وعد الله هو الحق

أ.د. حلمي محمد القاعود

[email protected]

عندما انتصر حزب العدالة والتنمية الإسلامى فى الانتخابات الأخيرة 22/ 7/2007م ؛ فقد رأيت فيه بشارة بانتصار الإسلام بإذنه تعالى ، وأحسست فيه بداية للعمل الإسلامى الواعى الذى يواجه شراسة خصوم الإسلام دون أن يقطر الدم أو تتوزع الأشلاء .. كان الأمر دليلاً على الوعى الذى يحمله المؤمن ، ويواجه به " الجاهليين " الجدد ، الذين يعبدون " الغرب " من دون الله ، ويقدمون القرابين لأصنام خربة العقل والنفس والوجدان ، لاتعرف الرحمة أو الإنسانية ..

لقد زرت استانبول عام 1993م ، ورأيت القمامة تملأ شوارعها ، وعمال النظافة يُعلنون إضرابا شاملاً من أجل مطالبهم وحقوقهم .. ثم رأيت ما هو أعجب ، انتشار النمط الأوروبى فى أحط صوره يسود شوارع استانبول وأحيائها ، الدعارة رسمية ومتاحة فى مداخل الفنادق وعلى الأرصفة ، والخمور تملأ الأماكن التجارية وغير التجارية ، والإباحية تعرض فى صحف ومجلات على الملأ ..وقنوات التلفزة تعرض الأفلام الزرقاء بوصفها أمراً عادياً ...!

بعد تولى " رجب طيب رضوان " وكان عمره 39 عاماً آنئذ – منصب عمدة استانبول راح يحل  مشكلاتها المزمنة ، وواجه الدعارة بشجاعة حين وفر لمن يعملن فيها عملاً كريما ووضعا إنسانيا ، وشجع تجار الخمور على تغيير أنشطتهم .. يومها كان " الغرب " الاستعمارى ينظر إلى هذا العمدة الشاب بريبة وحذر ، ويرى فيه خطراً حقيقياً ، يفوق خطر القاعدة وبن لادن والقمصان الحمر ، لأنه يعتمد العقل والمنطق والإقناع فى تحريك الواقع نحو الأفضل ، فكان أن دخل السجن وتم التشهير به ، وحرمانه من العمل السياسى ، ولكنه استطاع بعد فترة قصيرة أن يعود كرة أخرى ، ويتحول من عمدة استانبول إلى عمدة تركيا كلها من خلال حزب العدالة ،ومع القيود والسدود التى وضعها النظام العلمانى الإرهابي  المعادى للإسلام ، فقد تجاوز كل ذلك بفضل الله ، ثم بفضل الأيدى المتوضئة المنحازة إلى الله ، وليس إلى أصنام النهب الاستعمارى ، فحارب الفساد وأسس للتنمية الحقيقة ، واستطاع أن يناور ليُجنب بلاده عار المشاركة فى الهجوم على بغداد عاصمة الخلافة العباسية وإسقاطها ،ولم يسقط في الفخ الذي وقع بعض تاعرب الأشاوس والنشامى ! وما زال يقف حجر عثرة ضد تفكيك العراق الذى يقوده نفر من الأكراد المستقوين بالشيطان الأكبر والشيطان الأصغر معا .

لست ضد من ينقدون الظاهرة الإسلامية التركية ، ويرون فيها تركيزاً على العمل السياسى ، أكثر من العمل التربوي ، ولكنى ضد من يفقدون الأمل فى انتصار الإسلام داخل البلاد العربية .. لقد حرّك اليهود " أتاتورك " ليعلى من شأن الفكرة الطورانية  والعلمانية ضدالإسلام ، وكان " موئيز كوهين " من أقرب المقربين إلى الغازى ، ومن كبار المنظرين لسياسته ، حتى صار كتابه " طوران " هو الكتاب المقدس للسياسة الطورانية ، لدرجة أن يشير السياسي  البريطانى المعروف سير ونستون تشرشل فى مذكراته إلى أنه اتخذ من كتاب " موئيز كوهين " الذى نشره عام 1914م بعنوان " الطورانية والجامعة الإسلامية " ، مرجعاً وحيداً فى دراسة موقف الدولة العثمانية !

