بيان الرئيس شكري القوتلي إلى الشعب بعد الانفصال

بيان الرئيس شكري القوتلي

إلى الشعب بعد الانفصال

23 تشرين الأول (أكتوبر) 1961

 

أيها المواطنون الأعزاء، 

لو اختارني الله شهيداً في المعارك التي خضتها إلى جانبكم، منذ خمسين عاماً وأكثر، لأكرم الله شهادتي بجواره، ولكان يوم شهادتي أفضل أيام عمري. أما وقد كتب الله لي أن أرافق طويلاً تاريخ وقائعكم وجهادكم لأذوق من الحياة معكم مرها وحلوها، وأجلس معكم مجالس هوانها ومجدها، فإنني أقلب اليوم صفحات هذا التاريخ الحافل وأشعر من الأعماق أنه من حقكم عليّ، ومن حق الله وهذا التاريخ، أن أقول لكم بأنه ليس في عمري كله أفضل وآثر من يومين اثنين: يوم رفعت باسمكم راية الجلاء وعلم الاستقلال في السابع عشر من نيسان عام 1946، ويوم أعلنت باسمكم في مجلس النواب السوري في الخامس من شباط 1958 وحدة الجزءين العربيين سورية ومصر.

وعندما أخذت من أكفكم مجتمعة مفتاح الاستقلال لأضعه أمام باب الوحدة العربية، كنت على يقين يشبه طمأنينة العبادة بأن الله العلي القدير الذي بيده مفتاح كل مصير، قد أذن لي بأن أختم حياتي السياسية أشرف ختام، لا سيما وقد أغدقتم عليّ من مجد التحايا كمواطن عربي سلم الأمانة بمثل ما أغدقتم على المواطن العربي الذي أحطتموه بقلوبكم وأصدق آمالكم حينما وضعتم على كتفيه أعباء الأمانة.

بل كنت أشعر أنكم تودعون رئيسكم وعهدكم الذي أنهيتموه بأطيب ما تستقبلون رئيسكم وعهدكم الذي تقبلون عليه، يقيناً منكم أن من يقرأ الماضي قد يكفيه أن ينظر بعين واحدة، أما من يقرأ في غيب المستقبل إنما يجب أن يقرأ بألف عين، وأن المرحلة الجديدة التي تواجهونها لهي أمر عظيم وحدث جلل.

ويشهد الله أنكم كنتم في الأمر الذي عزمتم عليه صادقين كل الصدق، واثقين كل الثقة بأنكم إنما وضعتم مصيركم في الضفة العليا من الطموح القومي المثالي، طموح الشهداء والمجاهدين الأبرار الأخيار من أخوتكم بعد آبائكم وأجدادكم، الذين لم يبخلوا على مثالياتكم بتضحية مصالحهم وأموالهم وما يملكون، بل قد سفحوا تحت قدم المثالية العربية أطهر الأرواح وأزكي الدماء. يشهد الله أنكم أقبلتم على قيادتكم العربية، في ظل الوحدة، بكل شعور مطمئن ونفس راضية، مهما عرف عنكم من تبصر وحذر إزاء الحكم والحكام، ومهما عرفتم به من حذر وتشكك نحو ما يبذل بين أيديكم من عهود ووعود. وإن يكن الوطن في واقعه اليومي الذي لا مفر منه، ولا سبيل إلى الإشاحة عنه، مجموعة مصالح ومجتمع أفراد، فقد كنتم يوم الوحدة، كما كنتم في أيام مشهودة من تاريخ جهادكم، ترتفعون فوق مستوى الاعتبارات المصلحية لأن عاطفتكم القومية كانت دائماً نداء واستجابة للنداء، وعطاء واستعداداً للعطاء.

في هذا الخطاب الذي أوجهه اليوم إليكم، أيها الأعزاء، لأشهد الله على ما أعرف وأقول، فإنني أشهده تعالى، وهو العليم الشهيد، على أنكم باختياركم الوحدة المطلقة ونظام الحكم الرئاسي، إنما كنتم تقدرون بكل تأكيد، وتتوقعون بلا شبهات، إنكم بهيئاتكم وأفرادكم، ستشتركون اشتراكاً عملياً في بناء الوحدة وتنظيم كيانها، وتحمل التبعات في تقرير مستقبلها وتوسيع آفاقها، وتشميل دعوتها واجتذاب قلوب العرب إليها بأي شكل من أشكال الوحدة والاتحاد، لأن الوحدة لا تعني عملية ضم، والنظام الرئاسي لا يعني انعزال الراعي عن الرعية. وإنكم وأنتم طلائع

دعوة الوحدة في أرض العرب، لا تنقصكم مزايا الشعب الواعي ومآثر المواطنين المجربين  في ساحة المعركة، ولا تعوزكم فضائل الذكاء المنظم والعقل المستنير والإيمان القويم.

