الشاعر الإنجليزي ت . س . إليوت ( 1888_ 1965 ) .. حياته وشعره

ولد توماس ستيرنز إليوت في مدينة سانت لويس بولاية ميسوري ، وتعود أصوله إلى  إنجلترا  . والتحق في 1906 بجامعة هارفارد التي تأثر فيها باتجاه إيرفنج بابيت المناكف للرومانسية ، وباهتمامات جورج سانتايانا الفلسفية والنقدية ، وبالحماسة التي عمت يومئذ في بعض دوائر هارفارد لأدب العصر الإليزابيثي والعصر اليعقوبي ، وبالنهضة الإيطالية ، وبالفلسفة الصوفية الهندية . وشملت دراساته الفلسفية جهدا مكثفا لدراسة الفيلسوف الإنجليزي المثالي ف . ه . برادلي الذي كتب عنه في النهاية أطروحته الجامعية في هارفارد بعنوان " تأكيد برادلي على الطبيعة الخاصة للتجربة الفردية " . إن " دائرة منعزلة عما خارجها " كان لها تأثير واسع على صور شعر إليوت ، وعلى رأيه في العلاقة بين الفرد والآخرين . وتأثير تلك الدائرة ينعكس في كثير من شعره . ودرس بعد ذلك الأدب والفلسفة في فرنسا وألمانيا قبل أن يذهب إلى إنجلترا بعد نشوب الحرب العالمية الأولى في 1914 بقليل . ودرس كذلك الفلسفة اليونانية في أكسفورد ، وعمل معلما في لندن . ونال عقب ذلك وظيفة في مصرف "لويدز"  لبث فيها إلى 1925 حين التحق ب " شركة نشر فابر وجوير" التي صار مديرها بعد أن أصبحت تحمل اسم " فابر وفابر"  في 1929 . وشرع يكتب مقالاته الأدبية والفلسفية فور استقراره في لندن ، فكتب في مجلة " أثينيوم " ، وفي " ملحق التايمز الأدبي " بين ما كتب فيه من الدوريات ، وصار محررا مساعدا في مجلة " إيجويست " من 1917 إلى 1919 . وأسس في 1922 فصلية " كرايتٍريون " ( المعيار)  الواسعة التأثير ، وواصل تحريرها حتى توقفها في 1939 . وظهرت باكورة شعره في 1915 حين نشر قصيدته  " أغنية  حب ج . الفريد بروفروك " في مجلة " الشعر " في شيكاجو . كذلك نشر حفنة قصائد قصيرة في مجلة " بلاست "التي لم تعمر طويلا . وكانت أول مجموعة شعرية له هي " بروفروك وملاحظات أخرى " التي صدرت في 1917 . وتلتها مجموعتان قصيرتان في 1919 ، و1920 . ونشر قصيدته " الأرض الخراب   "  في "  كرايتريون " في أكتوبر 1922 ، ثم نشرها في مجلة " ديال " في أميركا في نوفمبر من نفس العام ، ونشرها بعد ذلك بمفردها في كتاب . وجمعت قصائده الباكرة التي كتبها في أعوام 1909 _ 1925 في ديوان " قصائد " الذي صدر في 1925 . وكان ينشر في تلك الأثناء   مجموعات مقالاته النقدية لاسيما " الغابة المقدسة " التي نشرها في 1920 ، و " إجلال لجون درايدن " التي نشرها في 1924 . وصدر كتابه " من أجل لانسيلوت أندروز " في 1928 ، وفي 1932 جمع معظم هذه المقالات المبكرة مع مقالات أخرى جديدة في كتاب " مقالات مختارة " . وصار مواطناً بريطانياً في 1925 ، وانتسب في ذات السنة إلى كنيسة إنجلترا .

