أغنية أمّ

شعر: هاشم الرفاعي

(محنة الإسلاميين في مصر، ومحنة العراق كله، ومحنة المسلمين في كل مكان يصورها الشاعر في أغنية أم لوليدها الذي أعدم أبوه، ويتبع أسلوب التورية خوفاً من بطش الطغاة، فيتظاهر أنه يتحدث عن محنة العراق سنة 1959م).

(نظمت هذه القصيدة في 19 مارس آذار).

نمْ يا صغيري إنَّ هذا المهد يحرسهُ الرجاءْ

من مُقلةٍ سهرتْ لآلامٍ تثورُ معَ المساء

فأصوغُها لحناً مقاطعُه تَأَجَّجُ في الدماء

أشدو بأغنيتي الحزينةِ ثمَّ يغلبني البكاء

وأمدُّ كفي للسماءِ لأستحثَّ خُطى السماء

      

نمْ لا تُشاركني المرارةَ والمِحنْ 

فلسَوفَ أرُضعكَ الجراحَ مع اللَّبن

حتى أنالَ على يديكَ مُنىً وهبتُ لها الحياه

يا من رأى الدنيا، ولكنْ لمْ يرَ فيها أباه 

      

ستمُرُّ أعوامٌ طوالٌ في الأنينِ وفي العذابْ

وأراكَ يا ولدي قويَّ الخطوِ موفورَ الشباب

تأوي إلى أمٍّ محطمةٍ مُغَضَّنَةِ(1) الإهاب(2)

وهناكَ تسألُني كثيراً عن أبيكَ وكيف غاب

هذا سؤالٌ يا صغيري قدْ أعدَّ له الجواب

      

فلئنْ حييتَ فسـوفَ أسردهُ عليكْ

أو متُّ فانظرْ من يُسِرُّ به إليك

فإذا عرفتَ جريمةَ الجاني وما اقترفتْ يداه

فانثرْ على قبري وقبرِ أبيك شيئاً من دماه

      

غدُكَ الذي كنا نؤمِّلُ أن يُصاغَ من الورود

نسجوهُ منْ نارٍ ومن ظُلمٍ تدَججَ بالحديدْ

فلكلِّ مولودٍ مكانٌ بين أسرابِ العبيد

المسلمينَ ظهورهمْ للسوطِ في أيدي الجنود

والزاكمين أنوفهم بالتُربِ من طولِ السجود

      

فلقد وُلدتَ لكي ترى إذلال أُمه

غفلتْ فعاشتْ في دياجيرِ المُلِمَّه

مات الأبيُّ ولْم نسمعْ بصوتٍ قد بكاه

وسعَوا إلى الشاكي الحزين فألجموا بالرعبِ فاه(3)

      

أما حكايتُنَا فمنْ لونِ الحكاياتِ القديمهْ

تلكَ التي يمضي بها التاريخُ داميةً أليمه

الحاكمُ الجبارُ، والبطشُ المسَّلح، والجريمة

وشريعةٌ لْم تعترف بالرأي أو شرفِ الخُصومة

ما عادَ في تنُّورها لحضارةِ الإنسان قيمه

      

الحرُّ يعرُفُ ما تريدُ المحكمة

وقُضاتُهُ سلفاً قد ارتشفوا دمه

لا يرتجي دفعاً لبهتانٍ رماهُ بهِ الطغاه

المُجرمونَ الجالسونَ على كراسيِّ القضاة

      

حكموا بما شاءوا وسيقَ أبوكَ في أصفادهِ

قدْ كان يرجو رحمةً للناسِ من جلاّدِهِ

ما كانَ - يرحمهُ الإله - يخونُ حبَّ بلادِه

لكنَّهُ كيدُ المُدلِّ بجنده.. وعتادهِ

المشتهي سفكَ الدماءِ على ثرى بغداده

      

كذَبوا وقالوا عـــن بطولتِهِ خيانه

وأمامنا التقريرُ ينطقُ بالإدانهْ

هذا الذي قالوه عنه.. غداً يُرددُ عـن سواهْ

ما دمتُ أبحثُ عن أبِيٍّ في البلادِ ولا تراهْ

      

هو مشهدٌ من قصةٍ حمراءَ في أرضٍ خضيبهْ

كُتبتْ وقائِعُهُ على جُدرٍ مضرَّجةٍ رهيبـهْ

قد شادَها الطُغيانُ أكفاناً لعزتنا السليبهْ

مشتِ الكتيبةُ تنشرُ الأهوالَ في إثرِ الكتيبهْ

والناسُ في صمتٍ وقد عقدتْ لسانهمُ المصيبهْ

      

حتى صدى الهمساتِ غشَّاه الوهنْ

لا تنطقوا، إن الجدارَ له أذنْ

وتخاذَلوا، والظالمونَ نعالُهمْ فوقَ الجباهْ

كشياهِ جزارٍ وهلْ تستنكرُ الذبحَ الشياه؟

      

لا تُصغِ يا ولدي إلى ما لفَّقوه وردّدوهْ

من أنهم قاموا إلى الوطن الذليل فحرروهْ

لو كانَ حقاً ذاكَ ما جاروا عليهِ وكبَّلوهْ

ولما رَموا بالحُرِّ في كهفِ العذاب ليقتلوهْ

ولما مشوا بالحق في وهجِ السلاحِ فأخرسوهْ

      

هذا الذي كتبُوهُ مسمومُ المذاقْ

لم يبقَ مسموعاً سوى صوت النفاق

صوت الذين يُقدسونَ الفردَ من دون الإلهْ

ويسبِّحونَ بحمدِهِ ويقدمونَ لهُ الصلاهْ

      

لا ترحَمِ الجاني إذا ظفرتْ به يوماً يداكْ

فهوَ الذي جلبَ الشقاء لنا، ولْم يرحم أباكْ

كمْ كان يهوى أن يعيشَ لكيّ يُظلَّل في حماك

فاطلبْ عدوَّكَ، لا يُفتكَ، تُرِحْ فؤاداً قد رعاك

هذي مُناي وأمنياتُ أبيكَ فاجعَلَها مُناكْ

      

فإذا بطشتَ بهِ فذاك هو الثَّمنْ

ثمنُ الجراحاتِ المشوبةِ باللَّبنْ

وهناكَ أدركْ يا صغيري ما وهبتُ لهُ الحياه

وأقولُ هذا ابني، ولْم يرَ في طفولتِهِ أباه.

      

(1) مغضنة: مجعدة.

(2) الإهاب: الجلد.

(3) لعله يشير إلى إعدام قادة الإخوان المسلمين والتنكيل بهم.