أقول، كنتم تطمحون عن حق إلى المشاركة في بناء الوحدة وتوطيد دعامتها وتنظيم واقعها، خروجاً بها من حيز العواطف إلى حدود العقل، ومن تجريد الأمل إلى واقع الحياة العملية، لأن أعز ما في الدنيا على الإنسان أن يضع بيده تصوراته، ويصوغ من المادة الملموسة أحلامه. ولقد كانت الوحدة، يوم أذنتم لي أن أعلنها باسمكم، ذروة الحلم الجميل والأماني العذاب، فما أجمل وما أعذب أن تعمل أيديكم في تطهيرها وهندسة شكلها وتخطيط وضعها، وما أعظمها وحدة تمت بالمشاركة الروحية واستقرت بالمشاركة العملية. وإنني لعلى يقين عظيم بأنكم كنتم وستبقون أبداً في حركة البناء العربي الجبار، مهندسي بناء، لا مخربين، وقادحي فكرة، لا مصطلين.

أيها المواطنون، أخواني وأبنائي،

بعد غياب يزيد عن الشهرين، سمعت من البعيد بأنباء وثبتكم وانتفاضة جيشكم الأمين. وعندما عدت إليكم، وجدت نفسي أمام أسئلة وأسئلة تبادرني من حركاتكم وسكناتكم، ومن قلوبكم وألسنتكم. وكان عليّ أن أرد على أسئلتكم وما يجول في خواطركم.

بجملة صغيرة أجيب على كل ما تتساءلون عنه وتطيلون التساؤل: إنني معكم وإلى جانبكم. إنني أقف معكم لا لأنني أنصركم ظالمين أو مظلومين، فحاشا أن أنحاز إلى الباطل أو أتنكب طريق الصواب. بل إنني معكم وإلى جانبكم لأنني أعرفكم معرفة رفقة لصيقة، وسير على الطريق الطويل، وأعرف إنه لا يمكن، مهما بلغت بكم عظائم الأمور، أن تجتمعوا على باطل وتجمعوا على ضلال.بهذه الكلمات افتتح الجواب على أسئلتكم، وبكلمات قليلة أختتمه لأقول لكم إن خيبة أملي لكبيرة، وذهني يطوف حائراً في معالم التاريخ القريب، يتحرى معكم إيضاحاً وبياناً.

لماذا استحالت الوحدة إلى سراب؟ لماذا وثب عليها من كان سبّاقاً في الوثوب إليها؟ لماذا أصبحت الوحدة، في واقعها العملي شكلاً لم يكن مألوفاً في عالم الشوق العظيم والأمنيات الرائعة؟ هل ضخمتها تصوراتنا، فضلّت بنا التصورات؟

أم أن العاطفة المثالية التي كانت بكل عنفوانها وراء الوحدة قد وضعت وضعاً مهيناً في الإطار التجريبي الذي أحاط بواقع الوحدة؟

إنني أستطيع أن أقول باسمكم، أيها المواطنون، إنكم لم تفقدوا أبداً حماستكم المؤمنة بوحدة العرب على أبعد مدى وأوسع نطاق. إنما الذي فقدتموه وافتقدتموه هو الأسلوب الصحيح في تجنيد النفوس المؤمنة والأيدي العاملة في ساحة النضال والعمل العربي الموحد.

إننا لا نؤمن بالعزلة في ساحة النضال، والمرحلة أمامنا طويلة، والعدو متربص بنا، متسقط مواضع الضعف في جبهتنا. وإننا لنؤمن اليوم أكثر من أي يوم مضى بوحدة المصير في وحدة النضال.

