المرأة الغامضة

كنت ذات أصيل قاعدا على رصيف " مقهى السلام " أتأمل روعة حياة باريس وبؤسها ، وأتعجب إذ أحتسي خمر الفيرموت من المشهد الغريب للزهو والعسر الذي يجري تحت عيني ، وبغتة سمعت من يناديني باسمي ، فالتفت اللورد ورأيت جيرالد مورتشيسون الذي ما التقيته منذ أن كنا في الكلية ، أي قرابة عشر سنين ؛ لذا سررت لرؤيته من جديد ، وتصافحنا بحرارة ومودة . كنا في جامعة أكسفورد صديقين حميمين ، وأحببته حبا كبيرا . كان وسيم المحيا جدا، وعالي الهمة كثيرا ، وموفور الشرف ، وألفنا أن نقول عنه إنه من خير الرفاق . وهو وإن كان لا يقول الحقيقة دائما إلا أنني أؤمن أننا أعجبنا به لصراحته من بين سائر صفاته . ولاحظت أنه تبدل كثيرا . وبدا لي قلقا ومحيرا ، ومرتابا في أمر ما ، وشعرت أن الأمر ليس النزوع للشك الذي فشا في الحياة الحديثة ، فهو ، صديقي ، أشجع أعضاء حزب الأحرار ، ويؤمن بأسفار موسى الخمسة إيمانه بأعضاء مجلس النخبة ، ومن ثم رجحت أن علة ما به امرأة ، فسألته إن كان تزوج ، فأجابني : لا أفهم النساء فهما كافي الجودة . 

فقلت : يا عزيزي جيرالد ! النساء في حاجة للحب لا للفهم . 

فأجاب : لا أستطيع أن أحب حيث لا أثق .  

فصحت : أحسب أن في حياتك سرا يا جيرالد ، حدثني عنه ! 

فقال : هيا نقم بنزهة ! المكان هنا كثير الازدحام . لا ، لن نركب عربة صفراء ، لنختر أي لون آخر ! انظر! تلك العربة الخضراء المائلة للسمرة تحقق مرادنا .  

وبعد قليل كنا نهبط الشارع العريض صوب ماديلين .  

سألته : إلى أين سنمضي ؟! 

فأجاب : إلى أي مكان تريده . إلى المطعم في بوا . سنتعشى هنالك ، وستحدثني بكل شيء عن نفسك . 

قلت : أريد أولا أن أسمع عنك . أبنْ لي سرك ! 

فأخرج من جيبه علبة مغربية صغيرة فضية المِغلاق ، وناولها لي ، ففتحتها ووجدت فيها صورة امرأة . كانت طويلة ورشيقة ، ونادرة الفتنة بعينيها النجلاوين الغامضتين ، وشعرها المسترسل الغدائر ، وبدت كأنها ذكية . وكانت تتدثر بنفيس الفراء .  

سأل : ما قولك في هذا الوجه ؟! أهو حقيقي ؟!  

فتفحصتها مترويا ، وبدا لي وجهها وجه صاحبة سر ما إلا أنني عجزت عن بيان ما إذا كان السر خيرا أو شرا . كان جمال وجهها جمالا منبثقا من غوامض جمة . إنه جمال نفسي لا مادي . وكانت الابتسامة الباهتة المتلاعبة عبر الشفتين من فرط اللطافة حتى ليستبعد رائيها أن تكون حلاوتها حلاوة حقيقية .  

صاح بي نافد الأناة : حسنا ! ما قولك فيها ؟!  

قلت : هي الجيوكندا بين الرمال . دعني أعرف كل شيء عنها ! 

قال : ليس الآن . بعد العشاء . 

وراح يتحدث في أشياء مغايرة . وبعد أن جاءنا النادل بقهوتنا وسجائرنا ذكرت جيرالد بوعده لي ، فانبعث من مقعده ، وذرع الحجرة مرتين أو ثلاثا ، ثم غاص في مقعده ذي الذراع ، وروى لي القصة التالية ، قال : " كنت أتمشى ذات غروب شمس في شارع بوند قرابة الساعة الخامسة . ووقع تصادم مروع بين طائفة من العربات ، فانغلق الشارع تقريبا . كانت تقف لِصقَ رصيفه عربة برهام ( عربة صغيرة مغلقة . المترجم ) صفراء لفتت انتباهي لعلة ما . وحين مررت قربها أطل منها الوجه الذي أريتكه أصيل هذا اليوم ، فتيمني في اللحظة ، وبت طول تلك الليلة أفكر فيه ، وطول النهار التالي . وذرعت ذلك الشارع البائس ذاهبا جائيا أدقق النظر في كل عربة منتظرا رؤية العربة الصفراء إلا أنني ما وجدت مجهولتي الحسناء ، وفي الأخير خلتها محض حلم عرض لي . وعقب حوالي أسبوع كنت أتعشى صحبةَ السيدة دو روستيل . كان الوقت الثامنة إلا أننا لبثنا في حجرة الاستقبال حتى الثامنة والنصف . وأخيرا فتح الخادم الباب معلنا قدوم السيدة الروي . كانت المرأة التي أنقب عنها . ودلفت في أناة شبه شعاعة قمر متزينة بمشد رمادي ، ولفرط مسرتي طلبوا مني أن أقودها إلى حجرة الطعام . 