ولست أشك مقدار ذرة واحدة ، فى تحقيق وعد الله بنصرة عباده المسلمين إذا أخلصوا لربهم ، وزرعوا الإسلام فى النفوس والقلوب والعقول . وحوّلوه إلى كيان حىّ يتحرك على الأرض بالأخلاق والعمل والتضحية ، فضلاً عن العبادة .قال تعالى : " يأيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم " ( محمد : 7   ) ، وقال جل شأنه : " إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة تادنيا ، ويوم يقوم الأشهاد " ( غافر :51  ).

لقد استدعى ذهنى الشاعرالإسلامي  التركى العظيم " محمد عاكف " الذى طارده " أتاتورك " وعملاؤه ، فلجأ إلى مصر فى شتاء 1925م ، وعاش فيها إلى أن أدركه الموت عام 1936م .

كان محمد عاكف وسط ظلام العلمانية وهيمنتها على بلاده ، وبلاد إسلامية كثيرة ، يرى الأمل وسط هذا الظلام وتلك الهيمنة . وكان قلمه وشعره دليله إلى هذا الأمل الذى لم يخفت يوماً وإن تحقق بعد رحيله بنحو سبعين عاماً .. وقد ترجم له " محمد حرب " ترجمة ضافية فى كتابه " العثمانيون فى التاريخ والحضارة " ( دمشق 1409 = 1989م ) . وأورد مقتطفات من شعره ، كما كتب عنه آخرون أبرزهم : " عبد الوهاب عزام" و " حسين مجيب المصري " و" محمد رجب البيومى " .

وكان " عاكف " - وهو أفضل كثيراً من الناحية الفنية من الشاعر التركى الشيوعى " ناظم حكمت " ، الذى روّج له الشيوعيون المصريون -  يفهم الإسلام فهما دقيقا ، ويدرك علل المسلمين وأخطائهم ويُبشر بالأمل القادم ، الذى بدت ملامحه فى الظهور على ضفاف البسفور مع بداية القرن الحادى والعشرين .

لقد رأى عاكف فى القرآن الكريم مصدراً أصليا للحركة ، وفى الإسلام نظاماً حياتيا ينظم حياة الأمة والمجتمع ، وأن القرآن :

" لم ينزل ليُقرأ على القبور

ولا ليستخرج منه الفأل "

" ويجب أن نستلهم القرآن مباشرة

ويجب إدراك العصر بقول بالإسلام "

ويحث على الاستفادة بعلوم الغرب وتقنيته ، يقول :

" خذوا علوم الغرب ، خذوا فنونه

وأعطوا مساعيكم أقصى سرعتها

انتبهوا لعلوم الغرب

لأن الحياة بدونها مستحيل ...."

إن " عاكف " الذى يرفض النعرات القومية المتعصبة ويحذر من الغرب وألاعيبه السياسية ، ويدعو إلى الأخذ بالعلم التطبيقى وترك النظريات الفارغة ويحذر من الكتّاب المنافقين الذين لا يلتزمون بالإسلام ، يؤكد على ضرورة اليقظة الإسلامية والوعى بالدين ، ويُبشّر بالأمل دائماً :

" مادام وعد الله لنا هو الحق / فإن فجر الشرق الأزلى ، سيشرق " ، " المؤمن لا يقع فى اليأس ولو قيد ذرة " ، " اليأس مستنقع قذر / لو وقعت فيه لاختنقت ، فاعتصم بالأمل "

ويذكر " محمد عاكف " بفجر الدعوة الإسلامية وكيف استطاع المسلمون الأوائل أن يُغيروا الدنيا :

" انظروا ! كيف صاروا فى ثلاثين عاما؟!! / ملكوا الأرض بتقدم ثلاثين ألف عام / فليرجع المسلمون إلى صدر الإسلام " .. " لن يحيا التركى بدون العربى / وكل من يقول بعكس هذا ، فهو أبله . فالتركى بالنسبة للعربى / عينه اليمنى وساعده الأيمن .. " لندفن الفُرقة فى قبر النسيان "

رحم الله " محمد عاكف " وسدّد خطا المسلمين على طريق الصواب