ابتهالات

ابتهالات

للشاعر الكبير: بدوي الجبل

"مهداة إلى قبور حبيبة في بغداد ودمشق وحلب وحمص واللاذقية"

لا الغوطتان ولا الشبابُ أدعو هَوايَ فلا أُجـابُ

أيـن الشآمُ مـن البُحيـرةِ والمـآذن والقِبـابُ

وقبـورُ إخوانـي وما أبقى من السيفِ الضِرابُ

الصامتـاتُ وللطيـور على مشارفها اصطخابُ

الغافيات فلم تَـرُع منهـا الزماجـرُ والوِثـابُ

أشتـاقُ أحضنُهـا وألثمهـا وللدمـع انسكـابُ

تحنو الدموع على القبور فتورق الصمُّ الصِلابُ

ولهـا إلينـا لهفـةٌ ولطـول غُربتنـا انتحـابُ

يا شـام: يا لِدَةَ الخلود وضمَّ مجدَكمـا انتسـابُ

من لي بنزر من ثراك وقد ألـحَّ بـيَ اغتـرابُ

فأشمُّـه وكـأنـه لعـسُ النواهـد والمــلاب

وأضمُّهُ فترى الجواهرُ كيـف يُكْتَنَـزُ التـرابُ

هـذا الأديـم شمائـل غـرٌّ وأحـلامٌ عِـذابُ

وأمومـةٌ وطفـولة ورؤى كمـا عبر الشهـاب

وتحيّة مسكيّـة مـن سالفيـن هَـوَوا وغابـوا

ومـن الأبـوّة والجُـدود لأهـل ودِّهم خِطاب

هذا الأديـم أبـي وأمـي والبدايـة والمـآبُ

ووسائـدي وقلائـدي ودمى الطفولة والسِخاب

ودَدٌ يُباع لـه الوفـاء ولا ندامـةَ والصـوابُ

أغـلى علـيَّ من النجـوم ولا أُلام ولا أُعاب

الروحُ من غيبِ السماء ومنكِ قد نُسج الإهـابُ

أشتاقُ شَمْسَكِ والضحى أنا والبُحيرةُ والضبـابُ

ومضفّراتٌ بالثلـوج كأنمـا نَصَـلَ الخِضـابُ

تَعوي الرياح فما القساورُ في الفَلاة وما الذئابُ

والثلـجُ جُـنَّ فلم تَبِنْ سُيُلٌ ولم تُعْرَفْ شِعـابُ

أخفى المعالِمَ لا السُفوح هي السفوح ولا الهضابُ

يا شمسُ غِبتِ فكيف تمَّ – ولا طلوعَ لكِ – الغياب

إن كنتِ مُسلمة الهـوى فتألَّقـي رُفِـعَ الحجـابُ

ملَّّ السحابُ من السماء وقرَّ في الأرض السحابُ

وكــأنَّ مـلءَ الأُفــقِ أسـورةٌ غِضــابُ

حُسْنٌ يُهابُ وما سَما حُسـنٌ يُحَـبُّ ولا يُهـابُ

*     *     *

دَوْحَ البُحيرةِ أينَ سـامِرُكِ المُعطَّرُ والشَـرابُ

بينـي وبينَ الدَوْح في أحزانهِ النَسَبُ القـُرابُ

من كلِّ مُوحشةٍ فأينَ الطِيبُ والوَهَـجُ المُـذابُ

وغداً يعودُ لكَ الشبابُ ولن يعـودَ ليَ الشبـابُ

الدَّهرُ ملكُ يمينـه والشمسُ من يُسـراهُ قـابُ

لَهفي عليـهِ فطالمـا أشقـاهُ لـومٌ واغتيـابُ

نَعِـمَ الملائـكُ بالشبـاب فما لنعمته استـلابُ

ويزُورُنا لَمعُ البُروقِ فما للامِعِـهِ اصطحـابُ

والعُمرُ أيامٌ قـدِ اختُصِـرَتْ وآمـالٌ رِحـابُ

عُدْ يا شبابُ ولن أُطامِنَ من جِماحِكَ يا شبـابُ

*     *     *

في غُربةٍ أنا والإبـاءُ المُـرُّ والأدبُ اللُبـابُ

كالسيـفِ حَلَّتْهُ الفُتـوحُ وربمـا بَلِيَ القـرابُ

طَـودٌ أَشَـمُّ فكيف تَرشقُني السِهام ولا أصابُ

يَخفـى البُغـاثُ فلا تُلِمُّ به ولا يخفـى العُقَابُ

الكِبْرُ عِنـدي للعظيـم إذا تَكبَّـرَ لا العِتـابُ

عِنـدي له زُهدٌ يُدِلُّ على الكواكبِ واجتِنـابُ

أغلى المروءة شِيمةٌ طُبعتْ وأَرخصها اكتساب

*     *     *

أنا ما عَتبتُ على الصِحابِ فليسَ في الدنيا صِحابُ

خُـرسٌ ولكنْ قـد تفاصحَـتِ الخَواتـمُ والثيـابُ

عَقِمـتْ مُروءتهـم وتطمـعُ أن يُدغدغَها احتِلابُ

وأعِـفُّ عـن سَـبِّ اللئيـمِ وربما نَبُلَ السِبـابُ

حيَّا فبشـرُ سَلامِـهِ نَـزْرٌ وبسمتُـهُ اغتصـابُ

