إعادة الاعتبار لشارل بودلير

محاكمة مشاهير الأدب الفرنسي في القرن 19 

بعد إدانته من طرف محكمة الجنايات ب لاسين

بتهمة تخديش الأخلاق العامة والدينية

إعادة الاعتبار لشارل بودلير

محمد الإحسايني

[email protected]

بعد مثوله أمام محكمة الجنايات بباريس، يوم 10،تموز ،1857 وإنزالها عقوبةعليه تمثلت في 300فرنك غرامة، مما أثقل كاهله، بدعوى تخديشه للآ داب العامة وانتهاك الأخلاق الدينية، انبرى المثقفون في فرنسا بعد وفاته، من خلال جمعيتهم إلى رد الاعتبار لشارل بودلير، من خلال ملتمس تقدموا به إلى العدالة بغية نقض ذلك الحكم، طبقاً لقانون25  9  1946 . من خلال الفارق الزمني بين

الإدانة وإعادة الاعتبار لشاعر عبقري، تكمن تلك المفارقة المتضمنة لكافة التناقضات

الاجتماعية. فيما يلي وقائع الجلسة: تقرير المستشار فالكو:

*** * * * * * *

نظرت الغرفة الجنائية بمحكمة النقض، يوم 31 مايو  أيار 1949 برئاسة السيد باتيستيني، في القضية التي أحالها عليها وكيلها العام بتحريك من وزير العدل، في دراسة ملتمس تقدم به رئيس جمعية الأدباء ، بموجب فانون25 سبتمبر 1949، يطلب فيه إعادة النظر حول حكم محكمة الجنايات

ب سين ، الصادر يوم25 9  1857 القلضي بتغريم شارل بودلير 300 فرنك وتغريم بوليه  ماليسيس، ودوبرواز 100 فرنك لكليهما، وذلك بسبب ارتكاب جنحة الانتهاك الفاضح لعفة الآداب العامة وآداب السلوك بسبب نشر أزهار الشر ، وهو الحكم الذي أوردته لاغازيت دي تريبينو يوم21  8  1857.

تقرير المستشار فالكو

يستند طلب إعادة النظر في محاكمة بودلير التي أنتم اليوم مدعوون للبت فيها على وقائع مقترفة معروفة كثيراً أكثر من اللازم حتى يكون واجباً عليّ أن أتوقف عندها طويلاً .

يكفي أن أذكّركم بأن السنة 1857 كانت سنة الحشمة القضائية الكبيرة، الحشمة التي اختارت اختياراً سيئاً ضحاياها إذ أن فلوبير وبودلير بعد أن جلسا على مقاعد محكمة الجنايات بعد بضعة أشهر فاصلة بينهما، قد اشتركا في فساد الأخلاق، في حين أن شهرة القاضي الذي أنيطت به مهمة هاتين التهمتين ، لم يجن من ذلك سوى شهرة جد عابرة.

ومع ذلك، فلا نكن متشددين جداً فيما يتعلق بالوكيل بينار وزملائه في عهد الإمبراطورية الثانية العديمي التأثر بفتنة أشعار تشدوب "الأ لعاب اللاتينية، والملاذ اليونانية"...كيف سيعاب عليهم أنهم قد أطاعوا بصرامة تشريعاً كان يقمع لا فقط انتهاك عفة الآداب العامة والأخلاق الدينية؟ كيف يلامون إذ أنهم كانوا مصدومين بتفتح أزهار الشر بأنهم لم يكونوا قد توقعوا أن خَلَفَهم من الأجيال القادمة قد يظل فاقد الإحساس بنماء أزهار السوء التي غزت الأدب منذ ذلك الحين؟

بدون شك، فإن الزمن فعل فعله، فأمام ليدي شاترلي التي احترمتها العدالة،كانت مدام بوفاري، على عكس ذلك، قد جُرجرتْ في المحكمة، فلنلاحظْ ببساطة أننا تمكنا اليوم، في مادة انتهاك عفة الآداب العامة من خلال صوت الديوان، في مرحلة من عدم الاكتراث القضائي الكبير .

وبالرغم من أنه عوض تصاعد المد لخلاعيةٍ ذات مطمح أدبي، فإن المرء يعاني شيئاً ما، من ملامة الخلاعة، وهويدافع عن بودلير وأزهار الشر، وهوالانطباع الموهم بالتناقض من أجل الترافع عن كتاب من المكتبة الوردية، وبتخصيص جائزة للفضيلة .