                                   ***

" في حضارتنا قدر كبير من التنوع والتعقيد ، وهذا التنوع وهذا التعقيد يجب أن يفضيا إلى نتائج متنوعة ومعقدة شرط أن تعتمد فعاليتهما على حساسية مصفاة تجاههما ، فلا معدى للشاعر من أن تتزايد شمولية رؤيته باطراد ، وأن يتزايد اعتماده على التلميح والنأي عن المباشرة ليرغم اللغة عند الضرورة للدلالة على معناه المقصود " . الملاحظة السالفة المقبوسة من مقالته  " عن الشعراء الميتافيزيقيين " التي كتبها في 1920 تعطينا مفتاح أسلوبه الشعري بدءا من قصيدته " بروفروك " ومرورا ب " الأرض الخراب " . لقد رأى في التراث الرومانسي للشعراء الجورجيين الذين كانوا فعالين حين استقر في لندن ، وفي رعوياتهم الشعرية ( القصائد التي تتناول حياة الرعاة . المترجم ) ذات التأملات الهادئة ، وفي غرابتهم المضمحلة ، أو وصفهم الذاتي الواقعي للحياة الحضرية ؛ مثالا شعريا منهكا يوظفونه دون إثارة فعلية أو حذق أصيل ، ومن ثم سعى إلى جعل الشعر أشد لطفا وفي ذات الوقت أشد دقة . لقد تعلم من التصويريين ضرورة وضوح الصور الشعرية ودقتها ، وتعلم كذلك من الشاعر ت . إي . هولم ، ومن نصيره المبكر ونصيحه إزرا باوند الخشية من الرقة الرومانسية ، وأن يعتبر البيئة أو الوسط العامل  المهم لا شخصية الشاعر الخاصة . وفي ذات الوقت لم تكن " الصور الشعرية اليابسة جدا " التى حامى عنها هولم كافية له ، فطمح إلى الفطنة والإلماح والسخرية ، ورأى لدى الشعراء الميتافيزيقيين المدى البعيد الذي يمكن أن يبلغه اندماج الفطنة والعاطفة ، ورأى لدى الشعراء الفرنسيين االرمزيين  المدى البعيد الذي يمكن أن تبلغه  من حيث الدقة المطلقة في ما تشير إليه ماديا ، وفي ذات الوقت المدى الإيحائي الواسع في المعاني التي تجسدها بسبب علاقتها بغيرها من الصور في النص . واستهواه وأثر فيه اندماج الدقة والإيحاء والرمزية والسخرية المتهكمة في شعر الشاعر الفرنسي جول لافورج في نهاية القرن التاسع عشر . وتأثر أيضا بشعراء فرنسيين آخرين من شعراء ذلك القرن مثل الشاعر تيوفيل جوتييه في نحته الحاذق لأشكال المعنى المجرد ، وباكتشافات شارل بودلير المثيرة الغريبة للإيحاءات الرمزية في الأشياء والصور . وتأثر بالشعراء الرمزيين بول فيرلين وآرثر رامبو وستيقان مالارميه . ووجد أيضا لدى كتاب المسرح اليعقوبيين شعرا مرسلا مرنا ذا نبرة عالية نابعة من شعبية لغة هذا الشعر ، ومن هؤلاء الشعراء المسرحيين ميدلتون وثورنير ووبستر وغيرهم . كلهم علموه كثيرا في مجال أسلوب الـتأثير الشعري والصور ، والمزج في نبرة الحديث ، وفي نبرة الرعب مثلما علمه الميتافيزيقيون  والرمزيون  الفرنسيون الكثير من فنونهم . ووافقت اعتراضات هولم على المفهوم الرومانسي للشعر ما كان تعلمه إليوت من إرفنج بابيت في هارفارد موافقة ملائمة جدا إلا أنه رغم كل قسوته على شعراء مثل شلي ، ورغم رعايته  الواعية لوجهة نظر كلاسيكية ، وإصراره على التمسك بالنظام والانضباط أكثر من محض التعبير عن الذات في الفن فإن أحد جوانب عبقريته بمعنى ما من معاني العبقرية هو جانب رومانسي . فالتأثير الرمزي على صوره الشعرية واهتمامه بالمثير والموحي في مثل الأبيات التالية : " والموسيقا المهموسة المعزوفة على تلك الأوتار ،

والخفافيش  ذات الوجه الذي يشبه وجه طفل في الضوء ،

والتي صوتت وخفقت بأجنحتها "

وتلك الصور التي تتكرر عنده مثل صورة فتاة المكحَلة الحدقية (اسم  نبتة . المترجم " ، وحديقة الورد ؛ كلها توضح ما يمكن تسميته المكون الرومانسي في شعره إلا أنه يأتلف مع إلماح ساخر يابس ، ولعبة بارعة ، ومكون لغة شعبية  ، وكلها لا وجود لها عادة عند شعراء التراث الرومانسي . وجديد إليوت الحقيقي ، وعلة كثير من الحيرة التي استقبلت بها قصائده الأولى فور نشرها ؛ إنما كان تخلصه المقصود من كل أساليب الوصل والفصل ، وبناءه كل نمط معناه على الجمع العاجل لصور لا تشابه بينها دون توضيح صريح لما تفعله هذه الصور .ويضاف إلى ما سبق استعماله إشارات  مبهمة إلى أعمال أدبية أخرى ( بعضها مبهم تماما على غالبية  القراء المعاصرين ) ، فقصيدة " بروفروك " تعرض مدى رمزيا ينبعث فيه المعنى من التفاعل  المتبادل بين الصور . وتوسع هذا المعنى غالبا أصداء ساخرة من شعر هزيود ودانتي وشكسبير .و" الأرض الخراب " سلاسل من المشاهد والصور دون أي تدخل من صوت الشاعر ليخبرنا أين نحن ، وكل الموجود تضامين من نصوص أخرى تتنامى عبر خليط من التناقضات ، وعبر تشابهات جزئية بأعمال أدبية قديمة  غالبا ما يشير  إليها باقتباسات مشوهة أو إلماح نصفي مخفي ،أي نصف واضح . وفوق ما سلف فإن الأعمال المشار إليها ليست بالضرورة أعمالا مركزية في التراث الأدبي الغربي ، فإلى جانب دانتي وشكسبير هناك فلاسفة سابقون على زمن سقراط  ، وشعراء وكتاب مسرح صغار وكبار أيضا من القرن السابع عشر ، ومن كتب المختارات الأدبية  ، والتاريخ والفلسفة وأصداء أخرى من قراءة إليوت الخاصة .