إننا في ساحة النضال القومي نبتغي جنوداً من كل فئة وطبقة وجماعة، ومن كل حقل من حقول النشاط والإنتاج. ولكن السياسة التي كانت ترسم مناهج الحشد القومي في معسكر النضال، كانت تحشر في صفوف الخيانة والرجعية والتعامل مع الأجنبي والتواطؤ مع الاستعمار، مجموعاً كبيراً من المواطنين، الذين لا يمكن أبداً أن يحشروا في زمر الخونة والعملاء لمجرد انتسابهم إلى فئة من الناس أو طبقة من طبقات المجتمع. كذلك فإن اليد التي كانت تخطط للتعاون القومي لإشراك كل فرد وكل فعالية في أداء شرف الواجب، كانت تثيرها حرباً قاسية بين طبقات المجتمع الواحد، لتشل بالفعل حركة التعاون، وتحول دون انصباب الفعاليات جميعها في ميدان العمل القومي. ولولا وعي الشعب والألفة الاجتماعية القائمة بين أفراده وجماعاته، لسادت روح الكراهية من وراء هذه السياسة المتعسفة. كما أمعن الحكام في بلبلة الأفكار وتمييع العواطف، إلى جانب ما مارسوه من أسباب الضغط والكبت والإرهاب، حتى ساد الذعر وعمّ التذمر، وبات المواطنون لا يأمنون على حياتهم بعد أرزاقهم، مهما كانت الطبقة التي ينتسبون لها والجماعة التي ينتمون إليها. ولقد كنت أنبه وأحذر من مغبة هذه السياسة العقيمة التي تصدر على الهيئات والفئات والطبقات أحكاماً جماعية وتهماً غيبية. وأوضحت في مناسبات كثيرة أننا في هذه البلاد لا نستطيع أن نضع الخيانة والولاء على أساس من تكوين المجتمع القائم، ولا نستطيع أن نبخس المساهمين في الحركات الوطنية خلال أربعين عاماً خدماتهم الجليلة وأيديهم البيضاء على استقلال هذا الوطن العربي وكرامته. وإنه لباستطاعة أي نظام أن يفرض على المواطنين ما شاء من الأحكام ليشرك في أموالهم مواطنيهم إشراكاً عادلاً تقتضيه مبادئ العدالة الاجتماعية وتقدير نصيب العمل. ولكن ليس باستطاعة النظام أن يسلب هؤلاء المواطنين من شرف المواطن السوري، وكرامة الإنسان الحر.

بل لا ندري لماذا يعمد الحاكم المسؤول إلى إخراج هؤلاء المواطنين من الاعتبار القومي، وقطع صلاتهم الروحية بالوطن الذي أحبوه وأسهموا في حركة بنيانه، ثم يقول إنه في سبيله إلى اتحاد قومي.

أيها الأخوة الأعزاء،

أمام هذه النماذج من أساليب التفكير والتدبير، وما نشأ عنها من عواقب وحوادث صغيرة وكبيرة، كانت تنتشر أصداؤها كلها في محيطنا الصغير انتشار القصف الشديد، أتساءل اليوم عن سر تعب الوجدان القومي في صلاته مع نظام الوحدة. وأكاد أجد وراء كل شكوى صغيرة أو كبيرة، وكل تذمر كان يفاقم أمره في العام الأخير، أثراً واضحاً لمطلب الشعب في قضايا أساسية هي بالواقع فوق المطالب الاقتصادية المادية أو السياسية، ألا وهي كرامة المواطن، وحريته في الدفاع عن حقه، وصيانة شعوره بأنه فرد ذو كيان وحرمة، وأنه مهما كان صغيراً فإنه لجدير بأن يشارك في أي عمل كبير، ومهما يكن من فروض العدالة الاجتماعية أن يذوب هذا الفرد في المجتمع، فهو إنما يذوب فيه ليعطيه من روحه وجهده ودمه، لا ليذهب فيه هباء وهدراً.

قلنا أيها المواطنون، منذ الأيام الأولى للوحدة، إننا لا نستورد المبادئ ولا نستعير العقائد، ولا نخضع لصانعي المذاهب من شرق أو غرب، يحاولون إغواءنا عن مبادئنا وعقائدنا مما أتى به ديننا السمح وتراثنا الغني وتقاليدنا الحكيمة، ولكننا لم نكن نريد لنظام الحكم أن يفرض تجاربه بالقسر على جمهوره، ولم نكن نريد للحاكم بأساليب قاهرة أن يجرع الأنظمة للشعب تجريع عقاب وقصاص.

