البعث الإسلامي

سيد قطب رحمه الله

تقف البشرية اليوم على حافة الهاوية.. لا بسبب التهديد بالفناء المعلق على رأسها، فهذا عَرَضٌ للمرض وليس هو المرض، ولكن بسبب إفلاسها في عالم "القيم" التي يمكن أن تنمو الحياةُ الإنسانية في ظلالها نمواً سليماً وتترقى ترقياً صحيحاً، وهذا واضحٌ كلَّ الوضوح في العالم الغربي، الذي لم يعد لديه ما يعطيه للبشرية من "القيم"، بل الذي لم يعد لديه ما يُقنع ضميرَه باستحقاقه للوجود، بعدما انتهت الديمقراطية فيه إلى ما يُشبه الإفلاس، حيث بدأت تستعير - ببطء - وتقتبس من أنظمة المعسكر الشرقي وبخاصة في الأنظمة الاقتصادية، تحت اسم "الاشتراكية"!

 كذلك الحال في المعسكر الشرقي نفسِه.. فالنظريات الجماعية وفي مقدمتها الماركسية التي اجتذبت في أول عَهْدِها عدداً كبيراً في الشرق - وفي الغرب نفسِه - باعتبارها مذهباً يحمل طابع العقيدة، قد تراجعت هي الأخرى تراجعاً واضحاً من ناحية "الفكرة"، حتى لتكاد تنحصر الآن في "الدولة" وأنظمتها، التي تبعد بعداً كبيراً عن أصول المذهب، وهي على العموم تُناهِضُ طبيعة الفطرة البشرية ومقتضياتها، ولا تنمو إلا في بيئةٍ محطمة، أو بيئةٍ قد ألفت النظامَ الدكتاتوري فتراتٍ طويلة، وحتى في مثل هذه البيئات ظهر فشلها الماديُّ الاقتصادي - وهو الجانبُ الذي تقوم عليه وتتبجح به – بسبب فشل النظام الذي يصادم الفطرة البشرية.

ولابد من قيادةٍ للبشرية جديدة..

إن قيادة الرجل الغربي للبشرية قد أوشكت على الزوال، لا لأن الحضارة الغربية قد أفلست مادياً أو ضَعُفَتْ من ناحية القوة الاقتصادية والعسكرية، ولكن لأن النظام الغربي قد انتهى دورُهُ لأنه لم يعد يملك رصيداً من "القيم" يسمح له بالقيادة.

لابد من قيادةٍ تملك إبقاءَ وتنمية الحضارة المادية التي وصلت إليها البشرية، عن طريق العبقرية الأوروبية في الإبداع المادي، وتزوِّدُ البشرية بقيم جديدةٍ جِدَّةً كاملة - بالقياس إلى ما عرفته البشرية - وبمنهج أصيل وإيجابي وواقعي في الوقت ذاته.

والإسلامُ - وَحْدَهُ - هو الذي يملك تلك القيم.. وهذا المنهج.

لقد أدَّت النهضة العلمية دَورَها.. هذا هو الدور الذي بدأت مطالعُه مع عصر النهضة في القرن السادسَ عشرَ الميلادي، ووصلت إلى ذروتها خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ولم تعد تملك رصيداً جديداً.

كذلك أدَّت "الوطنية" و"القومية" التي برزت في تلك الفترة، والتجمعاتُ الإقليمية عامة دورَها خلال هذه القرون، ولم تعد تملك هي الأخرى رصيداً جديداً.

ثم فشلت الأنظمة الفردية والأنظمة الجماعية في نهاية المطاف.

ولقد جاء دورُ "الإسلام" ودور "الأمة" في أشدِّ الساعات حرجاً وحيرةً واضطراباً، جاء دور الإسلام الذي لا يَتنكَّر للإبداع المادي في الأرض، لأنه يَعُدُّه من وظيفة الإنسان الأولى منذ أن عَهِدَ الله إليه بالخلافة في الأرض، ويعتبره - تحت شروطٍ خاصة - عبادةً لله، وتحقيقاً لغايةِ الوجود الإنساني.

{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة 30].

{وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات 56].

وجاء دورُ "الأمة المسلمة" لتحقق ما أراده الله بإخراجِها للناس: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ} [آل عمران 110].

{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة 143].