وبعد قعودنا أبديت في براءة تامة ملاحظة ، قلت : أحسبني رأيتك يا سيدة الروي في وقت ماضٍ في شارع بوند ! 

فامتقع وجهها ، وقالت خفيضة الصوت : رجائي لا ترفع صوتك إلى هذا الحد ! قد يسمعك الآخرون في وضوح . 

فشعرت بتعاسة للبداية المسرفة الرداءة التي صدرت عني ، وانهمكت غير جاد في الحديث عن المسرحيات الفرنسية . وقللت هي من كلامها ، ودائما كان في ذات الصوت الموسيقي الخفيض ، وبدا لي كأنها تخشى شخصا يستمع إليها . ووقعت في غرامها وقوع متدله متبله ، وهاج جو الغموض الرحب الذي دثرها أقوى فضولي حدة وشدة . وعند انصرافها بعد تناول العشاء بوقت وجيز سألتها إن كان ممكنا أن أتصل  بها وأراها ثانية ، فترددت لحظة ، وتلفتت حولها لترى إن كان أحد يرانا ، ثم قالت : نعم . غدا في الخامسة إلا ربعا . ورجوت  السيد دو راستيل أن تحدثني عنها إلا أن كل ما علمته منها أنها أرملة لها بيت بديع في منطقة بارك لين ، وشرعتْ مثل شخص علمي التفكير مضجر في خطبة طويلة عن الأرامل مقدمة أمثلة على كيفية ديمومة الحياة الزوجية المثلى ، وانصرفت بعد ما قالته إلى بيتي . وقصدت تالي يوم  بارك لين في الموعد المحدد ضبطا إلا أن كبير الخدم أنبأني أن السيدة الروي خرجت قبل قليل ، فقصدت النادي تام التعاسة تام الحيرة . وبعد تفكير طويل كتبت إليها رسالة أسألها إن كان ممكنا أن أجرب حظي لزيارتها في أصيل يوم آخر ، فلم أتلقَ منها ردا عدة أيام ، وفي النهاية وصلت منها رسالة قصيرة تقول إنها ستكون في البيت يوم الأحد في الساعة الرابعة ، وذيلت رسالتها بهذه الحاشية المستغربة : " رجائي لا تكتب لي مرة تالية على هذا العنوان ! وسأشرح لك السبب حين ألتقيك . " . واستقبلتني يوم الأحد ، وكانت في كمال سحرها ، ورجتني آنَ مُنصَرَفي إن أتيح لي  أن أكتب إليها ثانية أن أوجه رسالتي إلى : " السيدة نوكس . عناية مكتبة ويتاكر . جرين ستريت . " ، وأضافت : " هناك أسباب لعجزي عن تلقي رسائل في بيتي . " . ولقيتها كثيرا خلال الفصل دون أن يبارحها جو الغموض الذي كان يدثرها ، وخيل لي أنها تخضع لرجل معين إلا أنني ما صدقت تخيلي ؛ لأنها كانت لا يسهل الوصول إليها . والحق أنه كان من الشاق علي أن أنتهي إلى نتيجة في أمرها ؛ ذلك لأنها كانت تشبه تلك البلورات  التي نراها في المتاحف والتي تبدو لنا حينا صافية وحين آخر غيماء . وفي النهاية عزمت أن أسألها أن تتزوجني ؛ إذ عييت وسئمت من السرية الموصولة التي فرضتها على كل زياراتي إليها ، وعلى الرسائل التي كتبتها إليها . فكتبت إليها في المكتبة أسألها إن كان ممكنا أن أراها الاثنين التالي في الساعة السادسة ، فأجابت بالموافقة ، فطرت حتى السماء السابعة ابتهاجا وأملا . لقد فتنت بها على غموضها الذي خلته حينئذ ، وبسببه مثلما أعي الآن . لا ! إنه هو المرأة التي أحببتها . أربكني غموضها ، خبلني ، لم رماني حظي في سبيله ؟!  

صحت بجيرالد : إذن اكتشفته ! 

أجاب : أحسب هذا . احكم بنفسك ! وحين وافي يوم الاثنين ذهبت للغداء مع عمي ، وفي حوالي الرابعة وجدت نفسي في شارع ماري ليبون ، وتعلم أن عمي يسكن في ريجنت بارك . وأردت أن أذهب إلى بيكاديلي ، فقمت باختراق سريع خلال عدة شوارع زرية الحال ،وفجأة رأيت السيدة الروي في وجهي منقبة تنقيبا صفيقا وسريعة الخطا ، ولما انتهت إلى آخر منزل في الشارع ارتقت درجاته ، وأخرجت مفتاحا ودخلته . قلت لنفسي : "هنا السر" ،وعجلت وتفحصت المنزل ،فبدالي أنه مكان تأجير للساكنين ، ورأيت على عتبته منديلها الذي أوقعته ، فالتقطته وأودعته جيبي ، ثم فكرت في ما يجب أن أفعل ،وانتهيت إلى أنه لا حق لي في التجسس عليها ، فقصدت النادي ، وذهبت بعده في الساعة السادسة لرؤيتها ، فوجدتها منطرحة على أريكة لابسة مِبْذَلة قَعدة  الشاي المعقودة ببعض حجارة القمر الزينية الشفيفة التي تلبسها دائما . كانت تامة الحلاوة . قالت : مسرورة تماما لرؤيتك . لم أخرج طول النهار .  