نحن نعلم أن عجلة الزمان لا يمكن أن تعود إلى الوراء، والشعوب التي لا تمضي مع مركب التطور تمشي عليها أقدام المتطورين، ونحن لا نستطيع كذلك أن نتنكب طريق الأمم الصاعدة في سلك الحضارة، وأن نطرح ما استحدث من أساليب التصنيع والتنظيم وإنماء الثروة القومية وتكوين مجتمع تسوده العدالة، إنما الذي لا بد أن نعنيه أيضاً ليبلغ الإصلاح أهدافه ونتجنب من السرعة أخطارها، أن روح العدالة الاجتماعية في أساليب التعايش والتعامل اقتصادياً واجتماعياً، ليست في الواقع لدى كل الشعوب، مهما بلغت اشتراكيتها المتطرفة، سوى تسلسل منطقي في معركة تطوير وتدرج. والاشتراكية ليست في ممارستها العملية سوى السير في مناهج مرسومة عبر مراحل طويلة، لأن الخطوة الاقتصادية التي لا ترافقها حالة نفسية واجتماعية ملائمة، تنزلق انزلاقاً طبيعياً نحو هوامش الانحراف والضياع. وإن تشريعاً إصلاحياً يفرض بالقسر يمكن أن يخلق بدقائق وينفذ بساعات، لكن الوعي الاجتماعي الذي يحضن استمرار الإصلاح ويضمن نجاحه لا يمكن أن يخلق إلا بالتطور وبالحسنى التي يجب أن ترافق إنماء الوعي القومي وتفتيح الذات وتجميع الفعاليات.

وعندما نقول بالحسنى، التي هي أجمل كلمات التنزيل الحكيم، إنما نقول بالرفق والتبصر في العواقب، ومعالجة الأمور بالحكمة والتسامح، أي بنظام الحرية في اشتراكية سمحاء.

أيها المواطنون، أخواني وأبنائي،

طالما أشرتم إليّ من قريب ومن بعيد، فرادى ومجتمعين، في سركم وعلنكم، وحملتموني تبعات التاريخ وعواقب الأمور، ولطالما وقفت من المسؤولين عن مصير هذه الوحدة موقف المواطن الناصح الذي يخاطب المواطنين كما يخاطب المسؤولين، داعياً إلى الحكمة والصبر والروية. طالما قلت لكم إننا نمر بتجربة فريدة، وإننا مسؤولون عن نجاحها، وإننا لن نفرط بالوحدة. في الوقت نفسه كنت أقول لمن بيدهم الأمر كله إن إعلان الوحدة شيء وممارستها شيء آخر، فبالعواطف قامت، وبالعقل والحكمة وبالحسنى تدوم. وقد بنيت الوحدة على جبل راسخ من الثقة، وليس إلا بهذه الثقة الجماعية يستمر نموها ويصلب عودها. وكانت كل مسؤوليتي، بعد أن تألف جهاز الوحدة السياسي، أن أكون مواطناً مع المواطنين، أشعر بشعورهم، وأفرح لفرحهم، وأتألم لألمهم، ولم أكن ضنيناً بكلمة حق أقولها، سواء أعبرت عن تفاؤل أو تشاؤم أو أية وجهة نظر. بل قد وقفت في بعض الأمور التي تمس كيان الوحدة، ووجدان الشعب من ورائها، موقف المحذر، لا موقف الناصح أو المخبر. وكنت أعلم في كل حال إن الأذن التي تصغي لي إنما هي أذن مجاملة لا أذن وعي، وإن اللسان الذي يخاطبني ليس لسان من يريد أن يعلم بأمر بل لسان من يقول بأنه أعلم بكل أمر. ثم كنت أعود لنفسي لأتساءل: هل يمكن أن نكون أكثر حرصاً على الوحدة من المسؤول عنها، وهي بين يديه وحدة أمام الله والتاريخ وأجيال العرب؟ ومن ذا الذي يجرؤ على التفريط بها وتبذير طاقاتها والاستهانة بالوجدان القومي الذي كان في أساس خلقها وتكوينها؟

إني لأنقل اليوم شعوركم أيها الأخوة، إذ أجيب بأن الذي فرط بالوحدة وأخلى بينها وبين الشعب هو جهاز الحكم برمته من الأعلى إلى الأدنى، جهاز الحكم الذي كان يخبط في أساس الوحدة على غير هدى وتبصر، جهاز الحكم الذي كانت له ألف عين وعين، لكنه لا يبصر بعين واحدة منها، جهاز الحكم تفكيراً وتدبيراً وتصميماً وتنفيذاً.

