أفراح الروح

سيد قطب رحمه الله

أختي الحبيبة.. هذه الخواطر مهداة إليك..

الخاطرة الأولى..

إن فكرة الموت ما تزال تخيل لك، فتتصورينه في كل مكان، ووراء كل شيء، وتحسِّينه قوةً طاغية تُظِلُّ الحياة والأحياء، وترين الحياة بجانبه ضئيلة واجفة مذعورة. إنني أنظر اللحظة فلا أراه إلا قوة ضئيلة حسيرة بجانب قوى الحياة الزاخرة الطافرة الغامرة، وما يكاد يصنع شيئاً إلا أن يلتقط الفتاتَ الساقط من مائدة الحياة ليقتات!.. مَدُّ الحياة الزاخر هو ذا يعج من حولي.. كل شيء إلى نماء وتدفق وازدهار.. الأمهات تحمل وتضع، الناس والحيوان سواء، الطيور والأسماك والحشرات تدفع بالبيض المتفتح عن أحياء وحياة.. الأرض تتفجر بالنبت المتفتح عن أزهار وثمار.. السماء تتدفق بالمطر.. والبحار تعج بالأمواج.. كل شيء ينمو على هذه الأرض ويزداد!.

بين الحين والحين يندفع الموت فينهش نهشة ويمضي، أو يقبع حتى يلتقط بعضَ الفتات الساقط من مائدة الحياة ليقتات!.. والحياة ماضية في طريقها، حية متدفقة فوارة، لا تكاد تحس بالموت أو تراه.

قد تصرخ مرة من الألم، حين ينهش الموت من جسمها نهشة، ولكن الجرح سرعان ما يندمل، وصرخة الألم سرعان ما تستحيل مراحاً.. ويندفع الناس والحيوان، والطير والأسماك، الدود والحشرات، العشب والأشجار، تغمر وجه الأرض بالحياة والأحياء! والموت قابع هنالك ينهش نهشة ويمضي.. أو يتسقط الفتات الساقط من مائدة الحياة ليقتات.

الشمس تطلع، والشمس تغرب، والأرض من حولها تدور، والحياة تنبثق من هنا ومن هناك.. كل شيء إلى نماء.. نماء في العدد و النوع، نماء في الكم والكيف.. لو كان الموت يصنع شيئاً لوقف مد الحياة!.. ولكنه قوة ضئيلة حسيرة، بجانب قوى الحياة الزاخرة الطافرة الغامرة.

من قوة الله الحي.. تنبثق الحياة وتنداح..

الخاطرة الثانية..

عندما نعيش لذواتنا فحسب، تبدو لنا الحياة قصيرة ضئيلة، تبدأ من حيث بدأنا نعي، وتنتهي بانتهاء عمرنا المحدود.

أما عندما نعيش لغيرنا، أي عندما نعيش لفكرة، فإن الحياة تبدو طويلة عميقة، تبدأ من حيث بدأت الإنسانية وتمتد بعد مفارقتنا لوجه هذه الأرض.

إننا نربح أضعافَ عمرنا الفردي في هذه الحالة، نربحها حقيقة لا وهماً، فتصوُّرُ الحياة على هذا النحو، يُضاعف شعورَنا بأيامنا وساعاتنا ولحظاتنا.. وليست الحياة بعدِّ السنين، ولكنها بعداد المشاعر. وما يسميه "الواقعيون" في هذه الحالة "وهماً" هو في الواقع "حقيقة" أصح من كل حقائقهم.. لأن الحياة ليست شيئاً آخر غير شعور الإنسان بالحياة. جَرِّدْ أيَّ إنسان من الشعور بحياته تجرده من الحياة ذاتها في معناها الحقيقي! ومتى أحس الإنسان شعوراً مضاعفاً بحياته، فقد عاش حياة مضاعفة فعلاً.

يبدو لي أن المسألة من البداهة بحيث لا تحتاج إلى جدال.

إننا نعيش لأنفسنا حياةً مضاعفة حينما نعيش للآخرين، وبقدر ما نضاعف إحساسَنا بالآخرين، نضاعف إحساسَنا بحياتنا، ونضاعف هذه الحياة ذاتها في النهاية!.

الخاطرة الثالثة..