ويمكننا أن نتساءل أيضاً فيما إذا كان ذلك الإجراء ضرورياً وهل لا يخاطر بأن يظهر أقل كمخصص لغسل الشاعر من قرار تجريم نقضه بعد، حكم المثقفين و قرار الأجيال القادمة لإعادة الاعتبار للعدالة عن الحكم الذي أصدرته.

مهما يكن من أمر؛ فإنه قد عُرض عليكم بطريقة منتظمة من طرف وكيلكم العام، وبإذن صريح من وزير العدل، متقاضياً ملتمس إعادة النظر الذي قدمه رئيس جمعية الأدباء، داخل الشرط الثابت لقانون 25سبتمبر 1946 .هذا القانون الذي يتضمن مادة فريدة، هو بالتالي منصوص فيه على: " يمكن أن يُطلبَ 20 سنة بعد أن يصبح الحكم نهائياً، إعادة النظر في حكم صدر بسبب انتهاك عفة الآداب العامة المقترف عن طريق الكتاب . ويخص حق الملتمس في إعادة النظر فقط، جمعية المثقفن بفرنسا

فتحرك الدعوى إما بواسطة مكتبها الإداري وإما عن طريق تقديم ملتمس من الشخص المحكوم عليه،

وإذا كان هذا الأخير قد توفي، فالملتمس تقدمه زوجته وأحد من ذريته ، وفي حال عدم وجود أهله، فالحق في تقديمه لأ قرب المقربين إليه من قرابة الحواشي. وسيرفع هذا الملتمس إلى محكمة النقض بواسطة مدعيها العام ، بموجب الأمر الصريح من وزير العدل الذي منحه له .وستبت نهائياً في الجوهر كقضاء مخول له سلطة تقديرية وسيادية"

هدفها ، أيضاً ، أيها السادة، التصريح،تحت الضمانات الأكيدة، بإلغاء القرارات التي، خلال التصرف القضائي الإمبراطوري لأعوامٍ ٍ، وتطور الأفكار، من شأنها أن تظهر مشوبة بالأخطاء . إن إعادة اعتبار معنوي ما، يكشف عن بيان الأسباب:" فد يكون مقرراً بإجماع الرأي، ولا يشكل التكفير عنها ما يمكن أن يعطى للكاتب المظلوم المحكوم عليه بها،ولذاكرته،ولوارثيه ."ويضيف صاحب هذا البيان أنه إذا كان تسامح النيابة العامة يبرهن أن القضاة هم أول من اهتم بوقتية السلطة التي ترتبط ببعض الأحكام الصادرة خطأ ًبهذه الطريقة، فليس منها ما هو أقل صحة سوى ما هو ضد الأعمال المدانة كذلك، وتبقى الممنوعات والمتابعات ممكنة قضائياً .إن الهدف الذي يصبو إلى بلوغه القانون هو إذن، نعمل على تغييب ذلك التهديد جاعلين الحق يتفق مع الواقع،والقرار الذي يدعوكم اليوم الوكيل العام أن تنقضوه  هو الحكم الذي صدر يوم 20غشت 1857 عن الغرفة السابعة للمحكمة الجنائية ب لا سين ضد بودلير، وضد الناشريْن:بوليه- مالاسيس،و برواز.و كانت نسخة الحكم الأصلة لهذا الإجراء قد أ ُتلفت 1871 أثناء الحريق الذي اندلع في مكاتب الضبط لقصر العدالة بباريس ، غير أنكم تجدون لها أثراً في العدد 21غشت 1857 من صحيفة "لاغازيت دي تريبونو" التي تبين نص الحكم وهي بين أيديكم .

أما بالنسبة للوثائق الأساسية، يعني الأشعار المدانة؛ فبالرغم من إدانتها ومنعها ، وهي مازالت متأثرة بذلك، فإنها تمثل اليوم موضع شرف مع " أزهار الشر" في جميع المكتبات .فأنتم تمتلكون إذن، الوثائق الضرورية لتصدروا حكماً ما، وأنتم تدركون السبب بعد مراجعة تاريخية ستأذنون لي بالقيام بها في إيجاز.