* * *

ولكن الإسلام لا يملك أن يؤدي دورَه إلا أن يتمثل في مجتمع، أي أن يتمثل في أمة، فالبشرية لا تستمع - وبخاصة في هذا الزمان - إلى عقيدةٍ مجردة، لا ترى مِصْدَاقَها الواقعيَّ في حياةٍ مشهودة.. ووجودُ الأمةِ المسلمة يُعتبر قد انقطع منذ قرون كثيرة، فالأمة المسلمة ليست "أرضاً" كان يعيش فيها الإسلام.. وليست "قوماً" كان أجدادُهم في عصرٍ من عصور التاريخ يعيشون بالنظام الإسلامي.. إنما "الأمة المسلمة" جماعة من البشر تنبثق حياتُهم وتصوراتُهم وأوضاعُهم وأنظمتهم وقِيمُهم وموازينهم كلها من المنهج الإسلامي، وهذه الأمة - بهذه المواصفات - قد انقطع وُجودُها منذ انقطاع الحُكمِ بشريعةِ الله من فوق ظهر الأرض جميعاً.

ولابد من "إعادةِ" وُجودِ هذه "الأمة"، لكي يؤدي الإسلامُ دَوْرَه المرتقبَ في قيادة البشرية مرةً أخرى.

لابد من "بَعثٍ" لتلك الأمة التي واراها رُكامُ الأجيال، ورُكامُ التصورات، وركام الأوضاع، وركام الأنظمة، التي لا صلة لها بالإسلام ولا بالمنهج الإسلامي.. وإن كانت لا تزال تزعم أنها قائمةً فيما يُسَمَّى "العالمَ الإسلامي"!

وأنا أعرف أن المسافة بين محاولة "البعث" وبين تسلم "القيادة" مسافةٌ شاسعة.. فقد غابت الأمة المسلمة عن "الوجود" وعن "الشهود" دَهْراً طويلاً، وقد تولت قيادةَ البشريةِ أفكارٌ أخرى وأممٌ أخرى وتصورات أخرى وأوضاع أخرى فترةً طويلة، وقد أبدعت العبقرية الأوروبية - هذه الفترة - رصيداً ضخماً من "العِلم" و"الثقافة" و"الأنظمة" و"الإنتاج المادي".. وهو رصيد ضخم تقف البشرية على قمته، ولا نُفَرِّطُ فيه ولا فِيمَنْ يمثله بسهولة.. وبخاصة أن ما يسمى "العالم الإسلامي" يكاد يكون عاطلاً من كلِّ هذه الزينة..

ولكن لابد - مع هذه الاعتبارات كلها - من "البعث الإسلامي" مهما تكن المسافة شاسعة بين مُحاولةِ البعث وبين تسلم القيادة، فمحاولة البعث الإسلامي هي الخطوةُ الأولى التي لا يمكن تخطيها.

* * *

ولكي نكون على بَيِّنةٍ من الأمر، ينبغي أن ندرك - على وجه التحديد - مؤهلاتِ هذه الأمة للقيادة البشرية، كي لا نخطئ عناصرَها في مُحاولةِ البعث الأولى.

إن هذه الأمة لا تملك الآن - وليس مطلوباً منها - أن تقدم للبشرية تفوقاً خارقاً في الإبداع المادي.. يَحْنِي لها الرقاب، ويفرض قيادتها العالمية من هذه الزاوية، فالعبقرية الأوروبية قد سبقتها في هذا المضمار سبقاً واسعاً، وليس من المنتظر - خلال عِدَّةِ قرون على الأقل - التفوق المادي عليها.

فلابد إذن من مؤهل آخر.. المؤهل الذي تفتقده هذه الحضارة..

إن هذا لا يعني أن نهمل الإبداع المادي، فمن واجبنا أن نحاول فيه جهدنا، ولكن لا بوصفه "المؤهل" الذي نتقدم به لقيادة البشرية في المرحلة الراهنة، إنما بوصفه ضرورةً ذاتية لوجودنا، كذلك بوصفه واجباً يفرضه علينا "التصورُ الإسلامي" الذي ينوط بالإنسان خلافة الأرض، ويجعلها - تحت شروطٍ خاصة - عبادةً لله، وتحقيقاً لغايةِ الوجودِ الإنساني.

لابد إذن من مؤهلٍ آخرَ لقيادةِ البشرية - غير الإبداع المادي - ولن يكون هذا المؤهلُ سوى "العقيدة" و"المنهج" الذي يسمح للبشرية أن تحتفظ بنجاح العبقرية المادية، تحت إشرافِ تصورٍ آخرَ يُلبِّي حاجة الفطرة كما يُلبِّيها الإبداع المادي، وأن تتمثل العقيدةُ والمنهجُ في تجمعٍ إنساني.. أيْ في مُجتمعٍ مُسلم.