هذا الجهاز الذي كان شديداً في موقف السماحة واللين، جباناً في موقف الحزم وقوة الإرادة، يتراخى عن محور الوحدة ليشد على محور النفوذ الرسمي والأنانية الشخصية، جهاز تألف للوحدة دون مستوى الوحدة خبرة وذكاء ووعياً وإيماناً، وتقرب إلى الشعب، ولكن بوصفه جلاد الشعب، جهاز الحكم الذي تألف كيانه البوليسي من قيادات ضمن قيادات، ولو طال بها الزمن لآل مصير الجمهورية كلها إلى مجموعة أقاليم يحكمها أفراد متنافرون. جهاز عجيب غريب، أنبت للجسم الواحد عدة رؤوس، وللرأس الواحد عدة ميول ونزوات وشهوات. جهاز الحكم تناوبته الزعازع، يتمرد بعضه على بعض، ويتربص يمينه بشماله، وتنفيذيه بمركزيه، حتى لتغدو صورة الحكم في الإقليم مثل صورة الحكم في آخر عهود الخلافات العربية.

ولقد كان في أساس هذه الأخطاء كلها قاعدة واحدة: تأمين الأقلية، وتخوين الأكثرية، وتسليط هيئات مصطنعة وأفراد على تنفيذ اشتراكية تعاونية لا يؤمنون بها ولا يعملون من أجلها ولا يفهمون أي مبدأ من مبادئ العدالة والتعاون.

وكان كل مدار الثقة بهم أنهم حاقدون يكرهون الناس، ويتطيرون من وجوه الخير.

وعندما أتحدث عن جهاز الحكم ومساوئه، مصغياً إلى أصوات الألوف من أبناء الشعب، وعلى الأخص في هذا البلد العربي، فإني أشير بوصف خاص إلى إغفال هذا الشعب إغفالاً عجيباً في تقرير أنظمته وعدم الالتفات إلى هيئاته ومنظماته ونقاباته في استطلاع رأي على الأقل، أو عرض وجهة نظر أو مناقشة موضوع. ولم يبق في ساحتكم كمنظمة تزعم الانتساب إلى الشعب سوى الاتحاد القومي، الذي سيطرت عليه القوة التنفيذية سيطرة غاشمة لم تترك له سوى بعض مظاهر الإرادة الشعبية، مثل شؤون بلدية كتنظيف زقاق وتنوير حي وتمديد أنابيب. ولطالما شكا النواب المعينون لمجلس الأمة من عدم جدوى وجودهم تحت قبة المجلس، لأن ليس لهم من وظائف التمثيل النيابي سوى إقرار المشاريع التي كتبها موظفو الدولة، والتصويت عليها برفع الأيدي الصامتة. فإن يكن من وراء كل هذا التحفظ والتزمت نفسية الخوف من الشعب والحذر منه، ففي التاريخ ألوف الأمثلة على أن الشعب لا يلبث أن يحذر من يحذرونه، ويبتعد عن المبتعدين عنه، ويفتح الهوة الكبيرة بينه وبينهم. وإن يكن من وراء هذا الحذر والانكماش خطة مدبرة لتقليص المشتركين في البناء العام عدداً ونوعاً، فلا يبقى في مراتب النظام الاجتماعي سوى جهاز الدولة ومجموعة الأجراء الضعفاء، فإن العدالة الاجتماعية والتعاونية القومية بريئة من هذه الخطط ومخططيها.

ومهما يكن من شأن العقائد النظرية والسياسات العملية التي سادت مصر وسورية خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة، فإنه من المحقق المؤكد أن البعض الذي قد يجوز تطبيقه في مصر، لا يمكن ولا يجدي تطبيقه في سورية، لاختلاف البيئات جغرافياً وبشرياً واجتماعياً. ومن المعروف الشائع إن خير الوحدات أو الاتحادات الناجحة في دول الأرض هي التي أعطت لامركزية واسعة لدويلاتها أو لولاياتها، ومنحتها في كثير من الشؤون حقوقاً تشريعية وتنظيمية، تخالف القوانين العليا والأفكار السائدة نفسها، لأن الوحدة في مفهومها العلمي والعملي، مهما يكن نظام الحكم الذي يسودها، ليست في إلغاء المصالح الصغيرة والمحلية، بل بالإقرار بها والاعتراف بضروراتها، والعمل على التنسيق بينها ضمن إطار رحب من السياسة العليا، وبذلك تضمن الدولة تكافل الوحدات الصغيرة وتعاونها، وتتلافى أحوال التمزق والتفكك التي تؤول إليها لزاماً أنظمة ضيقة ونظريات غيبية تفرض على الجماهير بالقسر والإذلال.