بذرة الشر تهيج، ولكن بذرة الخير تثمر، إن الأولى ترتفع في الفضاء سريعاً ولكن جذورها في التربة قريبة، حتى لتحجب عن شجرة الخير النور والهواء، ولكن شجرة الخير تظل في نموها البطيء، لأن عمق جذورها في التربة يعوِّضُها عن الدفء والهواء..

مع أننا حين نتجاوز المظهرَ المزوَّر البراق لشجرةِ الشر، ونفحص عن قوتها الحقيقية وصلابتها، تبدو لنا واهنة هشة نافشة في غير صلابة حقيقية.. على حين تصبر شجرة الخير على البلاء، وتتماسك للعاصفة، وتظل في نموها الهادئ البطيء، لا تحفل بما ترجمها به شجرةُ الشر من أقذاء وأشواك.

الخاطرة الرابعة..

عندما نلمس الجانبَ الطيِّب في نفوس الناس، نجد أن هناك خيراً كثيراً قد لا تراه العيون أولَ وهلة..

لقد جَرَّبتُ ذلك.. جربته مع الكثيرين.. حتى الذين يبدو في أول الأمر أنهم شريرون أو فقراء الشعور..

شيء من العطف على أخطائهم وحماقاتهم، شيء من الوُدِّ الحقيقي لهم، شيء من العناية - غير المتصنعة - باهتماماتهم وهمومهم.. ثم ينكشف لك النبعُ الخَيِّرُ في نفوسهم، حين يمنحونك حُبَّهُم ومودتهم وثقتهم، في مقابل القليل الذي أعطيتهم إياه من نفسك، متى أعطيتهم إياه في صدق وصفاء وإخلاص. إن الشر ليس عميقاً في النفس الإنسانية إلى الحد الذي نتصوره أحياناً. إنه في تلك القشرة الصلبة التي يواجهون بها كفاحَ الحياة للبقاء.. فإذا أمنوا تكشفتْ تلك القشرةُ الصلبة عن ثمرةٍ حلوة شهية.. هذه الثمرة الحلوة، إنما تتكشف لمن يستطيع أن يَشعُرَ الناسُ بالأمن من جانبه، بالثقة في مودته، بالعطف الحقيقي على كفاحهم وآلامهم، وعلى أخطائهم أو على حماقاتهم كذلك.. وشيء من سَعةِ الصدر في أول الأمر كفيلٌ بتحقيق ذلك كله، أقرب مما يتوقع الكثيرون.. لقد جربت ذلك، جربته بنفسي.. فلست أطلقها مجردَ كلماتٍ مجنحةٍ وليدةِ أحلام وأوهام.

الخاطرة الخامسة..

عندما تنمو في نفوسنا بذورُ الحُبِّ والعطف والخير نعفي أنفسَنا من أعباءٍ ومشقاتٍ كثيرة. إننا لن نكون في حاجة إلى أن نتملق الآخرين، لأننا سنكون يومئذ صادقين مخلصين إذ نزجي إليهم الثناء. إننا سنكشف في نفوسهم عن كنوز من الخير وسنجد لهم مزايا طيبة نثني عليها حين نثني ونحن صادقون، ولن يعدم إنسان ناحية خَيِّرةً أو مَزِيَّة حسنة تؤهله لكلمة طيبة.. ولكننا لا نَطَّلعُ عليها ولا نراها إلا حين تنمو في نفوسنا بذرةُ الحُب..

كذلك لن نكون في حاجةٍ لأن نُحَمِّلَ أنفسَنا مَؤُونة التضايق منهم، ولا حتى مؤونة الصبر على أخطائهم وحماقاتهم، لأننا سنعطف على مواضع الضعف والنقص ولن نفتش عنها لنراها.. يومَ تنمو في نفوسنا بذرةُ العطف.. وبطبيعة الحال لن نجشم أنفسَنا عناءَ الحقد عليهم أو عبء الحذر منهم، فإنما نحقد على الآخرين لأن بذرة الخير لم تنمُ في نفوسنا نمواً كافياً، ونتخوف منهم لأن عنصر الثقة في الخير ينقصنا..

كم نمنح أنفسنا من الطمأنينة والراحة والسعادة، حين نمنح الآخرين عطفنا وحُبَّنا وثقتنا، يوم تنمو في نفوسنا بذرة الحب والعطف والخير.

الخاطرة السادسة..

