بين الانتماء المذهبي والتعصب المذهبي أنموذج من وصف ظاهرة التعصب المذهبي وآثارها ونقد ذلك

رابطة علماء سورية

]من منشورات رابطة علماء سورية - بتصرّف يسير[

للعلامة سليل بيت العلم والدين والقضاء والمناصب الكبار القاضي تاج الدين أبي نصر ابن شيخ الإسلام تقي الدين السبكي الشافعي رحمه الله تعالى (727- 771) رحمه الله تعالى

ويلاحظ فيها شهادته على استفحال ظاهرة التعصب المذهبي.

أما استفحالها كيفية فبالوقوع في القبائح، ومن أقبحها: التفريط في الممادح وعظيم المصالح.

ومن شهادته على الوقوع في القبائح: 

قوله: "ولقد رأيتُ في طوائف المذاهب من يبالِغ في التعصُّب بحيث يمتنع بعضهم من الصلاة خلف بعض إلى غير ذلك ممَّا يستقبح ذكره". 

وأما وصول ذلك إلى التفريط في عظيم المصالح فقد قال التاج:

"فقل لهؤلاء المتعصّبين في الفروع: ويْحكم ذروا التعصب، ودعوا الهوى، ودافعوا عن دين الإِسلام، وشمّروا عن ساق الاجتهاد في حسم مادة من يسبّ الشيخين أبا بكر وعمر رضيَ اللَّه عنهما، ويقذف أمَّ المؤمنين عائشة رضي اللَّه عنها، التي نزل القرآن ببراءتها، وغضب الربّ تعالى لها، حتى كادت السماء تقع على الأرض، ومن يطعن في القرآن وصفات الرَّحمن.

فالجهاد في هؤلاء واجب؛ فهلَّا شغلتم أنفسكم به، ويا أيُّها الناس بينكم اليهود والنَّصارى قد مَلَأُوا بقاع البلاد، فمن الذي انتصبَ منكم للبحث معهم، والاعتناء بإرشادهم.

بل هؤلاء أهل الذمَّة في البلاد الإسلامية، تتركونهم هَمَلًا تستخدمونهم، وتستطِبّونهم، ولا نرى منكم فقيهًا يجلس مع ذميّ ساعة واحدة، يبحث معه في أصول الدين؛ لعلَّ اللَّه تعالى يهديه على يديه. 

وكان من فروض الكفايات ومهمَّات الدين أن تصرفوا بعض هممكم إلى هذا النوع.فيا أيها العلماء،في مثل هذا فاجتهدوا وتعصبوا.

فمن القبائح أنَّ بلادنا ملأى من علماء الإسلام، ولا نرى فيها ذميًّا دعاه إلى الإسلام مناظرةُ عالم من علمائنا، بل إنَّما يُسلم من يُسلم إمَّا لأمر من اللَّه تعالى، لا مدخل لأحد فيه، أو لغرض دنيويّ.

ثم قال: 

" ما بالكم تنكرون مثل هذه الفروع ولا تنكرون المحرَّمات المجمع عليها ولا تأخذكم الغيرة للَّه تعالى فيها! وإنَّما تأخذكم الغيرة للشافعي، وأبي حنيفة، والمدارس المزخرفة. فيؤدِّي ذلك إلى افتراق كلمتكم، وتسلّط الجهّال عليكم، وسقوط هيبتكم عند العامة، وقول السفهاء في أعراضكم ما لا ينبغي.

***

وأما شهادته على استفحال هذه الظاهرة من حيث الكيفية فمن ذلك قوله:

"فلعمر اللَّه لا أحصي من رأيته يشمِّر عن ساعد الاجتهاد في الإنكار على شافعي يذبح ولا يُسّمي، أو حنفيّ يلمس ذكرة، ولا يتوضأ، أو مالكيّ يصلِّي ولا يبسمل، أو حنبليّ يقدم الجمعة على الزوال؛ وهو يرى من العوامّ من يتركون الصلاة التي جزاء من تركها عند الشافعي ومالك وأحمد ضرب العنق، ولا ينكرون عليه، بل لعل بعض نسائه وأولاده من يتهاون فيها أو في واجبات أخرى،وهو غير مكترث.

* * *

ويلاحظ أنه نصح أرباب المذاهب بترك التعصب في الفروع والإقبال على حماية أصول الدين الكبرى وعقائده والدعوة إليها، وكذا أصول الشرائع المجمع عليها كإقامة الصلاة وتحريم الكذب والغيبة .

وبيَّن أنَّ طريقة هؤلاء المتعصبة ، وإن استفحلت كمية وكيفية ، مباينة لما كان عليه الأئمة الأربعة وأمثالهم رضي الله عنهم

قال رحمه الله تعالى:

"يا ويح هؤلاء! أين هم من اللَّه تعالى! ولو كان الشافعيّ وأبو حنيفة رحمهما اللَّه تعالى حيَّيْن لشدَّدا النكير على هذه الطائفة -وليتَ شعري لم لا تركوا أمر الفروع التي اختلف العلماء فيها على قولين، واشتغلوا بالردِّ على أهل البدع والأهواء!".

وقال رحمه الله تعالى:

"وأمَّا تعصّبكم في فروع الدين، وحملكم الناس على مذهب واحد فهو الذي لا يقبله اللَّه منكم، ولا لحملكم عليه إلَّا محض التعصُّب والتحاسُد. 

ولو أنَّ أبا حنيفة والشافعيّ ومالكًا وأحمد أحياء يُرزقون لشدَّدوا النكير عليكم، وتبرَّؤوا منكم فيما تفعلون". 

* * *

وقد تبيَّن بكلامه أن في أرباب المذاهب متعصبة قد استفحل تعصبهم وأداهم إلى قبائح عظيمة ظاهرة، وأن طريقة هؤلاء المتعصبة غير طريقة الأئمة، ودعاهم إلى أن يكون تمذهبهم على غير عصبية لسوى الإسلام وقواطعه ومحالّ الإجماع ومعاقده، وبهذا تجتمع الكلمة وتأتلف القلوب، وتكون المذاهب رحمة.

وسوم: العدد 1034