لقد طهر في بداية يوليوز 1857 لأول مرة، العمل الأدبي الذي وصفه فيكتور هيغو بأنه أحدث "ارتعاشة جديدة،" وبعد حين على وجه التقريب،ظهرت قبلُ، بعض المقالات ذات عنف متجاوز الحد، ومفتعلة ،في الجريدة" لوفيغارو" المحترمة جدا ُ لكن الجريدة أصبحت منذ ذلك الحين أكثر اعتدالاً  أعطت تلك المقالاتُ الإشارة بقدوم العاصفة. و يضج منها وزير الداخلية، فلعله يحلم بأن ينتقم من تبرئة المحكمة لفلوبير، وهويحصل على إدانة شاعر لعدم وجود حكم يدين رومنسياً؛ سيثير الفضيحة من جديد .وقد كتب بودلير عبثاً إلى فاضل من أعضاء تلك الحكومة ليؤكد بأن ديوانه " لا ينم إلا عن الهول والرعب للشر" ؛ فهوى سيف العدالة بهذا المقت على المؤلف وعلى الذين كانوا قد أبرزوه للوجود .

مثُل الجانحون يوم الخميس 20غشت 1857 أمام محكمة الجنايات. المناقشات بالتحديد نعرف عنها شيئاً قليلا، لأن القانون كان يمنع نشر محضر الجلسات من هذا النوع ، لكن نعرف عنها من خلال صك الاتهام، ووقائع الدعوى المنشورة في " مجلة المحاكمات الكبرى المعاصرة" :

Revue des grands procès contemporains 1885p387

ونعرف أنه لما أخذ العبرة من فشله الحديث العهد، ضد"مدام بوفاري"، فإن الوكيل بينار، بعد أن قرأ مقتطفات من الديوان التي كان يراها أكثر جرأة، كشف عن مصطلحات معتدلة، لكن بدون تفخيم قائلاً إن مخاطر العطر ناجمة عن بعض الأزهار: " تسري إلى الرأس،وتثمل الأعصاب، وتحدث الاضطراب، والدوار، ويمكن أن تقتل أيضاً". عبثاً، ربما قد انسحق الأستاذ شي دوشانج ، ابن المدعي العام قليلاً بهذا الا سم الكبير ، فاصدر نداءً، حول نصائح سانبت بوف، في المثال للحريات المقتبسة قبلاً، بالحشمة من فولتير، وجان جاك روسو، وبيرانجيه،وموسيه،بل حتى من مونتيسكيو، ولامارتين . لم يحدث هناك شيء .عقوبة غرامة كانت قد فرضت على الشاعر، وعلى كلا مشاركيه لكونهما ناشرين لل" أزهار الشر" : اقترقوا كاتباً وناشريْن جنحة انتهاك عفة الأخلاق العامة وآداب السلوك.[ إلغاء القصائد المرقم:20 ، 39 ،80 ،81 ،87 من الديوان كان منتظماً.] وأخيراً أدين الأظناء بصائر التصفية ب:

35، 17 فرنك، وفي أحسن الأحوال 3 فرنكات لأجل حقوق البريد!

وبالتالي، فإن الغرامة ثقيلة على محفظة بودلير ، وقد خفضت إلى 50 فرنكاً ، ومنذ ذلك الحين ، صارت القصائد محظورة ببطء، ولكنه نجاح مكين. أولا ً ألغيت من الطبعة الثانية من أزهار الشر، على أن رضا المؤلف أدمي في كبريائه، بالرغم من الرسالة التي كان قد وجهها من أعلى صخرته الاغترابية من غيرنيزي ليبدي فيها ارتياحه من الحكم عليه، فقد ظهرت القصائد المحظورة بعد تسع سنوات ببلجيكا في صفيحة {مطبعية} معنونة ب البقاياا"  سقط المتاع  التي كان بوليه- ملاسيس قد جرب فيها مبادرته، وهو في وضعية مالية سيئة كلفته أمام محكمة مدينة ليل حكماً بسنة سجناً

و 500 فرنك غرامة . لكن في النهاية، بعد موت الشاعر، وبعد زمن ما من العذاب، لمعت القصائد الجهنمية في سماء الأدب، تارة في فصل منعزل، وفي أغلب الأحيان في مكانها الأصلي في الطبعات وفي إعادات الطبع المتعاقبة ل أزهار الشر بدون أ ن يخطر على بال العدالة أن تتخوف منها .

واليوم ، أيها السادة، بالرغم من الحكم الذي أدان هذه القصائد بسبب فساد أخلاقها، فأنتم، لو أستطيع أن أدعي، أمام ارض بكر، أن قانون 1946يجعل منكم،في المادة ، سلطة قضائية حقيقية للحكم، مخولة، للبت نهائياً في الجوهر بسلطة سيادية تقديرية .