حين نعتزل الناسَ لأننا نحسُّ أننا أطهرُ منهم رُوحاً، أو أطيب منهم قلباً، أو أرحب منهم نفساً، أو أذكى منهم عقلاً، لا نكون قد صنعنا شيئاً كبيراً.. لقد اخترنا لأنفسنا أيسرَ السبل وأقلها مؤونة!.

إن العظمة الحقيقية.. أن نخالط هؤلاء الناس مُشَبَّعِينَ بروح السماحة والعطف على ضعفهم ونقصهم وخطئهم، وروح الرغبة الحقيقية في تطهيرهم وتثقيفهم ورفعهم إلى مستوانا بقدر ما نستطيع..

وليس معنى هذا أن نتخلى عن آفاقنا العليا ومثلنا السامية، أو أن نتملق هؤلاء الناس ونثني على رذائلهم، أو أن نُشْعِرَهم أننا أعلى منهم أفقاً.. إن التوفيق بين هذه المتناقضات وسَعةَ الصدر لما يتطلبه هذا التوفيق من جهد.. هو العظمة الحقيقية.

الخاطرة السابعة..

عندما نصل إلى مستوى معين من القدرة، نحس أنه لا يعيبنا أن نطلب مساعدةَ الآخرين لنا، حتى أولئك الذين هم أقل منا مقدرة!.

ولا يغضُّ من قيمتنا أن تكون معونةُ الآخرين لنا قد ساعدتنا على الوصول إلى ما نحن فيه. إننا نحاول أن نصنع كل شيء بأنفسنا، ونستنكف أن نطلب عون الآخرين لنا، أو أن نضم جهدهم إلى جهودنا!.. نستشعر الغضاضة في أن يعرف الناسُ أنه كان لذلك العون أثرٌ في صعودنا إلى القمة. إننا نصنع هذا كله حين لا تكون ثقتنا بأنفسنا كبيرة، أي عندما نكون بالفعل ضعفاء في ناحيةٍ من النواحي.. أما حين نكون أقوياء حقاً فلن نستشعر من هذا كله شيئاً.. إن الطفل هو الذي يحاول أن يبعد يدك التي تسنده وهو يتكفأ في المسير.

عندما نصل إلى مستوى معين من القدرة، سنستقبل عون الآخرين لنا بروح الشكر والفرح.. الشكر لما يقدم لنا من عون.. والفرح بأن هناك مَن يُؤمِن بما نؤمن به نحن.. فيشاركنا الجهدَ والتبعة.. إن الفرحَ بالتجاوب الشعوري هو الفرحُ المُقدَّسُ الطليق.

الخاطرة الثامنة..

إننا نحن إنْ "نحتكر" أفكارَنا وعقائدنا، ونغضب حين ينتحلها الآخرون لأنفسهم، ونجتهد في توكيد نسبتها إلينا، وعدوان الآخرين عليها! إننا إنما نصنع ذلك كله، حين لا يكون إيماننا بهذه الأفكار والعقائد كبيراً، حين لا تكون منبثقة من أعماقنا، كما لو كانت بغير إرادة منا حين لا تكون هي ذاتها أحبَّ إلينا من ذواتنا.

إن الفرح الصافي هو الثمرة الطبيعية لأن نرى أفكارنا وعقائدنا ملكاً للآخرين ونحن بَعدُ أحياء.. إن مجرد تصورنا لها أنها ستصبح - و لو بعد مفارقتنا لوجه هذه الأرض - زاداً للآخرين وَرِيّاً، ليكفي لأن تفيضَ قلوبُنا بالرضا والسعادة والاطمئنان.

"التجارُ" وَحدَهم هم الذين يحرصون على "العلامات التجارية" لبضائعهم كي لا يستغلها الآخرون ويسلبوهم حقهم من الرِّبح، أما المفكرون وأصحابُ العقائد فكل سعادتهم في أن يتقاسم الناسُ أفكارَهم وعقائدهم ويؤمنوا بها إلى حَدِّ أن ينسبوها لأنفسِهم لا إلى أصحابها الأولين.

إنهم لا يعتقدون أنهم "أصحابُ" هذه الأفكار والعقائد، وإنما هم مجرد "وسطاء" في نقلها وترجمتها.. إنهم يحسون أن النبع الذي يستمدون منه ليس من خلقهم، ولا من صُنع أيديهم.. وكل فرحهم المقدس إنما هو ثمرة اطمئنانهم إلى أنهم على اتصال بهذا النبع الأصيل.