ومع كل ذلك، أيها الأخوة والأبناء الأعزاء، فإنني أعيذكم من أن تظنوا بأن التجربة الفاشلة في نظام الوحدة السياسية بين البلدين العربيين، إنما هي فشل للوحدة ذاتها كمبدأ وعقيدة وأمل أجيال. أعيذكم من التشاؤم في تطلعكم إلى مستقبل العرب على ضوء هذه التجربة الأولى في حياة الأمة، لأن هزة الفشل المريع لم تصب وجداننا، ولم تصب عقيدتنا وطموحاتنا القومية النبيلة، بل أجدر بها أن تصيب الذين أخطأوا وضلوا في أساليب النظر والعمل، وابتعدوا عن واقع الأمة وحقيقة الشعب وسنة التطور.

أعيذكم من الحساب العجول بأن فشل التجربة الأولى قد يعني فشل كل تجربة ومضاء في سبيل وحدة العرب. وإنه لجدير بي أن أذكّركم بما قلت يوم قيام هذه الوحدة، بأنه ليس من العجب أن تتحد أقطار العرب، بل العجب كل العجب أن تبقى على القطيعة والفرقة.

بل بوسعي أن أرفع صوتي عالياً بالتفاؤل، لأن التجربة الأولى في حياتنا القومية قد رسمت لنا طريقاً في التخطيط، لتشكل من أشكال الوحدة الراسخة البناء، يتوفر لها الباحثون والعلماء والمجربون، هيئات وأفراداً في كل بلد عربي، قبل أن ينظر فيها رجال الدولة والحاكمون ومجالسهم.

أقول وأرفع صوتي بالتفاؤل، لأن عمر الأمم لا يقاس بالسنوات القليلة، والشعوب التي تتوفر في حياتها التجارب، تتوافر لها دون سواها إمكانات النجاح والصواب.

وإن يكن من حظ هذا البلد العربي الأمين أن يكون ميدان التجربة الأولى، فإنه، وهو صاحب رسالة ودعوة عربية عريقة، لأجدر أن يكون اليوم أكثر حماسة واندفاعاً إلى وحدة عربية جريئة يتقدم بها إلى الشعب العربي في جميع الديار، وفي مقدمتها مصر العربية الشقيقة.

ولكي تكونوا، أيها الأخوة المواطنون، على أهبة العمل ومستوى الدعوة والرسالة، عليكم أن تعلموا جميعاً بأنكم يجب أن تنطلقوا من قواعد صالحة للانطلاق، ومن أرض ثابتة راسخة تحت الأقدام. عليكم أن تدركوا بأن وحدتكم الوطنية، المدعومة بتعاون الأفراد والجماعات، وفي مقدمتها رجال العمل السياسي والتوجيه القومي والإصلاح الاجتماعي، هي المنطلق المكين الذي يؤهلكم لأداء الرسالة القومية، ويمهد للكلمة المخلصة الصادقة، ترسلونها في سبيل العروبة والحق.

إن الوحدة الوطنية التي تلزمها ظروفكم الداخلية والخارجية، ضرورة أساسية من ضرورات هذه المرحلة التي نجتازها في حياتنا القومية والدولية، لأنكم، شعباً وجيشاً، غدوتم ملء عين الزمان، والتاريخ ينظر إلى نياتكم وأعمالكم وعواقبها.

إن وحدتنا الوطنية ضرورة مبرمة من ضرورات الدفاع عن كياننا وعن قوميتنا وشرف عروبتنا ونحن نقف على خط النار إزاء العدو الصهيوني الأثيم، الذي لن نغمض عيوننا عن نزوات شروره وعدوانه، ولن نغفل في حسابنا معه مؤامرات الاستعمار ومكائد الغدر والغادرين.