يا مـن يَمنُّ بِودِّهِ والشَهْدُ – حين يُمَنُّ – صَـابُ

أنـا كالمسافِـرِ لاحَ لـي أيـكٌ وأغرتْني قِبـابُ

وتفتَّحتْ حولي الرياضُ الخُضر واصطفَقَ العُبابُ

ووثقـتُ أنَّ النهرَ مِلْكُ يَـدي ففاجأني السَـرابُ

*     *     *

أنـا لا أُرجِّي غيرَ جبّـارِ السمـاء ولا أَهـابُ

بينـي وبيـنَ اللهِ من ثِقَتـي بلطـفِ اللهِ بـابُ

أبـداً ألـوذُ به وتعرفُنـي الأرائِـكُ والرِحـابُ

لي عندهُ من أدمعي كَنزٌ تَضيـق بـه العِيـابُ

*     *     *

يا ربِّ: بابُـكَ لا يَـرُدُّ اللائِذيـنَ به حِجـابُ

مِفتاحُـهُ بيـدي يَقيـنٌ لا يُلـِمُّ بـه ارتيـابُ

ومحبّـةٌ لـكَ لا تُكـدَّرُ بالريـاءِ ولا تُشـابُ

وعبـادةٌ لا الحشـرُ أملاها علـيَّ ولا الحسابُ

وإذا سألتَ عن الذنـوبِ فإنَّ أدمعـي الجَـوابُ

هيَ في يميني حينَ أبسُطُها لرحمتـكَ الكِتـابُ

إنّي لأغبِطُ عاكفيـنَ على الذنـوبِ وما أنابـوا

لـو لـم يكونـوا واثقين بعَفوِكَ الهاني لتابـوا

منهـم غداً لكنوزِ رحمتكَ اختِطـافٌ وانتِهـابُ

ولهـم غداً بيقينهـم من فيءِ سِدرَتكَ اقتـرابُ

وسَقَيتُ جنَّتكَ الدموعَ فـروَّتِ النُطَفُ العِـذابُ

وسَكبتُ في نيرانـكَ العَبـَراتِ فابتـَرَدَ العَذابُ

تنهـلُّ في عَـدنٍ فنَوَّرَ كوكبٌ ونَمَـتْ كَعـابُ

قرَّبتُهـا زُلفـى هَواكَ فلا الثوابُ ولا العِقـابُ

أنتَ المرجَّى لا تناخُ بغيـرِ ساحتِـكَ الرِكـابُ

الأُفقُ كأسُكَ والنجـومُ الطافيـاتُ بـه حَبـابُ

أنـا من بِحـارِكَ قطـرةٌ مما تحمَّلَهُ الرَبـابُ

ألقَى بها بَعـدَ السِفـارِ فضمَّهـا قفـرٌ يَبـابُ

البحـرُ غايتُهـا فلا وادٍ يَصـدُّ ولا عُقــابُ

يا دمعةَ المُزنِ اغتربتِ وشَـطَّ أهلُكِ والجَنـابُ

حُثِّي خُطاكِ فللفـروعِ إلى أرُومتِهـا انجـذابُ

حُثِّـي خُطـاكِ فشاهِقٌ يُرقى وموحشةٌ تُجـابُ

البحرُ معدِنُكَ الأصيلُ وشوق روحِكِ والحُبـابُ

وغـداً للجَّتِـهِ وإنْ بَعـُدتْ يَتِمُّ لـكِ انسيـابُ

*     *     *

أنا لا أُطيلُ إذا ابتهلتُ وقد تحدَّتنـي الصِعـابُ

لا أشتكـي وبمهجتـي ظُفُـرٌ يُمزَّقُهـا ونَـابُ

مَسَحَ الحياءُ على الدموعِ وأكرمَ الشكوى اقتِضابُ

تكفـي ببابِـكَ وقفـةٌ وأسىً تجمَّـلَ واكتئـابُ

*     *     *

يا شامُ عِطرُ سَريرتي حُـبٌّ لجمرتِـهِ التهـابُ

أنتِ اللُبانَةُ في الجواـحِ لا النَـوارُ ولا الرَبـابُ

لكِ مُهجتـي وقَبولُهـا منـكِ الهديَّـةُ والثـوابُ

والنورُ في عَينـي ولا مَـنٌّ عليـكِ ولا كِـذابُ

أنا مَنْ عَرفتِ: تجلُّدٌ زَحَـمَ النوائِـبَ واحتِسـابُ

ولئنْ عَثَـرتُ فربَّمـا عَثَـرتْ مُجلِّيـةٌ عِـرابُ

يَعيـا بحقـك مَن يُسوِّفـهُ ولا يَعيـا الطِـلابُ

غالبتُ أشواقي إليكِ ويُضـرِمُ الشَـوقَ الغِـلابُ

وَوَدِدْتُ لـو عَمَـرتْ رُباكِ وألفُ عامرةٍ خَرابُ

أنا طَيرُكِ الشادي وللأنغامِ من كَبـدي انسِـرابُ

سُكبَـتْ أغـاريدي وللأمـواجِ زأرٌ واحتـرابُ

فصغَتْ لتسمَعَها الرياحُ وقرَّ في الموجِ اضطرابُ

*     *     *

أنـا والربيـعُ مُشرَّدانِ وللشَـذا مَعَنـا ذَهـابُ

لا الأيكُ بعدَ غِيابِنا غَرِدُ الطُيـوبِ ولا الرَبـابُ

والنـورُ يسـألُ والخَمائِلُ والجَمالُ متَى الإيـابُ

جنيف 22 شباط 1964

من قصيدة للشاعر من ديوانه: 72-87.