 

الخاطرة التاسعة..

الفرق بعيد.. جِدُّ بعيد.. بين أن نفهم الحقائق، وأن ندرك الحقائق..

إن الأولى هي: العلم.. والثانية هي: المعرفة.

في الأولى نحن نتعامل مع ألفاظٍ ومَعان مجردة.. أو مع تجاربَ ونتائجَ جزئية.. وفي الثانية نحن نتعامل مع استجاباتٍ حية، ومُدرَكاتٍ كلية.

في الأولى ترد إلينا المعلومات من خارج ذواتنا، ثم تبقى في عقولنا متحيزةً متميزة.. وفي الثانية تنبثق الحقائق من أعماقنا. يجري فيها الدَّمُ الذي يجري في عروقنا وأوشاجنا، ويتسق إشعاعُها مع نبضنا الذاتي.

في الأولى توجد "الخانات" والعناوين، خانة العلم.. وتحتها عنواناته وهي شتى، خانة الدين.. وتحتها عنوانات فصوله وأبوابه.. وخانة الفن وتحتها عنوانات مناهجه واتجاهاته.

وفي الثانية توجد الطاقة الواحدة، المتصلة بالطاقة الكونية الكبرى.. يوجد الجدول السارب، الواصل إلى النبع الأصيل.

 

الخاطرة العاشرة..

نحن في حاجة ملحة إلى المتخصصين في كل فرع من فروع المعارف الإنسانية، أولئك الذين يتخذون من معاملهم ومكاتبهم صوامعَ وأديرة.. ويَهَبون حياتَهم للفرع الذي تخصصوا فيه، لا بشعور التضحية فحسب، بل بشعور اللذة كذلك.. شعور العابد الذي يهب روحَه لإلهه وهو فرحان.. ولكننا مع هذا يجب أن ندرك أن هؤلاء ليسوا هم الذين يُوَجِّهُون الحياة، أو يختارون للبشرية الطريق.

إن الرواد كانوا دائماً وسيكونون هم أصحاب الطاقات الروحية الفائقة، هؤلاء هم الذين يحملون الشعلة المقدسة التي تنصهر في حرارتِها كلُّ ذَرَّات المعارف، وتنكشف في ضوئها طريق الرحلة، مزودةً بكل هذه الجزئيات، قوية بهذا الزاد، وهي تغذُّ السَّيْرَ نحوَ الهدف السامي البعيد.

هؤلاء الروادُ هم الذين يُدركون ببصيرتهم تلك الوحدة الشاملة، المتعددةَ المظاهر في: العلم، والفن، والعقيدة، والعمل، فلا يحقرون واحداً منها ولا يرفعونه فوق مستواه.

الصِّغارُ وحدَهم.. هم الذين يعتقدون أن هناك تعارضاً بين هذه القوى المتنوعةِ المظاهر، فيحاربون العِلمَ باسم الدين، أو الدينَ باسم العلم، ويَحتقرون الفن باسم العمل، أو الحيوية الدافعة باسم العقيدة المتصوفة.. ذلك أنهم يدركون كل قوة من هذه القوى، منعزلة عن مجموعة من القوى الأخرى الصادرة كلها من النبع الواحد من تلك القوة الكبرى المسيطرة على هذا الوجود.. ولكن الرواد الكبار يدركون تلك الوحدة، لأنهم متصلون بذلك النبع الأصيل، ومنه يَستمدون.

إنهم قليلون.. قليلون في تاريخ البشرية.. بل نادرون! ولكن منهم الكفاية.. فالقوة المشرفة على هذا الكون، هي التي تصوغهم، وتبعث بهم في الوقت المُقدَّرِ المطلوب.

 

الخاطرة الحادية عشرة..

الاستسلام المطلق للاعتقاد في الخوارق والقوى المجهولةِ خطر، لأنه يقود إلى الخرافة.. وَيُحَوِّلُ الحياةَ إلى وهم كبير.. ولكن التنكرَ المطلق لهذا الاعتقاد ليس أقلَّ خطراً.. لأنه يُغلِقُ مَنافذَ المجهول كله، ويُنكر كل قوة غير منظورة لا لشيء إلا لأنها قد تكون أكبرَ من إدراكنا البشري في فترةٍ من فترات حياتنا! وبذلك يُصَغِّرُ من هذا الوجودِ مساحةً وطاقةً قيمة كذلك، ويحدُّهُ بحدودِ "المعلوم".. وهو إلى هذه اللحظة حين يُقاس إلى عظمةِ الكون ضئيلٌ.. جِدُّ ضئيل..