وإن هذه الوحدة الوطنية التي يجب أن تتمسكوا بها أيها المواطنون، وتدعموها بكل عزيمة وإيمان، هي سبيلكم إلى دعم جيشكم الأمين في انطلاقه القوي إلى أهداف أمة العرب في تحرير فلسطين وكسر شوكة الغاصبين.

إن الوحدة الوطنية إنما تقوم على مبادئ وأهداف بينة، تلتفون حولها وتصدقون القول والعمل. ولكم من تاريخكم القريب والبعيد، قبل الوحدة، وقبل الجلاء، ومنذ طلائع فجر الجهاد، مبادئ وعقائد لا يمكنكم أن تحيدوا عنها مهما تبدلت الظروف وأنظمة الحكم وتعاقب الحكام.

وفي مقدمة هذه المبادئ المهمة:

- سلامة وطنية بجيش قوي.

- سيادة الدولة في الدعوة إلى السلام بالعدل وعدم الخضوع لمناطق النفوذ وسياسة الحرب والمعسكرات.

- اشتراك وجداني وعملي في نصرة القضايا العربية، في مقدمتها فلسطين والجزائر وعمان، وجميع قضايا التحرر العربي.

- متابعة الدأب من أجل تحقيق الوحدة العربية، والمباشرة بلا إبطاء في إرساء قواعد التضامن العربي، عسكرياً واقتصادياً وسياسياً.

- إعداد الشعب في الميدان الداخلي إعداداً منظماً، في مختلف نواحي النشاط الاجتماعي والاقتصادي والفكري، للإفادة من جميع الفعاليات على أساس من الحرية، كافلة الإنتاج والإبداع، وفي حدود تنهيج واقعي لإنماء الثروة القومية وبسط العدالة الاجتماعية ورفع مستوى المواطنين، وعلى الأخص عمالاً وفلاحين.

أنتم مدعوون أيها المواطنون إلى وحدة وطنية بميثاق قومي، تقوم على هدى المبادئ والعقائد التي هي مكاسب جهادكم وكفاحكم وسيرتكم القومية المشرفة، التي كانت منذ مطلع هذا القرن قدوة للشعوب ومناراً.

وإنني لوطيد الأمل في أن تبادروا إلى الخروج من تيارات الفترة العصيبة التي اجتزتموها بوعي وسلام، وتتطلعوا إلى المستقبل بشجاعة وعزم وتفاؤل. وأرجو أن تدركوا كل الإدراك حقيقة أولية من حقائقنا القومية العربية: إن أي نزاع واختلاف في الاجتهاد والرأي في نطاق المجموعة العربية لن يكون سوى خلاف عائلي عابر، من شأنه أن ينير الطريق ويرشد إلى الصواب ويمهد لجو أكثر ألفة وصفاء.

وإنه لجدير بي في كلمتي إليكم، أن أخص بتحية التقدير والإعجاب جيشكم المظفر، حامي الديار وحارس الشرف والكرامة والحرية. جيشكم الذي وضع نفسه في خدمة الحق والحرية، وأعرب في انتفاضته النزيهة الخيرة السمحاء عن آلامكم وآمالكم، التي هي آلامه وآماله، فأضاف إلى أوسمته التي تحملها رايته الخفاقة، أثمن وسام هو وسام الشعب.

أيها الأخوة والأبناء الأعزاء،كلمتي الأخيرة إليكم أنكم أنتم وحدكم مسؤولون في تقرير المستقبل، وأن القيادات في صفوفكم عناوين زائلة، وتبقون أنتم الشعب، سطور البقاء والخلود. ولقد استطعت أن أتوفر على خدمة نضالكم وجهادكم، مواطناً عادياً وجندياً مكافحاً، أكثر مما أتيح لي أن أتوفر لهذه الخدمة الشريفة، رئيساً وحاكماً ومسؤولاً.

ولطالما أغدقتم عليّ من العطف والمحبة والعزة، ما ملأ نفسي رضى، وضميري طمأنينة، وليس من مزيد أبداً. وإن أعظم ما يطمح إليه عامل في الحقل العام، عانق القضية المقدسة منذ مطلع هذا القرن، فتى وشاباً وشيخاً، أن يستحق استمرار الرضى عنه في صفوف المواطنين العاديين، مواطناً صالحاً وجندياً.