* * *

إنْ العالم يعيش اليوم كله في "جاهلية" من ناحية الأصل الذي تنبثق منه مقوماتُ الحياة وأنظمتها، جاهليةٍ لا تخفف منها شيئاً هذه التيسيراتُ المادية الهائلة، وهذا الإبداع المادي الفائق!

هذه الجاهلية تقوم على أساس الاعتداء على سلطان الله في الأرض، وعلى أخصِّ خصائص الألوهية، وهي "الحاكمية".. إنها تُسنِدُ الحاكمية إلى البشر، فتجعل بعضَهم لبعض أرباباً، لا في الصورة البدائية الساذجة التي عرفتها الجاهلية الأولى، ولكن في صورة ادعاءِ حَقِّ وَضْع التصوراتِ والقيم، والشرائع والقوانين، والأنظمة والأوضاع، بِمَعْزِلٍ عن منهج الله للحياة، وفيما لم يأذن به الله، فينشأ عن هذا الاعتداء على سلطان الله اعتداءٌ على عباده، وما مَهانة "الإنسان" عامة في الأنظمة الجماعية، وما ظلم "الأفراد" والشعوب بسيطرةِ رأس المال والاستعمار في النظم "الرأسمالية" إلا أثرٌ من آثار الاعتداء على سلطان الله، وإنكارِ الكرامة التي قرَّرها الله للإنسان! وفي هذا يَتفرَّد المنهجُ الإسلامي.. فالناس في كل نظام غير النظام الإسلامي، يعبد بعضُهم بعضاً - في صورةٍ من الصُّور - وفي المنهج الإسلامي وَحْدَهُ يتحرر الناسُ جميعاً من عبادة بعضِهم لبعض، بعبادةِ الله وَحدَه، والتلقي من الله وحده، والخضوع لله وحده.

وهذا هو مفترق الطريق.. وهذا كذلك هو التصورُ الجديد الذي نملك إعطاءَه للبشرية - هو وسائر ما يترتب عليه من آثار عميقة في الحياة البشرية الواقعية - وهذا هو الرصيدُ الذي لا تملكه البشرية، لأنه ليس من "مُنتجات" الحضارة الغربية، وليس من منتجات العبقرية الأوروبية شرقية كانت أو غربية.

* * *

إننا - دون شك - نملك شيئاً جديداً جِدَّةً كاملة.. شيئاً لا تعرفه البشرية.. ولا تملك هي أن تنتجه.

ولكن هذا الجديد لابد أن يتمثل - كما قلنا - في واقع عملي.. لابد أن تعيش به أمة.. وهذا يقتضي عملية "بَعثٍ" في الرُّقعةِ الإسلامية، هذا البعث الذي يتبعه - على مسافةٍ ما بعيدةٍ أو قريبة - تسلمُ قيادةِ البشرية.

فكيف تبدأ عملية البعث الإسلامي؟

إنه لابد من طليعةٍ تعزم هذه العزمة.. وتمضي في الطريق.. تمضي في خضم الجاهلية الضاربة الأطناب في أرجاء الأرض جميعاً.. تمضي وهي تزاول نوعاً من العُزلةِ من جانب، ونوعاً من الاتصال من الجانب الآخر بالجاهلية المحيطة.

ولابد لهذه الطليعة التي تعزم هذه العزمة من "مَعالِمَ في الطريق".. معالم تعرف منها طبيعة دورها، وحقيقة وظيفتها، وصُلبَ غايتها.. ونقطة البدء في الرحلة الطويلة.. كما تعرف منها طبيعة موقفها من الجاهلية الضاربة الأطناب في الأرض جميعاً.. أين تلتقي مع الناس وأين تفترق؟ ما خصائصُها هي وما خصائصُ الجاهلية مِن حَوْلِها؟ كيف تخاطبُ أهلَ هذه الجاهلية بلغة الإسلام وفيم تخاطبها؟ ثم تعرف من أين تتلقى - في هذا كله - وكيف تتلقى؟

هذه المعالم لابد أن تُقام من المصدر الأول لهذه العقيدة.. القرآن.. ومن توجيهاته الأساسية، ومن التصور الذي أنشأه في نفوس الصفوة المختارة، التي صنع الله بها في الأرض ما شاء أن يَصنع، والتي حولت خَطَّ سَيْرِ التاريخ مَرَّةً إلى حيث شاء الله أن يَسير.

* * *

هذه المقالة هي مقدمة كتاب (معالم في الطريق) لسيد قطب رحمه الله، والعنوان مقتبس من السياق.