فحملقت فيها مخطوف اللب ، وأخرجت المنديل من جيبي وقدمته إليها . قلت تام الهدوء : أسقطتِه في كمنور أصيل اليوم يا سيدة الروي . 

فنظرت إليه منذعرة دون أن تحاول أخذه . سألتها : ماذا كنت تفعلين هنالك ؟!  

فردت : أي حق لك في سؤالي ؟!  

أجبت : حق رجل يحبك . جئت إليك أسألك الزواج مني . 

فأخفت وجهها بين كفيها وانفجرت في دمع صبيب ، فتابعت كلامي : يجب أن تقولي لي رأيك . 

فقامت ، وحدقت في وجهي مباشرة ،وقالت :لورد مورتشيسون ! ما من شيء أقوله لك . 

فصرخت :ذهبت لمقابلة شخص ما . هذا هو سرك . 

فشحب وجهها شحوبا حادا ، وقالت : ذهبت لغير مقابلة أحد .  

فصرخت : ألا تقولين لي الحقيقة ؟!  

قالت : قلتها . 

فانخبلت ،انسعرت ، ولا أدري ما قلت لها عند ذاك إلا أنني متوثق أنني قلت أشياء مرعبة . وفي الختام هرولت خارجا من المنزل . وفي اليوم التالي كتبت إلي رسالة ، فأعدتها إليها دون أن أفتحها ، وسافرت إلى النرويح صحبةَ آلان كولفيل ، وعدت بعد شهر ، وكان أول نبأ قرأته في جريدة " مورننج بوست " نبأ وفاة السيدة الروي، وعلتها أنها أصابها برد في الأوبرا ، فتوفيت عقب خمسة أيام بداء ذات الرئة ، فأوصدت على نفسي بابي ولم أرَ أحدا . لقد أحببتها حبا موفورا ، أحببتها بجنون عاتٍ . رباه ! لشد ما أحببت تلك المرأة !  

قلت : ذهبت إلى الشارع ، إلى المنزل القائم فيه ؟! 

أجاب :نعم . ذهبت يوما إلى شارع كمنور . لم أستطع منع نفسي من الذهاب إليه . كان الشك يعذبني .دققت الباب ففتحته امرأة وقور السيما  ، فسألتها إن كان لديها حجرات استقبال للتأجير ، 

فأجابت : نعم يا سيدي . حجرات الاستقبال المفترض أنها مؤجرة إلا أنني ما رأيت السيدة المستأجرة منذ ثلاثة أشهر ، وما دامت مهيأة للاستئجار فيمكنك استئجارها . 

قلت مبرزا الصورة : أهي هذه السيدة ؟!  

صرخت :هي . مؤكد ، ومتى ستعود يا سيدي ؟! 

أجبت : السيدة ماتت . 

فقالت : أوه يا سيدي ! آمل لا . كانت أحسن مستأجر عندي . دفعت لي ثلاثة جنيهات أسبوعيا لمجرد أن تقعد في حجرات الاستقبال خاصتي بين وقت وآخر . 

قلت : قابلتْ أحدا هنا ؟! 

فأكدت لي أن الأمر ما كان كذلك ، وأنها كانت تأتي دائما منفردة ، وأنها لم ترَ معها أحدا . 

صرخت : ماذا فعلت هنا إذن بحق الله ؟!  

فأجابت : كانت ببساطة تقعد في حجرة الاستقبال يا سيدي ، وتقرأ الكتب ، وأحيانا تحتسي الشاي . 

فلم أدرِ ماذا اقول ، وأعطيتها تذكارا وابتعدت . والآن ، ما معنى كل ذلك في رأيك ؟! 

أتعتقد أن المرأة كانت تقول الحقيقة ؟! 

_ أعتقد  .  

_ إذن لماذا ذهبت السيدة الروي إلى هنالك ؟! 

أجبت : يا عزيزي جيرالد ! السيدة الروي كانت ببساطة مهووسة بالسرية ،وسكنت تلك الحجرات للتمتع بالذهاب إليها مسدلة النقاب متصورة أنها بطلة . كانت مهووسة بالسرية إلا أنها كانت شخصيا أبا الهول دون أي سر . 

_ أهذا ما تعتقده حقا ؟! 

أجبت :متأكد منه . 

فأخرج العلبة المغربية وفتحها ، وتأمل الصورة ، وقال ختاما : إني لفي حيرة .  

*الكاتب الإيرلندي أوسكار وايلد ( 1854 _ 1900 ) . 

وسوم: العدد 954