وشعر بأنه من الضروري أن يبني مكون إشاراته إلى تلك النصوص القديمة لكونه في وسط ثقافي يخلو مما يؤكد للشاعر أن جمهور قرائه لديه موروث ثقافي مشترك ومعرفة مشتركة بالأعمال الأدبية القديمة .وهذا ما يخلق الفرق بين استعمال إليوت للأدب القديم ،ولنقل استعمال ملتون له . كلا الشاعرين عسر الفهم على القارىء المعاصر الذي يتطلب مساعدة جانبية مكتوبة لمعرفة وفهم  كثير من تلميحات الشاعرين أو إشاراتهما إلا أن ملتون كان يعتمد على بناء من المعرفة المشتركة لدى المتعلمين في زمنه . ومع ذلك  ففي  هذا الجانب مبالغة إزاء إليوت ، فالحقيقة أن طبيعة صوره الشعرية وما في شعره من إثارة ينجحان عموما في إيجاد  النغم الذي يريده ، فهو حين يصوغ نطاق معناه إنما يصوغه صياغة تسمح بتناميه تناميا يمكن حتى القارىء الذي يجهل أكثر إلماحاته الأدبية بأن يحس بروح القصيدة ، ويفهم بعض ما تقوله .

وانشغل إليوت في شعره الباكر حتى  أواسط ثلاثينات القرن العشرين بموضوع قصيدته " الأرض الخراب "، وبجوانب انحلال الثقافة في العالم الغربي الحديث . ونجد بعد قبوله رسميا في المسيحية الأنجليكانية نغمة توبة في كثير من شعره ، ونغمة بحث هادىء عن سلام النفس مع إشارات وفيرة إلى الكتاب المقدس ، وأدب الطقوس الدينية والتصوف الديني ، والشاعر دانتي . وتستكشف قصيدته " أربعاء الرماد " التي كتبها في ستة أجزاء في 1930 ،وهي قصيدة لا تركز على الأسلوب تركيز قصائده الباكرة ؛ مزاجا تائبا ومتسائلا . وقصائده المسماة " أريَل " ( عنوانها محض صدفة ، ولا علاقة له بصياغتها ومضمونها ) تقدم أو تستكشف جوانب الشك الديني أو الاكتشاف أو الوحي . وتستعمل أحيانا ، مثلما في قصيدة "مارينا " ، صورا علمانية تماما ، وتعتمد أحيانا ، مثلما في قصيدة " رحلة الماجي " ، على حادثة في الكتاب المقدس . وفي " الرباعيات الأربع " التي ظهرت أولاها ، وهي " نورتون المحترقة " في ديوان " القصائد المجموعة " في 1935 مع أن الأربع لم تكتمل إلا في 1935 حين نشرت معا ؛ نقول في " الرباعيات الأربع " استكشف إليوت أمزجة دينية أساسية متعاملا مع العلاقة بين الزمن والخلود وتهذيب السلبية الجماعية التي قد تسلم لحظة الاستكشاف اللازمني في وسط الزمن . إن السخرية الساخرة ، والفكاهة الفظة ،والجمع بين اللامتشابهات جمعا متعمدا مثيرا لما هو خسيس ولما هو رومانسي ؛ أخلى السبيل في تلك القصائد المتأخرة إلى تعبير شعري أهدأ لا يزال في غالبه معقدا في إشاراته إلا أنه لا يقصد صدم القارىء بحال .

