المحن على الطريق وتساؤلات حولها -4-

[ باختصار من كتاب: طريق الدعوة. تأليف: مصطفى مشهور ]

ومما يُعَدُّ في ظاهره أضراراً أيضاً: التضييق على الدعوة والحيلولة دون انتشارها، بمنع الدعاة ومصادرة الكتب والمجلات والصحف. والحقيقة أنه وإن كان الإنتاج الأفقي في حقل الدعوة أثناء المحنة يقلّ بعض الشيء، فإنه يعوَّض بإنتاج رأسي، بمعنى أن الأفراد الذين يتعرضون للمحنة يزدادون إيماناً وتجربة وتمسكاً بدعوتهم، كما تتأصل فيهم معاني التجرد والثبات والتضحية والثقة بإخوانهم، والترابط والتآخي بينهم، ويصير الفرد أكثر إفادة لدعوته عما كان من قبل.

ومع ذلك فإن الذين يُشَرَّدون في أرض الله بسبب التضييق والاضطهاد في موطنهم الأصلي ينشرون الدعوة في الأماكن التي يذهبون إليها. هذا ما حدث في الصدر الأول للدعوة الإسلامية حيث انتشر الإسلام في المدينة على يد مَن هاجر إليها من مكة. وهذا أيضاً ما حدث في تاريخنا الحديث، فنرى للعمل الإسلامي وجوداً في كثير من بلاد أوروبا وأمريكا وغيرها على يد هؤلاء الذين شُرّدوا من بلادهم. وصدق الله العظيم إذ يقول: (يريدون أن يُطفئوا نورَ الله بأفواههم، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون).

ومن صور الأضرار التي أصابت الدعوة والدعاة في المحن: ما تعرّض له كثير من الأفراد من إيذاء وتعذيب وسجن واعتقال سنين طويلة، وهذا الأمر وإن كان ظاهره الضُرّ، فإنه في حقيقته خير. فإذا كان الشهداء بشهادتهم رمزاً للتضحية والفداء، فإنّ صبر هؤلاء الأفراد على التعذيب والإيذاء والسجن والاعتقال هو رمز للثبات مع الحق، وفي هذا زاد ووقود للأجيال الموجودة والقادمة إن شاء الله.

فلا شك أن الأخ المسلم الذي يتعرض لضغوط بدنية ومادية وأدبية متصلة دون أن تلين له قناة، وكان في استطاعته أن يُعفى من ذلك كله لو وافق على تأييد الظالم والتخلي عن العمل لدعوته، لا شك أنه صورة مشرّفة لثبات أهل الحق مع حقهم. والفضل في ذلك أولاً وأخيراً لله سبحانه وتعالى.

فإن تكن الأيام فينا تبدّلت       بنعمى وبؤسى والحوادث تفعلُ

فما ليّنَتْ منّـا قنـاةً صليبـةً       ولا ذلّــلَــتْـــــنـا للتي لـيــــس تـجمــــل

ولو تصورنا أن الجميع تخلوا عن حمل الراية وآثروا بَرد العافيةِ على لفح المحنة، لكان لذلك ردُّ فعل سيء، ولكانت تجربةً مثبّطة للعمل الإسلامي أمام الشباب والأجيال الناشئة.

وهكذا نرى أن هذا الذي ظاهره ضُرّ، في حقيقته خير عام للدعوة، وخير خاص لمن تعرّضوا لهذا الإيذاء وصبّرهم اللهُ عليه وثبّتهم على الحق، فلهم إن شاء الله أجر صبرهم واحتسابهم.

ومن الصور التي ظاهرها ضر أصاب الدعوة ما أُلصق بهم وبالدعوة من تُهم باطلة لتشويه الصورة ولتنفير الناس وصدّهم عن دعوة الله، فهذا ليس بالأمر الجديد أو الغريب على الدعوات الحق. فكم أُلصِق برسول الله صلى الله عليه وسلم من صفات ونعوت، فقالوا: ساحر، وقالوا: كاذب، وقالوا: مجنون. وإنّ هذا الذي جاء به يفرّق بين الرجل وأهله، إلى آخر هذه الحملة الزائفة ضد الإسلام ورسول الإسلام، ولكن الذي حدث بعد ذلك أن هذا الزيف لم يثبت أمام الحق، فانكشف واندثر، وثبت صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وأصالةُ دينه وما يدعو إليه.

والتاريخ يعيد نفسه: إرهابيون، إخوان الشياطين، عملاء للاستعمار يريدون نسف المنشآت وقتل الأبرياء للوصول للحكم...

ولكن يأبى اللهُ إلا أن تظهر الحقائق وينكشف الزيف، ويُقْبِل الشباب على الدعوة في صدق وإخلاص.

وسوم: العدد 845