إن حياة الإنسان على هذه الأرض سلسلة من العجز عن إدراك القوى الكونية، أو سلسلة من القدرة على إدراك هذه القوى، كلما شَبَّ عن الطوق وخطا خطوةً إلى الأمام في طريقه الطويل.

إن قدرة الإنسان في وقتٍ بعدَ وقتٍ على إدراك إحدى قوى الكون التي كانت مجهولة له منذ لحظة.. وكانت فوق إدراكه في وقتٍ ما.. لكفيلةٌ بأن تفتح بصيرتَه على أن هناك قوى أخرى لم يدركها بَعدُ لأنه لا يزال في دور التجريب.

إن احترامَ العقل البشري ذاته لخليق بأن نحسب للمجهول حسابه في حياتنا، لا لنكل إليه أمورَنا كما يصنع المتعلقون بالوهم والخرافة، ولكن لكي نحسّ عظمة هذا الكون على حقيقتها، ولكي نعرف لأنفسِنا قدرَها في كيان هذا الكون العريض.. وإن هذا لخليق بأن يفتح للروح الإنسانية قوى كثيرةً للمعرفة، وللشعور بالوشائج التي تربطنا بالكون من داخلنا، وهي بلا شك أكبر وأعمق من كل ما أدركناه بعقولنا حتى اليوم، بدليل أننا لا نزال نكشفُ في كلِّ يوم عن مجهول جديد، وأننا لا نزال بعد نعيش.

 

الخاطرة الثانية عشرة..

من الناس في هذا الزمان مَن يرى في الاعتراف بعظمة الله المطلقة غضاً من قيمة الإنسان وإصغاراً لشأنه في الوجود، كأنما الله والإنسان نِدَّانِ يتنافسانِ على العظمة والقوة في هذا الوجود.

أنا أحسُّ أنه كلما ازددنا شعوراً بعظمة الله المطلقة.. زدنا نحن أنفسنا عظمة لأننا من صُنعِ إلهٍ عظيم..

إن هؤلاء الذين يحسبون أنهم يرفعون أنفسَهم حين يخفضون - في وهمهم - إلهَهُم أو ينكرونه، إنما هم المحدودون الذين لا يستطيعون أن يروا إلا الأفق الواطئ القريب!.

إنهم يظنون أن الإنسان إنما لجأ إلى الله إبَّانَ ضعفِه وعجزه! فأما الآن فهو من القوة بحيث لا يحتاج إلى إله! كأنما الضعف يفتح البصيرة.. والقدرة تطمسها!.

إن الإنسان لجديرٌ بأن يزداد إحساساً بعظمة الله المطلقة كلما نمت قوته، لأنه جدير بأن يدرك مصدرَ هذه القوة كلما زادت طاقته على الإدراك..

إن المؤمنين بعظمةِ الله المطلقة لا يجدون في أنفسهم ضَعةً ولا ضعفاً، بل على العكس يجدون في نفوسهم العِزَّةَ والمَنَعَة باستنادهم إلى القوة الكبرى المسيطرة على هذا الوجود. إنهم يَعرفون أن مَجالَ عظمتهم إنما هو في هذه الأرض وبين هؤلاء الناس، فهي لا تصطدم بعظمة الله المطلقة في هذا الوجود. إن لهم رصيداً من العظمة والعزة في إيمانهم العميق لا يجده أولئك الذين ينفخون أنفسَهم كـ "البالون"، حتى ليغطي الوَرَمُ المنفوخ عن عيونهم كلَّ آفاق الوجود!.

 

الخاطرة الثالثة عشرة..

أحياناً تتخفى العبودية في ثياب الحرية، فتبدو انطلاقاً من جميع القيود، انطلاقاً من العُرفِ والتقاليد، انطلاقاً من تكاليفِ الإنسانية في هذا الوجود!.

إن هنالك فارقاً أساسياً بين الانطلاق من قيود الذل والضغط والضعف، والانطلاق من قيود الإنسانية وتبعاتها، إن الأولى معناها التحرر الحقيقي، أما الثانية فمعناها التخلي عن المُقوِّماتِ التي جعلت من الإنسان إنساناً.. وأطلقته من قيود الحيوانية الثقيلة..

