراجع دوافعه فى نفسى ، فأشعر أنى لم أكن فيه مخلصا كما ينبغى ! غلبنى حب الدنيا أو الاعتداد بالنفس ، فأحس الألم والندم ، وأرى أنى ـ بهذا الخلط ـ لا أصلح لولاية الناس ، وجعل كلمة الله هى العليا . .

ذلك أن الله عندما يُهلك الظلمة لا يستخلف بعدهم ظلمة مثلهم ، إنما يستخلف مسلمين عُدولاً صالحين ، قال تعالى موضحا سبيل من يؤيدهم من خلقه : (وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا ۚ وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَىٰ مَا آذَيْتُمُونَا ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ * وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ۖ فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ۚ ذَٰلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ)

هناك نصاب من الكمال النفسى والعقلى لابد من تحصيله لمن يريد خدمة الدين ، وإقامة دولة باسمه ، واكتمال هذا النصاب لا يتم بغتة ، وإنما يتكوَّن مع "سياسة النَّفَس الطويل" . . ومعاذ الله أن أتهم غيرى بسوء النية ، ولكننى أريد تحصين نهضتنا من العلل التى لا تبلغ القصد ، ولا تحقق الهدف ».

من كتابه : #مشكلات_في_طريق_الحياة_الإسلامية

وسوم: العدد 816