ونقد إليوت نقد شاعر يمارس كتابة الشعر ، شاعر وجد في قراءته للأدب القديم ما احتاج إلى التمسك والإعجاب به ، وأعطى ثقل مكانته المتنامية إلى ذلك الانتقال في الذوق الذي أحل الشاعر دُن محل الشاعر ملتون بصفته الشاعر الإنجليزي العظيم في القرن السابع عشر ، وأحل الشاعر هوبكنز محل الشاعر تنيسون في القرن التاسع عشر. ووصفه الذي كثيرا ما يقتبسه الآخرون لآخر القرن السابع عشر بأنه زمن " تفكيك الحساسية " ، أي فصل العقل عن العاطفة ؛ ذلك الفصل الذي رأى أنه حسم مسار الشعر الإنجليزي في القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر ؛ له الفضل في إعادة كتابة تاريخ الأدب الإنجليزي ، وبيان هدفه ، إليوت ، في شعره الخاص ألا وهو إعادة تلك الحساسية " الموحدة " التي وجدها لدى دُن وغيره من الشعراء وكتاب المسرح في مستهل القرن السابع عشر . ورأيه في التراث ، وكرهه للاستغلال الشعري لشخصية الشاعر الذاتية ، ودفاعه عماه سماه " الراشد "  ؛ كل ذلك جعله مرتابا في ما عده عبقريات شاذة مثل عبقرية بليك و د. ه . لورنس . ومن جانب آخر ، جعله كرهه للكلام الفخم الرنان ، وإصراره على التركيب في بناء الصورة الشعرية ، وخلطه الفصحى بلغة الحديث ؛ عديم الثقة في تأثير ملتون على الشعر الإنجليزي . وقد اعتبر نفسه " تقليديا في الأدب ، وملكيا في السياسة ، وكاثوليكيا أنجليكانيا في الدين " . ويؤثركتاب  " من أجل لانسيلوت " الذي صدر في 1928 النظام على الفوضى ، والتقليد على الغرابة والشذوذ ، والسلطة على الفردية المنتشرة يومئذ إلا أن شعره مع ذلك ليس تقليديا في جوانب كثيرة منه ، وبالتأكيد هو عالي النبرة في فرديته . ونفَر تفكيره المحافظ والمتعصب بعض الذين مالوا إلى شعره ، وبعض الذين تأثروا كثيرا في شعرهم به . وعالجت كل مسرحيات إليوت صراحة أو مواربة موضوعات دينية ، فمسرحية " جريمة قتل في الكاتدرائية " التي ظهرت في 1935 تعالج جريمة قتل كبير الأساقفة توماس آ بيكيت بأسلوب طقوس دينية ملائم مع الإكثار من استخدم الفرقة ( الكورس )

والخطبة الأساسية في أسلوب وعظي لكبير الأساقفة قبل مقتله بوقت وجيز . ومسرحية " لم شمل الأسرة " التي ظهرت في 1939 تعالج مشكلة الإثم والتطهر منه في أسرة إنجليزية حديثة من الطبقة العليا . وتتعمد المسرحية  محاولة الجمع بين أسلوب الفرقة في المأساة الإغريقية والتعبير الشعري المخفف بنبرات الحديث في حجرة استقبال الضيوف . وفي مسرحياته الأخيرة  التي كتبها كلها في 1950 ، وهي " حفلة كوكتيل " ، و " والكاتب العمومي الثقة " ، و " رجل الدولة المسن " " حقق نجاحا شعبيا بطرح ديني جاد في صورة ملهاة اجتماعية  حديثة راقية مستعملا شعرا بالغ الشبه في حيويته بلغة الحديث  إلى حد لا يبدو فيه إطلاقا  حين ينطق في المسرح شبيها بالشعر . ويختلف النقاد في تقدير درجة نجاح إليوت في مسرحياته الأخيرة في الجمع بين شباك التذاكر والفاعلية المسرحية إلا أنه ما من خلاف بينهم على أهميته بصفته واحدا من كبار المجددين في اللهجة العامية الشعرية الإنجليزية ، وأنه كان له تأثير كبير على جيل كامل من الشعراء والنقاد والمثقفين عامة ، غير أن مداه الشعري كان محدودا ، واهتمامه بالموضوع الوسطي الهام للتجربة الإنسانية كان ضعيفا ناقصا مثلما هو واضح عنده في الموازنة بين تطرف القديس وتطرف الأثيم ، ولكن حين حاز في 1948 وسام الاستحقاق الفريد  من الملك جورج الخامس ، وجائزة نوبل في الأدب تم الاعتراف على نطاق واسع تام بمحاسنه الإيجابية ، وأصالة صوته الشعري ، وأهميته التاريخية والمثلى بصفته شاعر التراث الميتافيزيقي الرمزي الحديث .

                             ***

*من مقطع " ماذا قال الرعد ؟! " من قصيدة " الأرض الخراب " :

" لا ماء هنا ، بل صخر .

صخر ولا ماء ، والطريق الرملي .

الطريق الذي ينعطف في العالي

بين الجبال ،

الجبال التي هي من صخر ،

ولا ماء فيها .

لو كان في المكان ماء لوقفنا

وشربنا .

لا أحد يستطيع أن يقف بين الصخور

ويفكر .

جف عرقنا ، وساخت أقدامنا في الرمل " .

*عن كتاب " مقتطفات نورتون المختارة من الأدب الإنجليزي " .

وسوم: العدد 912