إنها حرية مُقنَّعة.. لأنها في حقيقتها خضوع وعبودية للميول الحيوانية، تلك الميول التي قضت البشرية عُمرَها الطويل وهى تكافحها للتخلص من قيودها الخانقة إلى جَوِّ الحرية الإنسانية الطليقة..

لماذا تخجل الإنسانية من إبداء ضروراتِها؟ لأنها تحسُّ بالفطرة أن السُّمُوَّ مع هذه الضروريات هو أولُ مقومات الإنسانية، وأن الانطلاق من قيودها هو الحرية، وأن التغلبَ على دوافع اللحم والدم وعلى مخاوفِ الضعف والذل كلاهما سواء في توكيد معنى الإنسانية..

 

الخاطرة الرابعة عشرة..

لستُ ممن يؤمنون بحكاية المبادئ المجردة عن الأشخاص، لأنه ما المبدأ بغير عقيدةٍ حارةٍ دافعة؟ وكيف توجد العقيدة الحارة الدافعة في غير قلب إنسان؟

إن المبادئ والأفكار في ذاتها - بلا عقيدة دافعة - مجردُ كلماتٍ خاوية أو على الأكثر مَعانٍ ميتة! والذي يمنحها الحياةَ هي حرارةُ الإيمان المشعة من قلب إنسان! لن يؤمن الآخرون بمبدأ أو فكرةٍ تنبت في ذهن باردٍ لا في قلبٍ مشع.

آمِنْ أنتَ أولاً بفكرتك، آمِن بها إلى حَدِّ الاعتقاد الحار.. عندئذ فقط يؤمن بها الآخرون.. وإلا فستبقى مجردَ صياغةٍ لفظية خالية من الروح والحياة..

لا حياة لفكرةٍ لم تتقمَّصْ رُوحَ إنسان، ولم تصبح كائناً حياً دَبَّ على وجه الأرض في صورةِ بشر.. كذلك لا وجود لشخص - في هذا المجال - لا تعمر قلبَه فكرةٌ يؤمن بها بحرارة وإخلاص..

إن التفريق بين الفكرة والشخص كالتفريق بين الرُّوح والجسد أو المعنى واللفظ، عملية - في بعض الأحيان - مستحيلة، وفي بعض الأحيان تحمل معنى التحلل والفناء.. كلُّ فكرةٍ عاشت قد اقتاتت قلبَ إنسان..

أما الأفكار التي لم تَطْعَمْ هذا الغذاءَ المُقدَّس، فقد وُلِدَتْ ميتة ولم تدفع بالبشرية شبراً واحداً إلى الأمام.

 

الخاطرة الخامسة عشرة..

من الصعب عليَّ أن أتصور كيف يمكن أن نصل إلى غايةٍ نبيلة باستخدام وسيلةٍ خسيسة؟! إن الغاية النبيلة لا تحيا إلا في قلب نبيل، فكيف يمكن لذلك القلب أن يطيق استخدامَ وسيلةٍ خسيسة؟ بل كيف يهتدي إلى استخدام هذه الوسيلة؟! حين نخوض إلى الشَّطِ المُمْرَعِ بِركةً من الوحل لابد أن نصل إلى الشط مُلوَّثِين.. إن أوحالَ الطريق ستترك آثارَها على أقدامنا وعلى مواضع هذه الأقدام، كذلك الحال حين نستخدم وسيلة خسيسة، إن الدَّنَسَ سيعلق بأرواحِنا، وسيترك آثارَه في هذه الأرواح، وفي الغاية التي وصلنا إليها.. إن الوسيلة في حسابِ الرُّوح جزءٌ من الغاية، ففي عالم الروح لا توجد هذه الفوارق والتقسيمات! الشعور الإنساني وحده إذا أحسَّ غايةً نبيلة فلن يطيق استخدامَ وسيلةٍ خسيسة.. بل لن يهتدي إلى استخدامها بطبيعته.. "الغاية تبرر الوسيلة"؟!.. تلك هي حكمة الغرب الكبرى!! لأن الغربَ يَحيا بذهنه، وفي الذهن يُمكِنُ أن توجد التقسيماتُ والفوارق بين الوسائلِ والغايات!.