وعلى عكس عوائدكم، فليس لكم هنا سوى أن تنطقوا بالحق، بل أن تحكموا أيضاً على الواقعة. فهل تشكل القصائد المدانة حقاً، انتهاكاً لعفة الأخلاق العامة وآداب السلوك، فهذا هو المطلوب منكم، وأنتم تتسلون بالنثر المتجهم في " نشرتكم الجنائية" لحساب جوازات الشعر الشبقي ، فعليكم أن تتحققوا في ذلك من جديد، لكن هذه المرة، بشكل نهائي.

أكيد، أنني غير مزكىً لأن أحلل أمامكم القصائد الست التي يعرفها الناس جميعاً، والتي سبق لكم أن قرأتموها والتي ستعيدون قراءتها أيضاً قبل إصدار حكمكم . لم يبق ثمة مايقال عن بودلير وروحانيته المتوهجة المختفية وراء واقعية أشعاره . كذلك، فإن الأمر يتعلق ب " المجوهرات"و وب "الليتيه"* النسيان  و" إلى اللائي هن مرحات"*  كذا  و "السحاقيات"، و"نساء معذبات"أو " مسوخات مصاص دماء ما ، إنني أعتقد بأنه لكي"تحتد أشياء الحب بالمزج بالرزانة" فيه مجازفة باستحقاق الملامة البودليرية، ونستطيع أن نعلن اليوم أن هذه القصائد لم تكن تتجاوز في صيغتها التعبيرية، الحريات المرخص بها لشاعر عبقري، وأنها في الجوهر،بعيدة عن انتهاك عفة الأخلاق، لقد كانت من استلهام رزين، فما زالت تتضمن في ميزتها المتوهجة، الدرس الذي يستخلص من تناقضات نفس منزعجة ومن روح معذبة، بعضها أصبح خالداً، وقد عرفت في نهاية الأمر مكاناًً من بين أروع قصائد اللغة الفرنسية والأعمال الشعرية الكبرى في جميع العصور .

لم يبق شيء من العناصر التي اعتبرها اجتهادكم القضائي دائماً ضروريات لتُشكل الانتهاك لعفة آداب السلوك من خلال الديوان، يعني بالإضافة إلى النشر، خلاعة الكتابة والقصد الآثم للكاتب، [فشرع يستشهد بالنصوص القانونية المنشور ة في النشرات القضائية في ذللك الإبان ] : [نقض جنائي............................................................... ............

7 نوفمبر 1879 نشرة جنائية رقم 342، 14 مارس 1889 ،نشرة جنائية صفحة 159 ، 17 نوفمبر 1892 ،نشرة جنائية صفحة 449 ؛28 سبتمبر 1911 ، نشرة جنائية صفحة870 .]إن قصاة 1857من خلال تناقض غريب من الأسباب، أبعد

عن تأكيد تلك الإرادة الجنحية التي إثباتها مع ذلك متطلب من خلال قراراتكم، وعلى العكس فقد كان الإثبات القضائي أعلن أنه بالرغم من نوايا الشاعر، والجهود التي بذلها للتخفيف من تأثير أهوائه،فإنها " كانت تقوده إلى تهييج الشهوات من خلال واقعية فاحشة ومخدشة للحشمة." لكن تلك البذاءة وتلك السلطة الناعوظية[ المثيرة للشبق]، لايستطيع أهل زماننا المثخنون جروحاً بدون شك أن يكتشفوها فيه، بحيث إن الجنحة المأخوذة على مؤلف أزهار الشر وناشرَيْه، لا يمكن بتاتاً أن تعتبر قائمة قضائياً لا على صعيد الوقائع، ولا على صعيد النوايا .

وعليه، فإنني أناشدكم أن تقبلوا هذا الملتمس المقدم إليكم ناقضين حكم يوم 20غشت 1857 مريحين ذكرى بودلير وضمير بوليه- مالاسيس ودوبرواز، من الحكم الصادر ضدهم. .

إن ذلك يجعلكم تصححون خطأً ارتكبه قضاة مخدوعون بروح عصرهم حول عمل أدبي نحت من الزمن وجهه الحقيقي، وتكشفون لظلال روح الشاعر الذي بدون أن ينتظر أربعاً وعشرين ساعة للعنها، كان يكتب عشية مثوله أمام المحكمة: " رأيت قضاتي بشعين بصورة بغيضة فروحهم تشبه وجههم ".فالعدالة

هي على الأقل بدون حقد، وأخيرا فإنكم ستعيدون عطرها الحقيقي لهذه الأزهار الملعونة، الهدف الشقي لمتابعة غير عادلة كان فنانها الجريح ربما نافلة القول: إنها تبدو له بالخصوص ك" مناسبة لسوء تفاهم"